القائمة الرئيسية
الصفحة الرئيسية الصفحة الرئيسية
القران الكريم القران الكريم
أهل البيت ع أهل البيت ع
المجالس    المحاضرات
المجالس   اللطــــميات
المجالس  الموالــــــيد
الفيديو   الفــــــيديو
الشعر القصائد الشعرية
مفاهيم اسلامية
اسال الفقـــيه
المقالات المقـــــالات
القصص الاسلامية قصص وعبر
القصص الاسلامية
الادعية الادعيةوالزيارات
المكتبة العامة المكتبة العامة
مكتبة الصور   مكتبة الصور
مفاتيح الجنان مفاتيح الجنان
نهج البلاغة   نهج البلاغة
الصحيفة السجادية الصحيفة السجادية
اوقات الصلاة   اوقات الصلاة
 من نحــــــن
سجل الزوار  سجل الزوار
اتصل بنا  اتصــــل بنا
  مواقع اسلامية
خدمات لزوار الموقع
ويفات منوعة ويفات منوعة
ويفات ملا باسم الكلابلائي ويفات ملا باسم
ويفات ملا جليل الكربلائي ويفات ملا جليل
فلاشات منوعة فلاشات مواليد
فلاشات منوعة فلاشات منوعة
فلاشات منوعة فلاشات احزان
ثيمات اسلامية ثيمات اسلامية
منسق الشعر
فنون اسلامية
مكارم الاخلاق
كتب قيمة
برامج لكل جهاز


قليل من وقتك رشحنا لافضل المواقع الشيعية ان احببت شكر لكم

  

 

( 209 )

[ 91 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
لمّا أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان


     دَعُوني وَالْـتَمِسُوا غَيْرِي; فإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَأَلْوَانٌ; لاَ تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ، وَلاَ تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ(1)، وَإِنَّ الاْفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ(2)، وَالْـمَحَجَّةَ(3) قَدْ تَنَكَّرَتْ(4)
.
     وَاعْلَمُوا أَنِّي إنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَعَتْبِ الْعَاتِبِ، وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ; وَلَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَأَطْوَعُكُمْ لِمنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ، وَأَنَا لَكُمْ وَزِيراً، خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً!

[ 92 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)


[وفيها ينبِّه أَمير المؤمنين على فضله وعلمه ويبيّن فتنة بني أُميّة]


     أَمَّا بَعْد، أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنِّي فَقَأْتُ(5) عَيْنَ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِىءَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا(6)، وَاشْتَدَّ كَلَبُهَا(7)
.
     فَاسْأَلُوني قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَسْأَلُوني عَنْ شَيْء
____________
     1. لاتثبت عليه العقول: لا تصبر له ولا تُطيق احتماله.
     2. أغَامَتْ: غُطّيَتْ بالغيم.
     3. المَحَجّة: الطريق المستقيمة. 4. تنكّرت: تغيرت.
     5. فَقَأتها: قَلَعْتُها، تمثيل لتغلّبه عليها.
     6. الغيْهَب: الظلمة. وموجها: شمولها وامتدادها.
     7. الكَلَب ـ محركة ـ : داء معروف يصيب الكلاب، فكل من عضته أُصيب به فَجُنّ ومات إن لم يُبادَر بالدواء.


( 210 )


فِيَما بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ السَّاعَةِ، وَلاَ عَنْ فِئَة تَهْدِي مائةً وَتُضِلُّ مائةً إِلاَّ نَبَّأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا(1) وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا، وَمنَاخِ(2) رِكَابِهَا، وَمَحَطِّ رِحَالِهَا، وَمَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلاً، وَمَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً.
     وَلَوْ قَدْ فَقَدْتُمُونِي وَنَزَلَتْ كَرَائِهُ(3) الاُْمُورِ، وَحَوَازِبُ(4) الْخُطُوبِ، لاََطْرَقَ كَثِيرٌ مِنَ السَّائِلِينَ، وَفَشِلَ كَثِيرٌ مِنَ المَسْؤُولِينَ، وَذلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ(5)، وَشَمَّرَتْ عَنْ سَاق، وَضَاقَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ضِيقاً، تَسْتَطِيلُونَ أَيَّامَ الْبَلاَءِ عَلَيْكُمْ، حَتَّى يَفْتَحَ اللهُ لِبَقِيَّةِ الاَْبْرَارِ مِنْكُمْ.
     إِنّ الْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهِتْ(6)، وَإِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ، يُنْكَرْنَ مُقْبِلاَت، وَيُعْرَفْنَ مُدْبِرَات، يَحُمْنَ حَوْمَ الرِّيَاحِ، يُصِبْنَ بَلَداً وَيُخْطِئْنَ بَلَداً.
     أَلاَ وَإِنَّ أَخْوَفَ الْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فَتْنَةُ بَنِي اُمَيَّةَ، فإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ
____________
     1. ناعِقُها: الداعي اليها، من نَعَقَ بغنمه صاح بها لتجتمع.
     2. المُناخ ـ بضم الميم ـ : محلّ البُرُوك.
     3. الكَرَائِهُ: جمع كَرِيهة.
     4. الحَوَازِب: جمع حازِب، وهو: الامر الشديد، حَزَبَهُ الامرُ إذا أصابه واشتدّ عليه.
     5. قلّصت ـ بتشديد اللام ـ : تمادَتْ واستمرت.
     6. شَبّهَتْ: اشتبه فيها الحق بالباطل.


( 211 )


مُظْلِمَةٌ: عَمَّتْ خُطَّتُهَا(1)، وَخَصَّتْ بَلِيَّتُهَا، وَأَصَابَ الْبَلاَءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا، وَأَخْطَأَ الْبَلاَءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا.
     وَايْمُ اللهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوْء بَعْدِي، كَالنَّابِ الضَّرُوسِ(2): تَعْذِمُ(3) بِفِيهَا، وَتَخْبِطُ بِيَدِهَا، وتَزْبِنُ(4) بِرِجْلِهَا، وَتَمْنَعُ دَرَّهَا(5)، لاَ يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لاَ يَتْرُكُوا مَنْكُمْ إِلاَّ نَافِعاً لَهُمْ، أَوْ غَيْرَ ضَائِر بِهِمْ، وَلاَ يَزَالُ بَلاَؤُهُمْ حَتَّى لاَ يَكُونَ انْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ إِلاَّ مثل انْتِصَارِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ، وَالصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ، تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ(6) مَخْشَيَّةً(7)، وَقِطَعاً جَاهِلِيَّةً، لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدىً، وَلاَ عَلَمٌ يُرَى(8)
.
    
____________
     1. الخُطّة ـ بالضم ـ : الامر. و«عمّت خُطتها»: أي شمل أمرها لانها رئاسة عامة.
     2. النّاب: الناقة المُسِنّة. والضَروس: السيئة الخُلُق تعَضّ حالبها.
     3. تَعْذِمُ: من عَذَمَ الفرسُ: إذا أكل بجفاء أوعَضّ.
     4. تَزْبِنُ: تضرب.
     5. دَرّها: لبنها، والمراد خيرها.
     6. شَوْهاء: قبيحة المنظر.
     7. مَخْشِيّة: مَخُوفة مرعبة.
     8. عَلَم: دليل يهتدى به.


( 212 )


نَحْنُ أَهْلَ الْبِيْتِ مِنْهَا بنجاة، وَلَسْنَا فِيهَا بِدُعَاة، ثُمَّ يُفَرِّجُهَا اللهُ عَنْكُمْ كَتَفْرِيجِ الاَْدِيمِ(1): بِمَنْ يَسُومُهُمْ خَسْفاً(2)، وَيَسُوقُهُمْ عُنْفاً، وَيَسْقِيهِمْ بِكَأْس مُصَبَّرَة(3)، لاَ يُعْطِيهِمْ إِلاَّ السَّيْفَ، وَلاَ يُحْلِسُهُمْ(4) إِلاَّ الْخَوْفَ، فَعِنْدَ ذلِكَ تَوَدُّ قُرَيْشٌ ـ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ـ لَوْ يَرَوْنَنِي مَقَاماً وَاحِداً، وَلَوْ قَدْرَ جَزْرِ جَزْور(5)، لاَِقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ الْيَوْمَ بَعْضَهُ فَلاَ يُعْطُونِيهِ!

[ 93 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)

[وفيها يصف الله تعالى ثمّ يبين فضل الرسول الكريم وأهل بيته ثمّ يعظ الناس]


[الله تعالى]


     فَتَبَارَكَ اللهُ الَّذِي لاَ تَبْلُغُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ، وَلاَ يَنَالُهُ حَدْسُ الْفِطَنِ، الاَْوَّلُ الَّذِي لاَ غَايَةَ لَهُ فَيَنْتَهِيَ، وَلاَ آخِرَ لَهُ فَيَنْقَضِيَ.
    
____________
     1. الاديم: الجلد. وتفريجه: سلخه.
     2. يَسومُهم خَسْفاً: يُولِيهم ذلاًّ.
     3. مُصَبّرة: مملوءة إلى أصبارها جمع صبر ـ بالضم والكسر ـ بمعنى الحرف: أي إلى رأسها.
     4. من أحْلَس البعيرَ: إذا ألبسه الحِلْس ـ بكسر الحاء ـ وهو كساء يوضع على ظهره تحت البرْدَعَة، أي لا يكسوهم إلاّ خوفاً.
     5. الجزور: الناقة المجزورة.


( 213 )


منها: [في وصف الانبياء]


     فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِي أَفْضَلِ مُسْتَوْدَع، وَأَقَرَّهُمْ فِي خَيْرِ مُسْتَقَرّ، تَنَاسَخَتْهُمْ(1) كَرَائِمُ الاَْصْلاَبِ إِلَى مُطَهَّرَاتِ الاَْرْحَامِ; كُلَّمَا مَضَى سَلَفٌ، قَامَ مِنْهُمْ بِدِينِ اللهِ خَلَفٌ.

