من النواحي الثلاث الأخلاقية، والاجتماعية،
والاقتصادية قبل التفصيل نتساءل: ما هي الأسباب المعقولة لهذا التحريم الصارم
للمعاملة الربوية؟ وهل الحياة الاقتصادية في حالتها الحاضرة تعد ظرفاً
استثنائياً يرخص فيه بمخالفة هذا التشريع الإلهي؟.
أما المسألة الأولى وهي مسألة معقولية النهي
عن الربا أو عدم معقوليته فإنها قد أثيرت في عهد النبي(ص) على لسان العرب
أنفسهم، فقد استثكروا هذه التفرقة بين البيع والربا قائلين: إذا أنتم منعتم
ربح القرض فأمنعوا كذلك ربح يجتلب عن طريق البيع إذ هما سواء، وقالوا إن
البيع مثل الربا، وكان رد القرآن عليهم بتلك الكلمة الحاسمة التي لا تقبل
مراء، ولا جدالاً فقال لهم أنه ليس البيع مثل الربا(وأحل الله البيع وحرم
الربا) (البقرة: 275).
وأمر التشريع هنا لم يصدر عن إرادة جبروتية
تقضي أحكامها بالتحكم والتعنت، فقد علّمنا القرآن في غير موضع أن الأوامر
الإلهية أنزه من أن تقع في هذا الحرج والعنت؛ فقال الله تعالى (قل إنما حرم
ربي الفواحش) (الأعراف: 33)، وقال(اليوم أحل لكم الطيبات) (المائدة: 5)،
وقال(ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم
لعلكم تشكرون) (المائدة: 6).
فيجب إذن أن تكون لهذا النهي دعائم قوية
وأسباب معقولة تجعله في مكانة من الصواب والحكمة، فما تلك الدعائم؟
1- الدعائم الأخلاقية:
أول ما يكشفه الباحث من أسرار هذا التشريع في
هذا الباب هو بواعثه الأدبية الخلقية؛ حيث أن الضمير الإنساني يدرك مدى الفرق
بين الربح عن طريق المعاملة في البيع، والربح عن طريق المجاملة، فإن الإنسان
ليدرك ذلك ويحسّه حتى في الوقت الذي لا يستطيع التعبير عنه، فإن لم يدركه
فإنما ذلك من غشاوة الهوى وحب الأثرة أو الغفلة وعدم التدبر، أليس كل واحد
منا يستنكف من أن يطالب بتعويض مالي عن عوض يسديه لمن يحتاج إليه؟، أو عن
مساعدة أدبية يقدمها لغيره عملاً بقواعد حسن الجوار وأدب الاجتماع؟. فلماذا
يختلف النظر في الأمر حينما تكون المعاونة على وجه القرض (للأشياء التي يمكن
أن تُرد بمثلها)؟ مع أن الشأن في الحالين واحد، وهو أنهما يختلفان عن البيع
اختلافاً جوهرياً، ذلك أن البيع يتعلق بمالين مختلفين لكل منهما قيمته التي
تزيد أو تنقص عن قيمة الآخر، إما بسبب اختلاف الرغبات، وإما بحسب قانون العرض
والطلب، بينما المقصود في القرض كما في الإعارة هو استرداد الشيء نفسه إما
عيناً أو بشيء مماثل له تماماً من جنسه، فليس ها هنا أدنى قصد للمبادلة بين
مالين؛ ولذلك ليس للمقرض أن يرفض حاجته نفسها التي أعارها له المقترض عند
الأجل بحالته التي تسلمها عليها.
وهناك مفهوم إسلامي للمصلحة، فإن المصلحة
بالنسبة للمؤمن بالله واليوم الآخر لا تنحصر في هذه الدنيا، بل بعض المصالح
ينالها المؤمن في هذه الدنيا والبعض الآخر في الدار الآخرة كثواب، وعليه
نقول: للمؤمن دفترا توفير أحدهما في الدنيا، وثانيهما في الآخرة، فربح البيع
يسجل له في دفتر الدنيا، وربح القرض يسجل في دفتر القيامة، والمؤمن لا يتجاهل
هذه الحقيقة، ولا يغفل بسبب الأهواء عن رصيد القيامة، لأنه يعرف ويعلم علم
اليقين أن الإنسان الذي ليس له رصيد في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون فإنه
يجد الحسرة والندامة.