[رسول الله وأهل بيته]


     حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اللهِ سُبْحَانَهُ إِلَى مُحَمَّد(صلى الله عليه وآله)، فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً(2)، وَأَعَزِّ الاَْرُومَاتِ(3) مَغْرِساً(4)، مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ(5) مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ، وَانْتَجَبَ(6) مِنْهَا أُمَنَاءَهُ.
     عِتْرَتُهُ خَيْرُ الْعِتَرِ(7)، وَأُسْرَتُهُ خَيْرُ الاُْسَرِ، وَشَجَرَتُهُ خَيْرُ الشَّجَرِ; نَبَتَتْ
____________
     1. تَنَاسَخَتْهُم: تَنَاقَلَتْهُم. 2. مَنْبت ـ كمجلس ـ : موضع النبات ينبت فيه.
     3. الارُومات ـ جمع أرُومَة ـ : الاصل.
     4. المَغْرِس: موضع الغَرْس.
     5. صَدَعَ فلاناً: قصده لكرمه.
     6. انتجب: اختار واصطفى.
     7. عتْرَته: أهل بيته، وعترة الرجل: نَسْله ورَهْطُهُ الادْنَوْنَ.


( 214 )


فِي حَرَم، وَبَسَقَتْ(1) فِي كَرَم، لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ، وَثَمَرٌ لاَيُنَالُ.
     فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَى، وَبَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدَى، وسِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ، وَشِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ وَزَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ; سِيرَتُهُ الْقَصْدُ(2)، وَسُنَّتُهُ الرُّشْدُ، وَكَلاَمُهُ الْفَصْلُ، وَحُكْمُهُ الْعَدْلُ; أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَة(3) مِنَ الرُّسُلِ، وَهَفْوَة(4) عَنِ الْعَمَلِ، وَغَبَاوَة مِنَ الاُْمَمِ.

[عظة النّاس]


     اعْمَلُوا، رَحِمَكُمُ اللهُ، عَلَى أَعْلاَم بَيِّنَة(5)، فَالطَّرِيقُ نَهْجٌ(6) يَدْعُو إلَى دَارِ السَّلاَمِ، وَأَنْتُمْ فِي دَارِ مُسْتَعْتَب(7) عَلَى مَهَل وَفَرَاغ، والصُّحُفُ مَنْشُورَةٌ،
____________
     1. بَسَقَتْ: ارتفعت.
     2. القَصْد: الاستقامة.
     3. الفَتْرَة: الزمان بين الرّسولَين.
     4. هَفْوَة: زَلّة وانحراف من الناس عن العمل بما أمر الله على ألسنة الانبياء السابقين.
     5. يريد بالاعمام البينة مَوَاضح الطرق المبينة.
     6. نَهْج: واضح، قويم.
     7. مُسْتَعْتَب ـ بفتح التائين ـ : طلب العُتْبى. أي: طلب الرضى من الله بالاعمال النافعة.


( 215 )


وَالاَْقْلاَمُ جَارِيَةٌ، وَالاَْبْدَانُ صَحِيحَةٌ، والاَْلْسُنُ مُطْلَقَةٌ، وَالتَّوْبَةُ مَسْمُوعَةٌ، وَالاَْعْمَالُ مَقْبُولَةٌ.

[ 94 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[يقرر فضيلة الرسول الكريم]


     بَعَثَهُ وَالنَّاسُ ضُلاَّلٌ فِي حَيْرَة، وَحَاطِبُونَ(1) فِي فِتْنَة، قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الاَْهْوَاءُ، وَاسْتَزَلَّتْهُمُ(2) الْكِبْرِيَاءُ، وَاسْتَخَفَّتْهُمُ(3) الْجَاهِلِيِّةُ الْجَهْلاَءُ(4); حَيَارَى فِي زَلْزَال مَنَ الاَْمْرِ، وَبَلاَء مِنَ الْجَهْلِ، فَبَالَغَ(صلى الله عليه وآله) فِي النَّصِيحَةِ، وَمَضَى عَلَى الطَّرِيقَةِ، وَدَعَا إِلَى الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ.

[ 95 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[في الله وفي الرسول الاكرم]


    
____________
     1. حاطِبُون: جمع حاطب، وهو الذي يجمع الحطب، يقال لمن يجمع الصواب والخطأ: حاطِبُ ليل.
     2. استَزَلَّتهُمْ: أدّت إلى الزّلَل والسقوط في المضَارّ.
     3. استَخَفّتْهُم: طَيّشَتْهُمْ.
     4. الجَهْلاَء: وصف مبالغة للجهل.


( 216 )


[الله تعالى]


     الْحَمْدُ للهِ الاَْوَّلِ فَلاَ شَيْءَ قَبْلَهُ، وَالاخِرِ فَلاَ شَيْءَ بَعْدَهُ، وَالظَّاهِرِ فَلاَ شَيْءَ فَوْقَهُ، وَالْبَاطِنِ فَلاَ شيَ دُونَهُ.

منها: في ذكر الرسول(صلى الله عليه وآله)


     مُسْتَقَرُّهُ خَيْرُ مُسْتَقَرٍّ، وَمَنْبِتُهُ أَشْرَفُ مَنْبِت، فِي مَعَادِنِ الْكَرَامَةِ، وَمَمَاهِدِ(1) السَّلاَمَةِ.
     قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أَفْئِدَةُ الاَْبْرَارِ، وَثُنِيَتْ إِلَيْهِ أَزِمَّةُ(2) الاَْبْصَارِ، دَفَنَ [اللهُ ]بِهِ الضَّغَائِنَ(3)، وَأَطْفَأَ بِهِ الثَّوَائِرَ(4)، وأَلَّفَ بِهِ إِخْوَاناً، وَفَرَّقَ بِهِ أَقْرَاناً، أَعَزَّ بِهِ الذِّلَّةَ، وَأَذَلَّ بِهِ الْعِزَّةَ، كَلاَمُهُ بَيَانٌ، وَصَمْتُهُ لِسَانٌ.
    
____________
     1. المَمَاهد ـ جمع مَمْهد كمقعد ـ : ما يُمْهَدُ أي يُبْسَطُ فيه الفراش ونحوه.
     2. الازِمّة ـ كأئمة ـ : جمع زِمام. وانْثِنَاء الازمة إليه كناية عن تَحَوّلها نحوه.
     3. الضغائن: الاحقاد.
     4. الثوائِر: جمع ثائرة، وهي: العداوة الواثبة بصاحبها على أخيه ليضرّه إن لم يقتله.


( 217 )

[ 96 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
[في أصحابه وأصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)]


[أصحاب علي(عليه السلام)]


     وَلَئِنْ أَمْهَلَ اللهُ الظَّالِمَ فَلَنْ يَفُوتَ أَخْذُهُ، وَهُوَ لَهُ بَالمِرْصَادِ(1) عَلَى مَجَازِ طَرِيقِهِ، وَبِمَوْضعِ الشَّجَا(2) مِنْ مَسَاغِ رِيقِهِ(3)
.
     أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيَظْهَرَنَّ هؤُلاَءِ الْقَوْمُ عَلَيْكُمْ، لَيْسَ لاَِنَّهُمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْكُمْ، وَلكِنْ لاِِسْرَاعِهِمْ إِلَى بَاطِلِ صَاحِبِهِمْ، وَإِبْطَائِكُمْ عَنْ حَقِّي.
     وَلَقَدْ أَصْبَحَتِ الاُْمَمُ تَخَافُ ظُلْمَ رُعَاتِهَا، وَأَصْبَحْتُ أَخَافُ ظُلْمَ رَعِيَّتِي. اسْتَنْفَرْتُكُمْ لِلْجِهَادِ فَلَمْ تَنْفِرُوا، وَأَسْمَعْتُكُمْ فَلَمْ تَسْمَعُوا، وَدَعَوْتُكُمْ سِرّاً وَجَهْراً فَلَمْ تَسْتَجِيبُوا، وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَلَمْ تَقْبَلُوا.
     شُهُودٌ كَغُيَّاب(4)، وَعَبِيدٌ كَأَرْبَاب! أَتْلُوا عَلَيْكُمُ الْحِكَمَ فَتَنْفِرُونَ مِنْهَا،
____________
     1. المِرْصَاد: الطريق يُرْصَدُ بها.
     2. الشّجَا: ما يَعْتَرِضُ في الحلق من عظم وغيره.
     3. مَسَاغ الرّيق: ممرّه من الحلق.
     4. شُهُود جمع شاهد: بمعنى الحاضر. وغُيّاب: جمع غائب.


( 218 )


وَأَعِظُكُمْ بِالمَوْعِظَةِ الْبَالِغَةِ فَتَتَفَرَّقُونَ عَنْهَا، وَأَحُثُّكُمْ عَلَى جِهَادِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَمَا آتِي عَلَى آخِرِ قَوْلي حَتَّى أَرَاكُمْ مُتفَرِّقِينَ أَيَادِيَ سَبَا(1)، تَرْجِعُونَ إِلى مَجَالِسِكُمْ، وَتَتَخَادَعُونَ عَنْ مَوَاعِظِكُمْ، أُقَوِّمُكُمْ غُدْوَةً، وَتَرْجِعُونَ إِلَيَّ عَشِيَّةً، كَظَهْرِ الْحَنِيَّةِ(2)، عَجَزَ الْمُقَوِّمُ، وَأَعْضَلَ الْمُقَوَّمُ(3)
.
     أَيُّهَا الشَّاهِدةُ أَبْدَانُهُمْ، الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ، الْـمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ، المُبْتَلَى بِهمْ أُمَرَاؤُهُمْ، صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اللهَ وَأَنْتُمْ تَعْصُونَهُ، وَصَاحِبُ أَهْلِ الشَّامِ يَعْصِي اللهَ وَهُمْ يُطِيعُونَهُ، لَوَدِدْتُ وَاللهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَارَفَني بِكُمْ صَرْفَ الدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ، فَأَخَذَ مِنِّي عَشَرَةً مِنْكُمْ وَأَعْطَانِي رَجُلاً مِنْهُمْ!
     يَاأَهْلَ الْكُوفَةِ، مُنِيتُ مِنْكُمْ بِثَلاَث وَاثنَتَيْنِ: صُمٌّ ذَوُوأَسْمَاع، وَبُكُمٌ ذَوُوكَلاَم، وَعُمْيٌ ذَوُوأَبْصَار، لاَ أَحْرَارُ صِدْق عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلاَ إِخْوَانُ ثِقَة عِنْدَ الْبَلاَءِ! تَرِبَتْ أَيْدِيكُمْ! يَا أَشْبَاهَ الاِْبِلِ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا! كُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِب تَفَرَّقَتْ مِنْ آخَرَ، وَاللهِ لَكَأَنِّي بِكُمْ فِيَما إخالُ(4): لَوْ حَمِسَ
____________
     1. قالوا: إن سبأ هو أبو عَرَبِ اليمن كان له عشرة أولاد، جعل منهم ستة يميناً له، وأربعة شمالاً تشبيهاً لهم باليدين، ثم تفرّق أولئك الاولاد أشدّ التفرّق.
     2. ظَهْر الحَنِيّة: القَوْس.
     3. أعْضَلَ: استعصى واسْتَصْعَبَ.
     4. إخال: أظنّ.


( 219 )


الْوَغَى(1)، وَحَمِيَ الضِّرَابُ، قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبي طَالِب انْفِرَاجَ الْمَرْأَةِ عَنْ قُبُلِهَا(2)، وَإِنِّي لَعَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّي، وَمِنْهَاج مِنْ نَبِيِّي، وَإِنِّي لَعَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ أَلْقُطُهُ لَقْطاً(3)
.

[أهل البيت وأصحاب رسول الله]


     انْظُرُوا أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ فَالْزَمُوا سَمْتَهُمْ(4)، وَاتَّبِعُوا أَثَرَهُمْ فَلَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ هُدىً، وَلَنْ يُعِيدُوكُمْ فِي رَدىً، فَإِنْ لَبَدُوا فَالْبُدُوا(5)، وَإِنْ نَهَضُوا فَانْهَضُوا، وَلاَ تَسْبِقُوهُمْ فَتَضِلُّوا، وَلاَ تَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِكُوا.
     لَقَدْ رَأَيْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّد(صلى الله عليه وآله)، فَمَا أَرَى أَحَداً يُشْبِهُهُمْ مِنْكُمْ! لَقَدْ كَانُوا يُصْبِحُونَ شُعْثاً غُبْراً(6)، قَدْ بَاتُوا سُجّداً وَقِيَاماً، يُرَاوِحُونَ(7) بَيْنَ جِبَاهِهِمْ
____________
     1. حَمِسَ ـ كَفَرِحَ ـ : اشتد; والوَغَى: الحرب.
     2. انفراج المرأة عن قُبُلها يكون عند الولادة أوعندما يُشْرَعُ عليها سلاح. وفيه كناية عن العَجْز والدناءة في العمل.
     3. اللّقطْ: أخذ الشيء من الارض.
     4. السّمْت ـ بالفتح ـ : طريقهم أوحالهم أوقصدهم.
     5. لَبَدَ ـ كنصر ـ : أقام، أي: إن أقاموا فأقيموا.
     6. شعثاً: جمع أشعث وهو المغبّر الرأس. والغبر: جمع أغبر، والمرادأنهم كانوا متقشفين.
     7. المُرَاوحة بين العملين: أن يعمل هذا مرة، وهذا مرة، وبين الرجْلين: أن يقوم على كل منهمامرة، وبين جباههم وخدودهم أن يضعوا الخدود مرة والجباه أخرى على الارض خضوعاً لله وسجوداً.


( 220 )


وَخُدُودِهِمْ، وَيَقِفُونَ عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ مِنْ ذِكْرِ مَعَادِهِمْ! كَأَنَّ بَيْنَ أَعْيُنهِمْ رُكَبَ الْمِعْزَى(1) مِنْ طُولِ سُجُودِهِمْ! إِذَا ذُكِرَ اللهُ هَمَلَتْ أَعْيُنُهُمْ حَتَّى تَبُلَّ جُيُوبَهُمْ، وَمَادُوا(2) كَمَا يَمِيدُ الشَّجَرُ يَوْمَ الرِّيحِ الْعَاصِفِ، خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ، وَرَجَاءً لِلثَّوَابِ!

[ 97 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
[يشير فيه إلى ظلم بني أمية]


     وَاللهِ لاَ يَزَالُونَ حَتَّى لاَ يَدَعُوا للهِ مُحَرَّماً إِلاَّ اسْتَحَلُّوهُ(3)، وَلاَ عَقْداً إِلاَّ حَلُّوهُ، حَتَّى لاَ يَبْقَى بَيْتُ مَدَر وَلاَ وَبَر(4) إِلاَّ دَخَلَهُ ظُلْمُهُمْ وَنَبَا بِهِ سُوءُ رَعْيِهِمْ(5)، وَحَتَّى يَقُومَ الْبَاكِيَانِ يَبْكِيَانِ: بَاك يَبْكِي لِدِينِهِ، وَبَاك يَبْكِي
____________
     1. رُكَب ـ جمع رُكْبة ـ : مَوْصِلُ الساقِ من الرّجْل بالفخذ. وإنما خص رُكَبَ المِعْزَى لِيُبُوستها واضطرابها من كثرة الحركة.
     2. مادُوا: اضطربوا وارتعدوا.
     3. استحلال المحرّم: اسْتِبَاحَتُهُ.
     4. بيوت المَدَر: المبنيّة من طُوب وحجر ونحوهما، وبيوت الوَبَر: الخيام.
     5. نَبَا به سوء رَعْيِهم: أصله من نَبَا به المنزل إذا لم يوافقه فارتحل عنه.


( 221 )


لِدُنْيَاهُ، وَحَتَّى تَكُونَ نُصْرَةُ أَحَدِكمْ مِنْ أَحَدِهِمْ كَنُصْرَةِ الْعَبْدِ مِنْ سَيِّدِهِ، إِذَا شَهِدَ أَطَاعَهُ، وَإِذَا غَابِ اغْتابَهُ، وَحَتَّى يَكُونَ أَعْظَمَكُمْ فِيهَا غَناءً أَحْسَنُكُمْ بِاللهِ ظَنّاً، فَإِنْ أَتَاكُمُ اللهُ بِعَافِيَة فَاقْبَلُوا، وَإِنِ ابْتُلِيتُمْ فَاصْبِرُوا، فَإِنَّ
(الْعَاقِبَة لَلْمُتَّقِينَ).

[ 98 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[في التزهيد من الدنيا]


     نَحْمَدُهُ عَلَى مَا كَانَ، وَنَسْتَعِينُهُ مِنْ أَمْرِنا عَلَى مَا يَكُونُ، وَنَسْأَلُهُ الْمُعَافَاةَ في الاَْدْيَانِ، كَمَا نَسَأَلُهُ الْمُعَافَاةَ فِي الاَْبْدَانِ.
     أُوصِيكُمْ عِبادَاللهِ بِالرَّفْضِ لِهذهِ الدُّنْيَا التَّارِكَةِ لَكُمْ وَإِنْ لَمْ تُحِبُّوا تَرْكَهَا، وَالْمُبْلِيَةِ لاَِجْسَامِكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ تَجْدِيدَهَا، فَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهَا كَسَفْر(1) سَلَكُوا سَبِيلاً فَكَأَنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوهُ، وَأَمُّوا(2) عَلَماً فَكَأَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوهُ، وَكَمْ عَسَى الْـمُجْرِي إِلَى الْغَايَةِ(3) أَنْ يَجْرِيَ إِلَيْهَا حَتَّى يَبْلُغَهَا! وَمَا عَسَى أَنْ
____________
     1. السّفْر ـ بفتح فسكون ـ : جماعة المسافرين.
     2. أمّوا: قصدوا.
     3. المُجْري إلى الغاية: يريد الذي يجري فرسه إلى غاية معلومة، أي مقدار من الجَرْي يلزمه حتى يصل إلى غايته.


( 222 )


يَكُونَ بَقَاءُ مَنْ لَهُ يَوْمٌ لاَ يَعْدُوهُ، وَطَالِبٌ حَثِيثٌ يَحْدُوهُ(1) فِي الدُّنُيَا حَتَّى يُفَارِقَهَا!
     فَلاَ تَنَافَسُوا فِي عِزِّ الدُّنْيَا وَفَخْرِهَا، وَلاَ تَعْجَبُوا بَزِينَتِهَا وَنَعِيمِهَا، وَلاَ تَجْزَعُوا مِنْ ضَرَّائِهَا وَبُؤْسِهَا، فَإِنَّ عِزَّهَا وَفَخْرَهَا إِلَى انْقِطَاع، وَزِينَتَهَا وَنَعِيمَهَا إِلَى زَوَال، وَضَرَّاءَهَا وَبُؤْسَهَا إِلَى نَفَاد(2)، وَكُلُّ مُدَّة فِيهَا إِلَى انْتِهَاء، وَكُلُّ حَيٍّ فِيهَا إِلَى فَنَاء.
     أَوَلَيْسَ لَكُمْ في آثَارِ الاَْوَّلِينَ [مُزْدَجَرٌ](3)، وَفِي آبَائِكُمُ الْمَاضِينَ تَبْصِرَةٌ وَمُعْتَبَرٌ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ! أَوَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْمَاضِينَ مِنْكُمْ لاَ يَرْجِعُونَ، وَإِلَى الْخَلَفِ الباقِي لاَ يَبْقَوْنَ! أوَلَسْتُمْ تَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُمْسُونَ ويُصْبِحُونَ عَلَى أَحْوَال شَتَّى: فَمَيِّتٌ يُبْكَى، وَآخَرُ يُعَزَّى، وَصَرِيعٌ مُبْتَلىً، وَعَائِدٌ يَعُودُ، وَآخَرُ بِنَفْسِهِ يَجُودُ(4)، وَطَالِبٌ لِلدُّنْيَا وَالْمَوْتُ يَطْلُبُهُ، وَغَافِلٌ وَليْسَ بِمَغْفُول عَنْهُ; وَعَلَى أَثَرِ الْمَاضِي مَا يَمْضِي الْبَاقِي!
    
____________
     1. يَحْدُوه: يسوقه.
     2. نَفَاد: فناء.
     3. مُزْدَجَر: مصدر ميمي من ازْدَجَرَ، وَمعناه الارتداع والانزجار.
     4. بنفسه يجود: من جاد بنفسه إذا قارب أن يقضي نحبه، كأنه يسخو بها ويُسْلمها إلى خالقها.


( 223 )


أَلاَ فَاذْكُرُوا هَادِمَ اللَّذَّاتِ، وَمُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ، وَقَاطِعَ الاُْمْنِيَاتِ، عِنْدَ الْمُسَاوَرَةِ(1) لِلاَْعْمَالِ الْقَبِيحَةِ، وَاسْتَعِينُوا اللهَ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِ حَقِّهِ، وَمَا لاَ يُحْصَى مِنْ أَعْدَادِ نِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ.