وقد تقدم أن القرض من باب الصدقة، وهو في
المرتبة الثالثة من أنواع الصدقات، فالمؤمن لا يرى أنه خاسر عندما يقرض أخيه
مبلغاً ليرده له بمقداره ومثله.. وعندما غُيبت هذه المفاهيم وأصبحت نظرة
الناس للمعاملة بالقرض نظرة مادية، رجعوا إلى مفاهيم الجاهلية التي ادعت أن
البيع مثل الربا؛ فالمكافأة في نظر الإسلام على الأعمال كما تكون في الدنيا
تكون في الآخرة، حيث قال الله تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة،
ولا تنس نصيبك من الدنيا) ثم إن الربا يميت في
الإنسان حاسة الرحمة ووجدان العطف ودوافع الشفقة، فيجعل من الإنسان عضواً
سيئاً في بناء المجتمع ويتصرف كالذي مسه الجن، ويكون همه التفرس في وجوه ذوي
الحاجة والفقر ليقتنص مصالحه المادية، ولا تعرف الرحمة الإنسانية طريقاً إلى
قلبه أو وجدانه، وهذه من أبرز صفات المرابي سواء أكان فرداً أم هيئة اعتبارية
كالبنوك وما شابه.
2- الدعامة الاجتماعية:
إن حياة المجتمع تصبح حياة لا تطاق لو راح كل
فرد يتمسك بحقه في أدق حدوده، دون أن يجعل على نفسه سلطاناً لفكرة البر
والتعاون والتضامن والتراحم، والربا - كما قدمناه - من أبرز سماته أنه يقلب
موازين الأشياء بوضع القيم الإنسانية موضعاً نازلاً، وتفضيل القيم المادية
عليها، بل أنه يمس بناء الجماعة مساساً عنيفاً وعميقاً، ذلك أننا بهذه
الوسيلة نزيد من الفاصلة والهوة بين طبقات الشعب، بتحويل مجرى الثروة
وتوجيهها إلى جهة واحدة معينة بدلاً من أن تشيع المساواة في الفرص بين
الجميع، وأن نقارب بين مستويات الأمة حتى يكون ذلك أقرب إلى التجانس والوحدة؛
والسمة البارزة في التشريع القرآني هي الحيلولة دون هذا الاستئثار برأس المال
على حساب الجمهور الكادح، ومبدأ تحقيق التجانس والمساواة بين أفراد الأمة،
وقد أبرز القرآن الكريم هذه السياسة بقوله تعالى (كي لا يكون دولة بين
الأغنياء منكم) (الحشر: 7).
3- الدعامة الاقتصادية:
وهذه الدعامة تظهر في الآثار المترتبة على
التعامل بالربا، فعن طريق هذه المعاملة تتجمع الأموال وتتركز في أيدي فئة
قليلة، وبذلك تتحقق لها السيطرة على اقتصاديات المجتمع، وتمتد هذه السيطرة
إلى سياسة المجتمع الداخلية والخارجية، وإلى تشريعات المجتمع بل وإلى
أخلاقياته، وأسلوب تفكيره، بما يحرزوه من سيطرة على وسائل الإعلام، وتوجيه كل
هذه القوى في الاتجاه الذي يكفل لهم المزيد من الثراء، ويدعم لهم المكانة
الرفيعة التي اغتصبوها، ويضحون في سبيل ذلك بالمصالح الحقيقية للشعوب التي
يعيشون بين ظهرانيها، وهذه هي من جملة الآثار المترتبة على الربا، خاصة إذا
قُدر للمرابي السيطرة على مراكز المال في المجتمع.
أما من جهة المنتج الذي يقترض المال بالربا
فتترتب على عمله هذا آثار أخرى منها:
1- غلاء أسعار السلع التي ينتجها المقترض، إذ
المنتج يضيف فائدة القرض إلى تكاليف إنتاج السلع التي يشتريها المستهلكون؛
فكأن المجتمع هو الذي يدفع الفائدة الربوية.
2- المجتمع يدفع الفائدة الربوية إذا ظلت
دورة الرخاء التي اعتمد عليها المنتج قائمة، وإذا ظل مستوى الطلب على السلعة
منخفضاً بسبب ارتفاع ثمنها نتيجة لإضافة الفائدة الربوية، فإن الوضع يختلف إذ
يؤدي ارتفاع الثمن إلى انحسار الاستهلاك تدريجياً فيبقى فائض من المنتجات
بغير تفريغ، وهذا الفائض له عواقبه.