[ 99 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[في رسول الله وأهل بيته]


     الْحَمْدُ للهِ النَّاشِرِ فِي الْخَلْقِ فَضْلَهُ، وَالْبَاسِطِ فِيهمْ بِالْجُودِ يَدَهُ، نَحْمَدُهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَنَسْتَعِينُهُ عَلَى رِعَايَةِ حُقُوقِهِ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَإِلهَ غَيْرُهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِأَمْرِهِ صَادِعاً(2)، وَبِذِكْرِهِ نَاطِقاً، فَأَدَّى أَمِيناً، وَمَضَى رَشِيداً، وَخَلَّفَ فِينَا رايَةَ الْحَقِّ، مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ(3)، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا زَهَقَ(4)، وَمَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ، دَلِيلُهَا مَكِيثُ الْكَلامِ(5)، بَطِيءُ الْقِيَامِ(6)،
____________
     1. المُسَاوَرَة: المُوَاثَبَة. كأنه يرى العمل القبيح ـ لبعده عن ملاءمة الطبع الانساني بالفطرة الالهية ـ ينفر من مُقْتَرِفه كما ينفر الوحش، فلا يصل إليه المغبون إلا بالوثبة عليه.
     2. صَادِعاً: فالقاً به جدران الباطل فهادِمَها.
     3. مَرَقَ: خرج عن الدين.
     4. زَهَقَ: اضمحلّ وهلك.
     5. مَكِيث: رَزِين في قوله، لا يبادر به من غير رويّة.
     6. بطيء القيام: لا ينبعث للعمل بالطيش، وإنما يأخذ له عدّة إتمامه.


( 224 )


سَرِيعٌ إِذَا قَامَ، فَإِذَا أَنْتُمْ أَلَنْتُمْ لَهُ رِقَابَكُمْ، وَأَشَرْتُمْ إِلَيْهِ بِأَصَابِعِكُمْ، جَاءَهُ الْمَوْتُ فَذَهَبَ بِهِ، فَلَبِثْتُمْ بَعْدَهُ مَا شَاءَ اللهُ حَتَّى يُطْلِعِ اللهُ لَكُمْ مَنْ يَجْمَعُكُمْ وَيَضُمُّ نَشْرَكُمْ(1)، فَلا تَطْمَعُوا فِي غَيْرِ مُقْبِل(2)، وَلاَ تَيْأَسُوا مِنْ مُدْبِر(3)، فَإِنَّ الْمُدْبِرَ عَسَى أَنْ تَزِلَّ بِهِ إِحْدَى قَائِمَتَيْهِ(4)، وَتَثْبُتَ الاُْخْرى، فَتَرْجِعَا حَتَّى تَثْبُتَا جَمِيعاً.
     أَلاَ إِنَّ مَثَلَ آلِ مُحَمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، كَمَثَلِ نُجُومِ السَّماَءِ: إِذَا خَوَى نَجْمٌ(5) طَلَعَ نَجْمٌ، فَكَأَنَّكُمْ قَدْ تَكَامَلَتْ مِنَ اللهِ فِيكُمُ الصَّنَائِعُ، وَأَتَاكُم مَا كُنْتُمْ تَأْمُلُونَ.

[ 100 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
وهي من خطبته التي تشتمل على ذكر الملاحم


     [الْحَمْدُ للهِِ] الاَْوَّلِ قَبْلَ كُلِّ أَوِّل، وَالاْخِرِ بَعْدَ كُلِّ آخِر، بِأَوَّلِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لاَ أَوَّلَ لَهُ، وَبِآخِرِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لاَ آخِرَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ شَهَادَةً
____________
     1. يضُمّ نشْرَكُم: يصل متفرّقكم.
     2. المُقْبِل: المتوجّه إلى الامر، الطالب له، الساعي اليه.
     3. المُدْبِر: من أدبرت حاله، واعترضته الخيبة في عمله وإن كان لم يَزَلْ طالباً له.
     4. قائمتاه: رِجْلاه.
     5. خَوَى نجم: غاب.


( 225 )


يُوَافِقُ فِيهَا السِّرُّ الاِْعْلاَنَ، وَالْقَلْبُ اللِّسَانَ.
     أَيُّهَا النَّاسُ، لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ(1) شِقَاقِي(2)، وَلاَ يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ(3) عِصْيَاني، وَلاَ تَتَرَامَوْا بِالاَْبْصَارِ(4) عِنْدَ مَا تَسْمَعُونَهُ مِنِّي.
     فَوَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ(5)، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ(6)، إِنَّ الَّذِي أُنَبِّئُكُمْ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ(صلى الله عليه وآله)، مَا كَذَبَ الْمُبَلِّغُ، وَلاَ جَهِلَ السَّامِعُ، لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى ضِلِّيل(7) قَدْ نَعَقَ(8) بِالشَّامِ ،وَفَحَصَ بِرَايَاتِهَ(9) فِي ضَوَاحِي كُوفَانَ(10)
.
    
____________
     1. لا يَجْرِمَنّكُمْ: لا يحملنّكم.
     2. شِقاقي: مخالفتي وعصياني.
     3. لا يَسْتَهْوِيَنّكُمْ: لا يجعَلَنّكم هائمين.
     4. لا تَتَرَامَوا بالابصار: لا ينظر بعضكم إلى بعض تغامزاً.
     5. فَلَقَ الحَبّةَ: شقّها.
     6. بَرَأ النّسَمَةَ: خلقَ الروحَ.
     7. ضِلِّيل ـ كشرّير ـ : شديد الضلال مبالغ في الاضلال.
     8. النعيق: صوت الراعي بغنمه.
     9. فَحَصَ بِرَاياته: من «فَحَص القَطَا الترابَ» إذا اتخذ فيه أُفحُوصاً ـ بالضم ـ وهو مَجْثَمُهُ أي المكان الذي يقيم فيه عندما يكون على الارض، يريد أنه نَصَبَ له رايات بحثت لها في الارض مراكز.
     10. كُوفان: هي الكوفة.


( 226 )


فإِذَا فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ(1)، وَاشْتَدَّتْ شَكِيمَتُهُ(2)، وَثَقُلَتْ فِي الاَْرْضِ وَطْأَتُهُ، عَضَّتِ الْفِتْنَةُ أَبْنَاءَهَا بِأَنْيَابِهَا، وَمَاجَتِ الْحَرْبُ بِأَمْوَاجِهَا، وَبَدَا مِنَ الاَْيَّامِ كُلُوحُهَا(3)، وَمِنَ اللَّيَالِي كُدُوحُهَا(4)
.
     فَإِذَا يَنَعَ زَرْعُهُ، وَقَامَ عَلَى يَنْعِهِ(5)، وَهَدَرَتْ شَقَاشِقُهُ(6)، وَبَرَقَتْ )بَوَارِقُهُ(7)، عُقِدَتْ رَايَاتُ الْفِتَنِ الْمُعْضِلَةِ، وَأَقْبَلْنَ كَالْلَيْلِ الْمُظْلِمِ، وَالْبَحْرِ الْمُلْتَطِمِ.
     هذا، وَكَمْ يَخْرِقُ الْكُوفَةَ مِنْ قَاصِف(8)، وَيَمُرُّ عَليْهَا مِنْ عَاصِف(9)! وَعَنْ قَلِيل تَلْتَفُّ الْقُرُونُ بِالْقُرُونِ(10)، وَيُحْصَدُ الْقَائِمُ(11)، وَيُحْطَمُ الْـمَحْصُودُ(12)
!

____________
     1. فَغَرَ الفَمُ ـ كمنع ـ : انفتح. وفَاغِرَتُهُ هي فمه.
     2. الشّكِيمة: الحديدة المعترضة في اللجام في فم الدّابّة، ويعبر بقوتها عن شدة البأس وصعوبة الانقياد.
     3. كُلُوح الايام: عبوسها.
     4. كُدوح الليالي: الكُدُوح جمع كَدْح ـ بالفتح ـ وهو الخدْش وأثر الجراحات.
     5. يَنْعه ـ بفتح الياء ويجوز ضمها ـ : حال نُضْجه.
     6. الشّقَاشِق: جمع شِقْشِقة، وهي شيء كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج، وصوت البعير بها عند إخراجها: هَدِير.
     7. بَوَارِقُهُ: سيوفه ورماحه.
     8. القاصِف: هو ما اشتدّ صوته من الرعد والريح وغيرهما.
     9. العاصف: ما اشتدّ من الريح، والمراد مزعجات الفتن.
     10. تلتفّ القرون بالقرون: كناية عن الاشتباك بين قواد الفتنة وبين أهل الحق كما تشتبك الكباش بقرونها عند النّطاح.
     11. يُحْصَدُ القائِمُ: ما بقي من الصلاح قائماً يُحْصَدُ.
     12. يُحْطَمُ المَحْصُودُ: ما كان قد حُصِد يحطم ويهشم.


( 227 )

[ 101 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
تجري هذا المجرى
[وفيها ذكر يوم القيامة وأحوال الناس المقبلة]


[يوم القيامة]


     وَذلِكَ يَوْمٌ يَجْمَعُ اللهُ فِيهِ الاَْوَّلِينَ والاْخِرِينَ لِنِقَاشِ الْحِسَابِ(1) وَجَزَاءِ الاَْعْمَالِ، خُضُوعاً، قِياماً، قَدْ أَلْجَمَهُمُ الْعَرَقُ(2)، وَرَجَفَتْ بِهِمُ الاَْرْضُ(3)، فَأَحْسَنُهُمْ حَالاً مَنْ وَجَدَ لِقَدَمَيْهِ مَوْضِعاً، وَلِنَفْسِهِ مُتَّسَعاً.
____________
     1. نقاش الحساب: الاستقصاء فيه.
     2. ألْجَمَهُمُ العرقُ: سال منهم حتى بلغ إلى موضع اللّجام من الدّابة، وهو الفم.
     3. رَجَفَتْ بهم الارض: تحرّكت واضطربت.


( 228 )


منها: [في حال مقبلة على الناس]


     فِتَنٌ كَقِطَعِ الْلَّيْلِ الْمُظْلِمِ(1)، لاَ تَقُومُ لَهَا قَائِمَةٌ، وَلاَ تُرَدُّ لَهَا رَايَةٌ، تَأْتِيكُمْ مَزْمُومَةً مَرْحُولَةً(2): يَحْفِزُهَا قَائِدُهَا(3)، وَيَجْهَدُهَا(4) رَاكِبُهَا، أَهْلُهَا قَوْمٌ شَدِيدٌ كَلَبُهُمْ(5)، قَلِيلٌ سَلَبُهُمْ(6)، يُجَاهِدُهُمْ فِي اللهِ قَوْمٌ أَذِلَّةٌ عِنْدَ الْمُتَكَبِّرِينَ، فِي الاَْرْضِ مَجْهُولُونَ، وَفِي السَّماءِ مَعْرُوفُونَ.
     فَوَيْلٌ لَكِ يَا بَصْرَةُ عِنْدَ ذلِكَ، مِنْ جَيْش مِنْ نِقَمِ الله! لاَ رَهَجَ(7) لَهُ، وَلاَ حَسَّ(8)، وَسَيُبْتَلَى أَهْلُكِ بِالْمَوْتِ الاْحْمَرِ، وَالْجُوعِ الاَْغْبَرِ(9)
!
    
____________
     1. قِطَع الليل: جمع قِطْع ـ بكسر القاف ـ وهو الظلمة.
     2. مَزْمُومة مَرْحُولة: تامة الادوات كاملة الالات، كالناقة التي عليها زمامها ورَحْلها، قد استعدّت لان تُرْكَبَ.
     3. يحْفزُهَا: يحُثّها.
     4. يَجْهَدُهَا: يحمل عليها في السير فوق طاقتها.
     5. الكَلَب ـ بفتح اللام ـ : الشر والاذى والشدّة في كل شيء.
     6. السّلَب ـ محركةً ـ : مايأخذه القاتل من ثياب المقتول وسلاحه في الحرب.
     7. الرّهَج ـ بالتحريك وسكون الهاء ـ : الغبار.
     8. الحَسّ ـ بفتح الحاء ـ : الجَلَبة والاصوات المختلطة.
     9. الجوع الاغْبَر: كناية عن المَحْل والجَدْب.


( 229 )

[ 102 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[في التزهيد في الدنيا]


     [أَيُّهَا النَّاسُ،] انْظُرُوا إِلى الدُّنْيَا نَظَرَ الزَّاهِدِينَ فِيهَا، الصَّادِفِينَ(1) عَنْهَا; فَإِنَّهَا وَاللهِ عَمَّا قَلِيل تُزِيلُ الثَّاوِيَ(2) السَّاكِنَ، وَتَفْجَعُ الْمُتْرَفَ(3) الاْمِنَ، لاَ يَرْجِعُ مَا تَوَلَّى مَنْهَا فَأَدْبَرَ، وَلاَ يُدْرَى مَا هُوَ آت مِنْهَا فَيُنْتَظَرَ. سُرُورُهَا مَشُوبٌ(4)بِالْحُزْنِ، وَجَلَدُ(5) الرِّجَالِ فَيهَا إِلَى الضَّعْفِ وَالْوَهْنِ(6)، فَلا يَغُرَّنَّكُمْ كَثْرَةُ مَا يُعْجِبُكُمْ فِيهَا لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكُمْ مِنْهَا.
     رَحِمَ اللهُ امْرَأً تَفَكَّرَ فَاعْتَبَرَ، واعْتَبَرَ فَأَبْصَرَ، فَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الدٌّنْيَا عَنْ قَلِيل لَمْ يَكُنْ، وَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الاْخِرَةِ عَمَّا قَلَيل لَمْ يَزَلْ، وَكُلُّ مَعْدُود مُنْقَض، وَكُلُّ مُتَوَقَّع آت، وَكُلُّ آت قَرِيبٌ دَان.

____________
     1. الصادفين: المُعْرِضِين.
     2. الثاوي: المقيم.
     3. المُتْرَف ـ بفتح الراء ـ : المتروك يصنع ما يشاء لا يُمْنَع.
     4. مَشُوب: مخلوط.
     5. الجَلَد: الصلابة والقوة.
     6. الوَهْن ـ بسكون الهاء وتحريكها ـ : الضّعْف.


( 230 )


منها: [في صفة العالم]


     الْعَالِمُ مَنْ عَرَفَ قَدْرَهُ، وَكَفَى بِالْمَرءِ جَهْلاً أَلاَّ يَعْرِفَ قَدْرَهُ; وَإِنَّ مِنْ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ لَعَبْدٌ وَكَّلَهُ اللهُ إِلَى نَفْسِهِ، جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، سَائِرٌ بَغَيْرِ دَلِيل، إِنْ دُعِيَ إِلَى حَرْثِ(1) الدُّنْيَا عَمِلَ، أوْ إِلَى حَرْثِ الاْخِرَةِ كَسِلَ! كَأَنَّ مَا عَمِلَ لَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّ مَا وَنَى فِيهِ(2) سَاِقطٌ عَنْهُ!

منها: [في آخر الزمان]


     وَذلِكَ زَمَانٌ لاَ يَنْجُو فِيهِ إِلاَّ كُلُّ مٌؤْمِن نُوَمَة(3)، إِنْ شَهِدَ لَمْ يُعْرَفْ، وَإِنْ غَابَ لَمْ يُفْتَقَدْ، أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الْهُدَى، وَأَعْلاَمُ السُّرَى(4)، لَيْسُوا بِالْمَسَايِيحِ(5)، وَلاَ الْمَذَايِيعِ(6) الْبُذُرِ(7)، أُولَئِكَ يَفْتَحُ اللهُ لَهُمْ أَبْوَابَ
____________
     1. الحَرْث ـ هنا ـ : كل ما يُصْنَع ليُثمر فائدة.
     2. وَنَى فيه: تَرَاخَى فيه.
     3. نُوَمَة ـ بضم ففتح ـ : كثير النوم.
     4. السُّرَى ـ كالهُدَى ـ : السير في الليل.
     5. المَساييح: جمع مِسْيَاح، فَسّره الشريف الرضي بالذي يَسيح بين الناس بالفساد والنمائم.
     6. المَذَايِيع: جمع مِذْياع، فسّره الشريف الرّضي بالذي إذا سمع لغيره بفاحشة أذاعها ونوّه عنها.
     7. البُذُر: جمع بَذُور، فسّره الشريف الرّضي بالذي يكثر سَفْهُهُ وَيَلْغُو مَنْطِقُهُ.


( 231 )


رَحْمَتِهِ، وَيَكْشِفُ عَنْهُمْ ضَرَّاءَ نِقْمَتِهِ.
     أَيُّهَا النَّاسُ، سَيَأْتي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يُكْفَأُ فِيهِ الاِْسْلاَمُ، كَمَا يُكْفَأُ الاِْنَاءُ بِمَا فِيهِ.
     أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ قَدْ أَعَاذَكُمْ مِنْ أَنْ يَجُورَ عَلَيْكُمْ، وَلَمْ يُعِذْكُمْ مِنْ أَنْ يَبْتَلِيكُمْ(1)، وَقَدْ قَالِ جَلَّ مِنْ قَائِل:
(إِنَّ فِي ذلِكَ لاَيَات وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ).

      أما قوله(عليه السلام): «كلّ مؤمِن نُوَمَة» فإنما أَراد به: الخامل الذكر القليل الشر. والمساييح: جمع مِسياح، وهو: الذي يسيح بين الناس بالفساد والنمائم. والمذاييع: جمع مِذْياع، وهو: الذي إذا سمع لغيره بفاحشة أذاعها، ونوّه بها. والبُذُرُ: جمع بَذُور وهو: الذي يكثر سفهه ويلغو منطقه.

    

[ 103 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)


أمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً(صلى الله عليه وآله)، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً، وَلاَ يَدَّعِي نُبُوَّةً وَلاَ وَحْياً، فَقَاتَلَ بِمَنْ أطَاعَهُ مَنْ عَصَاهُ، يَسُوقُهُم إِلَى مَنْجَاتِهِمْ، وَيُبَادِرُ بِهِمُ السَّاعَةَ أَنْ تَنْزِلَ بِهِمْ، يَحْسَرُ الْحَسَيرُ(2)، وَيَقِفُ الْكَسِيرُ(3) فَيُقِيمُ عَلَيْهِ حَتَّى يُلْحِقَهُ غَايَتَهُ، إِلاَّ هَالِكاً لاَ خَيْرَ فِيهِ، حَتَّى
____________
     1. يبتليكم: يمتحنكم، ليتبين الكاذب والمخلص من المريب، فتكون لله الحجّة على خلقه.
     2. يَحْسِرُ الحَسَيرُ: من «حَسَرَ البعيرُ» ـ كَضَرَبَ ـ إذا أعيا وكَلّ.
     3. الكَسِير: المكسور، وهو هنا الذي ضعف اعتقاده أوكلّتْ عزيمته فتراخى في السير على سبيل المؤمنين.


( 232 )


أَرَاهُمْ مَنْجَاتَهُمْ وَبَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ، فَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمْ(1)، وَاسْتَقَامَتْ )قَنَاتُهُمْ(2) وَايْمُ اللهِ، لَقَدْ كُنْتُ مِنْ سَاقَتِهَا حَتَّى تَوَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا، وَاسْتَوْسَقَتْ فِي قِيَادِهَا، مَا ضَعُفْتُ، وَلاَ جَبُنْتُ، وَلاَ خُنْتُ، وَلاَ وَهَنْتُ، وَايْمُ اللهِ، لاََبْقُرَنَّ الْبَاطِلَ(3) حَتَّى أُخْرِجَ الْحَقَّ مِنْ خَاصِرَتِهِ!

      وقد تقدم مختار هذه الخطبة، إلاّ أنني وجدتها في هذه الرواية على خلاف ما سبق من زيادة ونقصان، فأوجبت الحال إثباتها ثانية.

    

[ 104 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[في بعض صفات الرسول الكريم وتهديد بني أمية وعظة الناس]


[الرسول الكريم]


     حَتَّى بَعَثَ اللهُ مُحَمَّداً(صلى الله عليه وآله وسلم)، شَهِيداً، وَبَشِيراً، وَنَذِيراً، خَيْرَ الْبَرِيَّةِ طِفْلاً، وَأَنْجَبَهَا كَهْلاً، أَطْهَرَ الْمُطَهَّرِينَ شِيمَةً(4)، وَأَجْوَدَ الْمُسْتَمْطَرِينَ دِيمَةً(5).
____________
     1. استدارت رَحاهم: كناية عن وفرة أرزاقهم، فإن الرّحَى إنما تدور على ما تطحنه من الحَبّ. والرّحَى: رحى الحرب يطحنون بها.
     2. القَناة: الرمح. واستقامتها كناية عن صحة الاحوال وصلاحها.
     3. لابقُرَنّ الباطلَ: من البَقْر ـ وهو الشق ـ والمراد: لاشُقّن جَوْفَ الباطل بقهر أهله، فأنتزع الحق من أيدي المبطلين. 4. الشِّيمة: الخُلُق.
     5. الدّيمة ـ بكسر الدال ـ : المطر، يدوم في سكون. والمُسْتَمْطَر ـ بفتح الطاء ـ : مَن يُطْلَبُ منه المطر.