3- المنتج إذا أراد تخفيض تكاليف الإنتاج
التي ارتفعت بسبب إضافة الفائدة الربوية إليها، فإنه لا يجد أمامه إلا أجور
العمال فيسعى إلى تخفيضها، أو إلى الاستغناء عن بعضهم. أما الاستغناء عن
بعضهم فيؤدي إلى خلق البطالة، وأما تخفيض أجور العمال فيؤدي إلى نقص القوة
الشرائية في المجتمع، وفي الحالتين يزداد الاستهلاك انحساراً ويزداد فائض
المنتجات فتنشأ الأزمات الدورية التي صارت لازمة من لوازم الاقتصاد الغربي.
4- السعي إلى تصريف فائض الانتاج يؤدي إلى
البحث عن أسواق خارجية، وأكثر هذه الأسواق موجود في البلاد المتخلفة غير
الصناعية، ولا سبيل إلى الدخول لهذه الأسواق إلا ببسط نفوذ الدول الصناعية عن
طريق الاستعمار العسكري أو الفكري أو الأخلاقي وغيره..
تنتقل بلايا الربا من مجتمع محلي إلى
المجتمعات الإنسانية كلها كما ثبت أن التنافس الاستعماري كان من الأسباب التي
أشعلت حربين عالميتين في أقل من نصف قرن، وقد يؤدي إلى الثالثة فضلاً عن
تحريكه للحروب الجزئية من وقت لآخر.
5- إذا أخفق المنتجون المقترضون بالربا في
تخفيض أجور العمال، لجئوا إلى وسيلة أخرى هي تخفيض أثمان المواد الأولية التي
تعتمد عليها صناعاتهم، والتي يستوردون أكثرها من البلاد المتخلفة غير
الصناعية؛ ولذلك فقد تتآمر الدول الصناعية بتكتلاتها الاحتكارية على تخفيض
أثمان المواد الأولية، غير مكترثة بالأضرار الفادحة التي تصيب بها الجانب
الأكبر من سكان الأرض.
هذه بعض الأضرار التي تكبدتها البشرية كلها
من جراء تجويز الفائدة الربوية على القروض الانتاجية (وقد ندد كثير من علماء
الاقتصاد في الدول الرأسمالية بالفائدة على أنها هي سبب ويلات الحروب الطاحنة
للبشرية وسبب الأزمات الاقتصادية الخانقة)(9).
وهذا تصديق لقوله تعالى(يا أيها الذين آمنوا
اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب
من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) ( البقرة:
278-279).
أما المسألة الثانية، وهي حكم الربا في وقتنا
الحاضر، وهل له ما يبرر تعاطيه؟. فإن من المعلوم لدى كل مسلم أن الإسلام قد
وضع إلى جانب كل قانون قانوناً يقوم على الضرورة التي تبيح المحظور في حالة
السعة واليسر، فقد قال الله تعالى(وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم
إليه) (الأنعام: 119).
وعلماء الإسلام حددوا معنى الضرورة الشرعية
التي تبيح للإنسان الانتقال من الحكم الصعب إلى الحكم السهل لقيام السبب
المبيح.
ولأجل أن يكون تطبيق قانون الضرورة على مسألة
ما تطبيقاً مشروعاً، لا يكفي أن يكون المرء عالماً بقواعد الشريعة، بل يجب أن
يكون له من الورع والتقوى ما يحجزه عن التسرع في تطبيق الرخصة على غير
موضعها، كما يجب أن يبدأ باتخاذ كل الحلول المشروعة في الإسلام، فإنه إن فعل
ذلك فعسى ألا يجد حاجة للترخيص أو الاستثناء، وهذه هي سنة الله في أهل
العزائم من المؤمنين الذين آمنوا وكانوا يتقون(ومن يتق الله يجعل له مخرجاً،
ويرزقه من حيث لا يحتسب) (الطلاق: 2-3).
هذه هي بعض مبررات تحريم المعاملة الربوية
التي حرمها الله وأنذر فاعليها بالحرب من الله ورسوله. |