( 233 )


[بنو أمية]


     فَمَا احْلَوْلَتْ الدُّنْيَا لَكُمْ فِي لَذَّتِهَا، وَلاَ تَمَكَّنْتُمْ مِنْ رَضَاعِ أَخْلاَفِهَا(1) إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا صَادَفْتُمُوهَا جَائِلاً خِطَامُهَا(2)، قَلِقاً وَضِينُهَا(3)، قَدْ صَارَ حَرَامُهَا عِنْدَ أَقْوَام بِمَنْزِلَةِ السِّدْر الْـمَخْضُودِ(4)، وَحَلاَلُهَا بَعِيداً غَيْرَ مَوْجُود، وَصَادَفْتُمُوهَا، وَاللهِ، ظِلاًّ مَمْدُوداً إِلَى أَجَل مَعْدُود، فَالاَْرْضُ لَكُمْ شَاغِرَةٌ(5)، وَأَيْدِيكُمْ فِيهَا مَبْسُوطَةٌ، وَأَيْدِي الْقَادَةِ عَنْكُمْ مَكْفُوفَةٌ، وَسُيُوفُكُمْ عَلَيْهِمْ مَسَلَّطَةٌ، وَسُيُوفُهُمْ عَنْكُمْ مَقْبُوضَةٌ.
     أَلاَ إِنَّ لِكُلِّ دَم ثَائِراً، وَلَكُلِّ حَقٍّ طَالِباً، وَإِنَّ الثَّائِرَ فِي دِمَائِنَا كَالْحَاكِمِ في حَقِّ نَفْسِهِ، وَهُوَ اللهُ الَّذِي لاَ يُعْجِزُهُ مَنْ طَلَبَ، وَلاَ يَفُوتُهُ مَنْ هَرَبَ.
     فَأُقْسِمُ بِاللهِ، يَا بَنِي أُمَيَّةَ، عَمَّا قَلِيل لَتَعْرِفُنَّهَا فِي أَيْدِي غَيْرِكُمْ وَفِي دَارِ عَدُوِّكُمْ! أَلاَ إِنَّ أبْصَرَ الاَْبْصَارِ مَا نَفَذَ فِي الْخَيْرِ طَرْفُهُ! أَلاَ إِنَّ أَسْمَعَ الاَْسْمَاعِ مَا وَعَى التَّذْكِيرَ وَقَبِلَهُ!
____________
     1. الاخْلاف ـ جمع خِلْف بكسر الخاء وسكون اللام ـ : حَلمة ضَرْع الناقة.
     2. الخِطام ـ ككتاب ـ : ما يوضع في أنف البعير لِيُقَادَبه.
     3. الوَضَين: بِطانٌ عريض منسوج من سُيور أوشَعَر يكون للرحل كالحزام للسّرْج.
     4. السِّدْر ـ بالكسر ـ : شجر النّبق. والمَخْضود: المقطوع شوْكُهُ.
     5. شَاغرة: خالية.


( 234 )


[وعظ الناس]


     أَيُّهَا النَّاسُ، اسْتَصْبِحُوا مِنْ شُعْلَةِ مِصْبَاح وَاعِظ مُتَّعِظ، وَامْتَاحُوا(1) مِنْ صَفْوِ عَيْن قَدْ رُوِّقَتْ(2) مِنَ الْكَدَرِ.
     عِبَادَ اللهِ، لاَ تَرْكَنُوا إِلَى جَهَالَتِكُمْ، وَلاَ تَنْقَادُوا لاَِهْوَائِكُمْ، فَإِنَّ النَّازِلَ بِهذَا الْمَنْزِلِ نَازِلٌ بِشَفَا جُرُف هَار(3)، يَنْقُلُ الرَّدَى(4) عَلَى ظَهْرِهِ مِنْ مَوْضِع إِلَى مَوْضَع، لِرَأْي يُحْدِثُهُ بَعْدَ رَأْي، يُرِيدُ أَنْ يُلْصِقَ مَا لاَ يَلْتَصِقُ، وَيُقَرِّبَ مَا لاَ يَتَقَارَبُ! فَاللهَ اللهَ أَنْ تَشْكُوا إِلَى مَنْ لاَ يُشْكِي(5) شَجْوَكُمْ(6)، وَلاَ يَنْقُضُ بِرَأْيِهِ مَا قَدْ أَبْرَمَ لَكُمْ.
     إِنَّهُ لَيسَ عَلَى الاِْمَامِ إِلاَّ مَا حُمِّلَ مِنْ أَمْرِ رَبِّهِ: الاِْبْلاَغُ فَي الْمَوْعِظَةِ، وَالاجْتِهَادُ فِي النَّصِيحَةِ، وَالاِْحْيَاءُ لِلسُّنَّةِ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا،
____________
     1. امتاحوا: استَقُوا وانزِعوا الماء لريّ عطشكم من عين صافية صَفَتْ من الكَدَر.
     2. رُوِّقَتْ: صُفِّيَتْ.
     3. شفا جُرُف هار: شفا الشيء حَرْفُهُ. والجُرُف ـ بضمتين ـ : ما تجرفه السيول. والهاري ـ كالهائر ـ : المتهدم أوالمُشرِف على الانهدام.
     4. الرّدَى: الهلاك.
     5. يُشْكي: من أشْكاه إذا أزال شكواه.
     6. الشّجْو: الحاجة.


( 235 )


وَإِصْدَارُ السُّهْمَانِ(1) عَلَى أَهْلِهَا.
     فَبَادِرُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِ تَصْوِيحِ(2) نَبْتِهِ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ تُشْغَلُوا بَأَنْفُسِكُمْ عَنْ مُسْتَثَارِ(3) الْعِلْمِ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ، وَانْهَوْا عَنْ المُنْكَرِ وَتَنَاهَوْا عَنْهُ، فَإِنَّمَا أُمِرْتُمْ بالنَّهْي بَعْدَ التَّنَاهِي!

[ 105 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[وفيها يبيّن فضل الاسلام ويذكر الرسول الكريم ثمّ يلوم أصحابه]


[دين الاسلام]


     الْحَمْدُ للهِ الَّذِي شَرَعَ الاِْسْلاَمَ فَسَهَّلَ شَرَائِعَهُ لِمَنْ وَرَدَهُ، وَأَعَزَّ أَرْكَانَهُ عَلَى مَنْ غَالَبَهُ، فَجَعَلَهُ أَمْناً لِمَنْ عَلِقَهُ(4)، وَسِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ، وَبُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ، وَشَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ، وَنُوراً لِمَنِ اسْتَضَاءَ بِهِ، وَفَهْماً لِمَنْ عَقَلَ، وَلُبّاً لَمِنْ تَدَبَّرَ، وَآيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ، وَتَبْصِرَةً لِمَنْ عَزَمَ، وَعِبْرَةً لِمَنِ اتَّعَظَ، وَنَجَاةً
____________
     1. السُهْمَانُ ـ بضم السين ـ : جمع سهم بمعنى الحظ والنصيب. وإصدار السُهْمانِ إعادتها إلى أهلها المستحقين لها لا ينقصهم منها شيء.
     2. التّصْوِيح: التجفيف. وأصله: صَوّحَ النّبْتُ: إذا جَفّ أعلاه.
     3. مُسْتَثَار: اسم مفعول بمعنى المصدر. والاستثارة طلب الثّوَر وهو السّطوع والظهور.
     4. عَلِقَهُ ـ كَعَلِمَه ـ : تعلّق به.


( 236 )


لِمَنْ صَدَّقَ، وَثِقَةً لِمَنْ تَوَكَّلَ، وَرَاحَةً لِمَنْ فَوَّضَ، وَجُنَّةً(1) لِمَنْ صَبَرَ.
     فَهُوَ أبْلَجُ الْمَنَاهجِ(2) وَاضِحُ الْوَلاَئِجِ(3)، مُشْرَفُ الْمَنَارِ(4)، مُشْرِقُ الْجَوَادِّ(5)، مُضِيءُ الْمَصَابِيحِ، كَرَيمُ الْمِضْمارِ(6)، رَفِيعُ الْغَايَةِ، جَامِعُ الْحَلْبَةِ(7)، مُتَنَافِسُ السُّبْقَةِ(8)، شَرِيفُ الْفُرْسَانِ.
     التَّصْدِيقُ مِنْهَاجُهُ، وَالصَّالِحَاتُ مَنَارُهُ، وَالْمَوْتُ غَايَتُهُ، وَالدُّنْيَا مِضْمارُهُ، وَالْقِيَامَةُ حَلْبَتُهُ، وَالْجَنَّةُ سُبْقَتُهُ.
____________
     1. الجُنّة ـ بضم الجيم ـ : الوقاية والصّوْن.
     2. أبْلَجُ المَنَاهِجِ: أشد الطرق وضوحاً وأنْوَرُها.
     3. الوَلائج: جمع وَلِيجة وهي الدخيلة والمذهب.
     4. مُشْرَف ـ بفتح الراء ـ : من اشرف، والمراد به هنا المكان ترتفع عليه فتطّلع من فوقه على شيء. ومنار الدين: دلائله من العمل الصالح.
     5. الجَوَادّ ـ جمع جادة ـ : وهي الطريق الواضح.
     6. كريم المِضْمار: أي إذا سُوبِق سَبَقَ.
     7. الحَلْبَة: خيل تجمع من كل صَوْب للنصرة، والاسلام جامعها يأتي إليه الكرائم والعِتاق.
     8. السُبْقَة ـ بالضم ـ : جزاء السابقين.


( 237 )


منها: في ذكر النبي(صلى الله عليه وآله)


     حَتَّى أَوْرَى(1) قَبَساً لِقَابِس(2)، وَأَنَارَ عَلَماً لِحَابِس(3)، فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ، وَشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ، وَبَعِيثُكَ(4) نِعْمةً، وَرَسُولُكَ بِالْحقِّ رَحْمَةً.
     اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَهُ مَقْسَماً(5) مِنْ عَدْلِكَ، وَاجْزِهِ مُضَعَّفَاتِ الْخَيْرِ مِنْ فَضْلِكَ.
     اللَّهُمَّ أَعْلِ عَلَى بَنَاءِ الْبَانِينَ بَنَاءَهُ، وَأَكْرِمْ لَدَيْكَ نُزُلَهُ(6)، وَشَرِّفْ عِنْدَكَ مَنْزِلَهُ، وَآتِهِ الْوَسِيلَةَ، وَأَعْطِهِ السَّنَاءَ(7) وَالْفَضِيلَةَ، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ غَيْرَ خَزَايَا(8)، وَلاَ نَادِمِينَ، وَلاَ نَاكِبِينَ(9)، وَلاَ نَاكِثِينَ(10)، وَلاَ ضَالِّينَ، وَلاَ مَفْتُونِينَ.

      وقد مضى هذا الكلام فيما تقدم، إلاّ أنّنا كرّرناه هاهنا لما في الروايتين من الاختلاف.

    
____________
     1. أوْرَى: أوْقَدَ.
     2. القَبَس ـ بالتحريك ـ : الشّعلة من النار تُقْتَبَسُ من مُعْظَم النار. والقابِسُ: اَخِذُ النار من النار.
     3. الحَابِس: من حَبَسَ نَاقَتَهُ وَعَقَلَها حَيْرَةً منه لا يدري كيف يهتدي فيقف عن السير. وأنار له علماً: أي وضع له ناراً في رأس جبل ليستنقذه من حَيْرَته.
     4. بَعِيثك: مبعوثك.
     5. المَقْسم ـ كمقعد ومِنْبر ـ : النصيب والحظ.
     6. النّزُل ـ بضمتين ـ ما هُيِّىء للضيف لينزل عليه.
     7. السّناء ـ كسَحاب ـ : الرفعة.
     8. خزايا: جمع خَزْيان، من «خَزِيَ» إذا خجل من قبيح ارتكبه.
     9. ناكِبين: عادلين عن طريق الحق.
     10. ناكثين: ناقضين للعهد.


( 238 )


منها: في خطاب أصحابه


     وَقَدْ بَلَغْتُمْ منْ كَرَامَةِ اللهِ لَكُمْ مَنْزِلَةً تُكْرَمُ بِهَا إِمَاؤُكُمْ، وَتُوصَلُ بِهَا جِيرَانُكُمْ، وَيُعَظِّمُكُمْ مَنْ لاَ فَضْلَ لَكُمْ عَلَيهِ، وَلاَ يَدَلَكُمْ عِنْدَهُ، وَيَهَابُكُمْ مَنْ لاَ يَخَافُ لَكُمْ سَطْوَةً، وَلاَ لَكُمْ عَلَيْهِ إِمْرَةٌ، وَقَدْ تَرَوْنَ عُهُودَ اللهِ مَنْقُوضَةً فَلاَ تَغْضَبُونَ! وَأَنْتُمْ لِنَقْضِ ذِمَمِ آبَائِكُمْ تَأْنَفُونَ! وَكَانَتْ أَمُورُ اللهِ عَلَيْكُمْ تَرِدُ، وَعَنْكُمْ تَصْدُرُ، وَإِلَيْكُمْ تَرْجِعُ، فَمَكَّنْتُمُ الظَّلَمَةَ مِنْ مَنْزِلَتِكُمْ، وَأَلْقَيْتُمْ إِلَيْهِمْ أَزِمَّتَكُمْ، وَأَسْلَمْتُمْ أُمُورَ اللهِ فِي أَيْدِيهمْ، يَعْمَلُونَ بِالشُّبُهَاتِ، وَيَسِيرُونَ في الشَّهَوَاتِ، وَايْمُ اللهِ، لَوْ فَرَّقُوكُمْ تَحْتَ كُلِّ كَوْكَب، لَجَمَعَكُمُ اللهُ لِشَرِّ يَوْم لَهُمْ!

[ 106 ]
ومن خُطْبَة له(عليه السلام)
في بعض أيام صفين


     وَقَدْ رَأَيْتُ جَوْلَتَكُمْ، وَانْحِيَازَكُمْ عَنْ صُفُوفِكُمْ، تَحُوزُكُمُ الْجُفَاةُ الطَّغَامُ(1)،
____________
     1. الطَغام ـ كَجَراد ـ : أوغاد الناس.


( 239 )


وَأَعْرَابُ أَهْلِ الشَّامِ، وَأَنْتُمْ لَهَامِيمُ(1) الْعَرَبِ، وَيَآفِيخُ(2) الشَّرَفِ، وَالاَْنْفُ الْمُقَدَّمُ، وَالسَّنَامُ الاَْعْظَمُ، وَلَقَدْ شَفَى وَحَاوِحَ(3) صَدْرِي أَنْ رَأَيْتُكُمْ بِأَخَرَة(4)، تَحُوزُونَهُمْ كَمَا حَازُوكُمْ، وَتُزِيلُونَهُمْ عَنْ مَوَاقِفِهمْ كَمَا أَزَالُوكُمْ; حَسّاً(5) بالنِّصَالِ، وَشَجْراً(6) بِالرِّمَاحِ، تَرْكَبُ أُولاهُمْ أُخْرَاهُمْ كَالاِْبِلِ الْهِيمِ(7) الْمَطْرُودَةِ، تُرْمَى عَنْ حِيَاضِهَا، وَتُذَادُ(8) عَنْ مَوَارِدِهَا!
    
____________
     1. لهَامِيم: جمع لِهْمِيم ـ بكسر اللام ـ وهو السابق الجَوَاد من الخيل والناس.
     2. اليآفِيخ: جمع يَأفُوخ، وهو من الرأس حيث يلتقي عظم مقدّمه مع مؤخّره.
     3. الوَحَاوِح ـ جمع وَحْوَحة ـ : صوت معه بُحَحٌ يصدر عن المتألم، والمراد حُرْقة الغيظ.
     4. الاخَرَةُ ـ محركةً ـ : آخر الامر.
     5. الحَسّ ـ بفتح الحاء ـ : القتل. 6. الشّجْر ـ كالضرب ـ : الطعن.
     7. الهِيم ـ بكسر الهاء ـ : الابِل العِطاش. 8. تُذَادُ: تُمنَعُ.


( 240 )

[ 107 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
وهي من خطب الملاحم


[ الله تعالى ]


     الْحَمْدُ للهِِ الْمُتَجَلِّي لِخَلْقِهِ بِخَلْقِهِ، وَالظَّاهِرِ لِقُلُوبِهِمْ بِحُجَّتِهِ، خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّة، إِذْ كَانَتِ الرَّوِيَّاتُ لاَ تَلِيقُ إِلاَّ بِذَوي الضَّمائِرِ(1)، وَلَيْسَ بِذِي ضَمِير فِي نَفْسِهِ، خَرَقَ عِلْمُهُ بَاطِنَ غَيْبِ السُّتُرَاتِ(2)، وَأَحَاطَ بِغُمُوضِ عَقَائِدِ السَّرِيرَاتِ.

منها: في ذكر النبي(صلى الله عليه وآله)


     اخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَةِ الاَْنْبِيَاءِ، وَمِشْكَاةِ الضِّيَاءِ(3)، وَذُؤَابَةِ(4) الْعَلْيَاءِ، وَسُرَّةِ الْبَطْحَاءِ(5)، وَمَصَابِيحِ الظُّلْمَةِ، وَيَنَابِيعِ الْحِكْمَةِ.
____________
     1. المراد بـ «ذوي الضمائر» ذووالقلوب والحواسّ البدائية.
     2. السّترات: جمع سُتْرة، ما يُسْتَرُ به، أيّاً كان.
     3. المِشْكاة: كل كُوّة غير نافذة، ومن العادة أن يوضع فيها المصباح.
     4. الذّؤابة: الناصية، أومنبِتُها من الرأس.
     5. البَطْحاء: ما بين أخْشَبَيْ مكة، كانت تسكنه قبائل من قريش، ويقال لهم قريش البِطاح.


( 241 )


منها:


     طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ، وَأمْضى مَوَاسِمَهُ(1)، يَضَعُ من ذلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، مِنْ قُلُوب عُمْي، وَآذَان صُمٍّ، وَأَلْسِنَة بُكْم; مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ، وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ; لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ الْحِكْمَةِ، وَلَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ الْعُلُومِ الثَّاقِبَةِ; فَهُمْ فِي ذلِكَ كَالاَْنْعَامِ السَّائِمَةِ، وَالصُّخُورِ الْقَاسِيَةِ.
     قَدِ انْجَابَتِ السَّرائِرُ(2) لاَِهْلِ الْبَصَائِرِ، وَوَضَحَتْ مَحَجَّةُ الْحَقِّ )لِخَابِطِهَا(3)، وَأَسْفَرَتِ السَّاعَةُ عَنْ وَجْهِهَا، وَظَهَرَتِ الْعَلاَمَةُ لِمتَوَسِّمِهَا.
     مَا لي أَرَاكُمْ أَشْبَاحاً بِلاَ أَرْوَاح، وَأَرْوَاحاً بِلاَ أَشْبَاح، وَنُسَّاكاً بِلاَ صَلاَح، وَتُجَّاراً بِلاَ أَرْبَاح، وَأَيْقَاظاً نُوَّماً، وَشُهُوداً غُيَّباً، وَنَاظِرَةً عُمْيَاً، وسَامِعَةً صُمَّاً، وَنَاطِقَةً بُكْماً!
     رَايَةُ ضَلاَلة قَدْ قَامَتْ عَلَى قُطْبِهَا(4)، وَتَفرَّقَتْ بِشُعَبِهَا(5)، تَكِيلُكُمْ(6)

____________
     1. مَوَاسِمُه: جمع مِيسَم ـ بكسر الميم ـ وهو المِكْواة، يجمع على مواسم وَمَيَاسم.
     2. انجابَتْ، من قولهم: انجابت الناقة، إذا مدت عُنُقَها للحَلْب.
     3. خابطها: السائر عليها.
     4. قامت على قُطْبها: تمثيل لانتظام أمرها واستحكام قوتها.
     5. شُعَب: جمع شُعْبة وهو الفرع.
     6. تَكيلكم: أي تأخذكم للهلاك جملةً كما يأخذ الكيّال ما يكيله من الحَبّ.


( 242 )


بِصَاعِهَا، وَتَخْبِطُكُمْ بِبَاعِهَا(1). قَائِدُهَا خَارجٌ مِنْ الْمِلَّةِ، قَائِمٌ عَلَى الضِّلَّةِ; فَلاَ يَبْقَى يَوْمَئِذ مِنْكُمْ إِلاَّ ثُفَالَةٌ(2) كَثُفَالَةِ الْقِدْرِ، أَوْ نُفَاضَةٌ كَنُفَاضَةِ الْعِكْمِ(3)، تَعْرُكُكُمْ عَرْكَ الاَْدِيمِ(4)، وَتَدُوسُكُمْ دَوْسَ الْحَصَيدِ(5)، وَتَسْتَخْلِصُ الْمُؤْمِنَ مِنْ بَيْنِكُمُ اسْتَخْلاصَ الطَّيْرِ الْحَبَّةَ الْبَطِينَةَ(6) مِنْ بَيْنِ هَزِيلِ الْحَبِّ.
     أَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمُ الْمَذَاهِبُ، وَتَتِيهُ بِكُمُ الْغَيَاهِبُ، وَتَخْدَعُكُمُ الْكَوَاذِبُ؟ وَمِنْ أَيْنَ تُؤْتَوْنَ، وَأَنَّى تٌؤْفَكُون؟ فَلِكُلِّ أَجَل كِتَابٌ، وَلِكُلِّ غَيْبَة إِيَابٌ، فَاسْتَمِعُوا مِنْ رَبَّانِيِّكُمْ(7)، وَأَحْضِرُوهُ قُلُوبَكُمْ، واسْتَيْقِظُوا إِنْ هَتَفَ بِكُمْ(8)،
____________
     1. تَخْبِطكم: من «خَبَطَ الشجرة» ضربها بالعصيّ ليتناثر ورقها، أومن خبط البعير بيده الارضَ أي ضربها. وعبّر بالباع ليفيد استطالتها عليهم، وتناولها لقريبهم وبعيدهم.
     2. الثٌفالة ـ بالضم كالثّفل والثافل ـ : هو ما استقرّ تحت الشيء من كُدْرة. وثُقالة القِدْر: ما يبقى في قَعْرِهِ من عُكارة. والمراد: الارذال والسّفلة.
     3. النّفاضة: ما يسقط بالنفض. والعِكْم ـ بالكسر ـ : العِدْل بالكسر أيضاً، وَنَمَطٌ تجعل فيه المرأة ذخيرتها. والمراد ما يبقى بعد تفريغه في خلال نسيجه فينفض لينظف.
     4. العَرْك: شديد الدّلْك. وَعَرَكه: حَكّهُ حتى عفاه. والاديم: الجلد.
     5. الحَصِيد: المحصود.
     6. البَطِنة: السمينة.
     7. الرّبّاني ـ بتشديد الباء ـ : المتألّهِ العارف بالله عزوجل.
     8. هتف بكم: صاح بكم.


( 243 )


وَلْيَصْدُقْ رَائِدٌ(1) أَهْلَهُ، وَلْيَجْمَعْ شَمْلَهُ، وَلْيُحْضِرْ ذِهْنَهُ، فَلَقَدْ فَلَقَ لَكُمُ الاَْمْرَ فَلْقَ الْخَرَزَةِ، وَقَرَفَهُ قَرْفَ الصَّمْغَةِ(2)
.
     فَعِنْدَ ذلِكَ أَخَذَ الْبَاطِلُ مَآخِذَهُ، وَرَكِبَ الْجَهْلُ مَرَاكِبَهُ، وَعَظُمَتِ الطَّاغِيَةُ، وَقَلَّتِ الدَّاعِيَةُ، وَصَالَ الدَّهْرُ صِيَالَ السَّبُعِ الْعَقُورِ، وَهَدَرَ فَنِيقُ(3) الْبَاطِلِ بَعْدَ كُظُوم(4)، وَتَوَاخَى النَّاسُ عَلَى الْفُجْورِ، وَتَهَاجَرُوا عَلَى الدِّينِ، وَتَحَابُّوا عَلَى الْكَذِبِ، وَتَبَاغَضُوا عَلَى الصِّدْقِ.
     فَإِذَا كَانَ ذلِكَ كَانَ الْوَلَدُ غَيْظاً(5)، وَالْمَطَرُ قَيْظاً(6)، وَتَفِيضُ اللِّئَامُ فَيْضاً،
    وَتَغِيضُ الْكِرَامُ غَيْضاً(7)، وَكَانَ أَهْلُ ذلِكَ الزَّمَانِ ذِئَاباً، وَسَلاَطَينُهُ سِبَاعاً، وَأَوْسَاطُهُ أُكَّالاً، وَفُقَرَاؤُهُ أَمْوَاتاً، وَغَارَ الصِّدْقُ، وَفَاض الْكَذِبُ، وَاسْتُعْمِلَتِ الْمَوَدَّةُ بِاللِّسَانِ، وَتَشَاجَرَ النَّاسُ بِالْقُلُوبِ، وَصَارَ الْفُسُوقُ نَسَباً، وَالْعَفَافُ عَجَباً، وَلُبِسَ الاِْسْلاَمُ لُبْسَ الْفَرْوِ مَقْلُوباً.
____________
     1. الرائد: من يتقدم القوم ليكشف لهم مواضع الكَلا، ويتعرف سهولة الوصول اليها من صعوبته.
     2. قرف الصّمْغة: قشرها. وخصّ هذا بالذكر لان الصمغة إذا قُشِرت لا يبقى لها أثر.
     3. الفَنِيق: الفحل من الابل.
     4. كُظُوم: إمساك وسكون.
     5. كان الولد غيظاً: يغيظ والده لشُبُوبِهِ على العقوق. 6. القَيْظ: شدة الحر، والمراد بكون المطر قَيْظاً عدم فائدته. 7. تغيض: من «غاض الماء» إذا غار في الارض وجفّت ينابيعُهُ.


( 244 )

[ 108 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[في بيان قدرة الله وانفراده بالعظمة وأمر البعث]


[قدرة الله]


     كُلُّ شَيْء خَاشِعٌ لَهُ، وَكُلُّ شَيْء قَائِمٌ بِهِ: غِنى كُلِّ فَقِير، وَعِزُّ كُلِّ ذَلِيل، وَقُوَّةُ كُلِّ ضَعِيف، وَمَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوف، مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ، وَمَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ، وَمَنْ عَاشَ فَعَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَمَنْ مَاتَ فَإِلَيْهِ مُنْقَلَبُهُ.
     لَمْ تَرَكَ الْعُيُونُ فَتُخْبِرَ عَنْكَ، بَلْ كُنْتَ قَبْلَ الْوَاصِفِينَ مِنْ خَلْقِكَ، لَمْ تَخُلُقِ الْخَلْقَ لِوَحْشَة، وَلاَ اسْتَعْمَلْتَهُمْ لِمَنْفَعَة، وَلاَ يَسْبِقُكَ مَنْ طلَبْتَ، وَلاَ يُفْلِتُكَ(1) مَنْ أَخَذْتَ، وَلاَ يَنْقُصُ سُلْطَانَكَ مَنْ عَصَاكَ، وَلاَ يَزِيدُ في مُلْكِكَ مَنْ أَطَاعَكَ، وَلاَيَرُدُّ أَمْرَكَ مَنْ سَخِطَ قَضَاءَكَ، وَلاَيَسْتَغْنِي عَنْكَ مَنْ تَوَلَّى عَنْ أَمْرِكَ.
     كُلُّ سِرٍّ عِنْدَكَ عَلاَنِيَةٌ، وَكُلُّ غَيْب عِنْدَكَ شَهَادَةٌ. أَنْتَ الاَْبَدُ فَلاَ أَمَدَ لَكَ، وَأَنْتَ الْمُنْتَهَى فَلاَ مَحِيصَ عَنْكَ، وَأَنْتَ الْمَوْعِدُ فَلاَ مَنْجَى مِنْكَ إلاَّ إِلَيْكَ، بِيَدِكَ نَاصِيَةُ كُلِّ دَابَّة، وَإِلَيْكَ مَصِيرُ كُلِّ نَسَمَة.
     سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ شَأْنَكَ! سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ مَا نَرَى مِنْ خَلْقِكَ! وَمَا
____________
     1. لا يُفْلِتُكَ: لا يَنْفَلِتُ منك.


( 245 )


أصْغَرَ كُلَّ عَظِيمَة فِي جَنْبِ قُدْرَتِكَ! وَمَا أَهْوَلَ مَا نَرَى مِنْ مَلَكُوتِكَ! وَمَا أَحْقَرَ ذلِكَ فِيَما غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِكَ! وَمَا أَسْبَغَ نِعَمَكَ فِي الدُّنْيَا، وَمَا أَصْغَرَهَا فِي نِعَمِ الاْخِرَةِ!

منها: [في الملائكة الكرام]


     مِنْ مَلاَئِكَة أَسْكَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِكَ، وَرَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ; هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ، وَأَخْوَفُهُمْ لَكَ، وَأَقْرَبُهُمْ مِنْكَ; لَمْ يَسْكُنُوا الاَْصْلاَبَ، وَلَمْ يُضَمَّنُوا الاَْرْحَامَ، وَلَمْ يُخْلَقُوا
(مِنْ مَاء مَهين)(1)، وَلَمْ يَتَشَعَّبْهُمْ (رَيْبَ الْمَنُونِ)(2); وَإِنَّهُمْ عَلَى مَكَانِهمْ مِنْكَ، وَمَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَكَ، وَاسْتِجْمَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِيكَ، وَكَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ لَكَ، وَقِلَّةِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَمْرِكَ، لَوْ عَايَنُوا كُنْهَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ، وَلَزَرَوْا(3) عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ، وَلَمْ يُطِيعُوكَ حَقَّ طَاعَتِكَ.

[عصيان الخلق]


     سُبْحَانَكَ خَالِقاً وَمَعْبُوداً! بِحُسْنِ بَلاَئِكَ(4) عِنْدَ خَلْقِكَ، خَلَقْتَ دَاراً،
____________
     1. المَهِين: الحقير، يريد النُطْفَة.
     2. المَنُون: الدهر. والرّيْب: صَرْفُهُ. أي لم تفرّقهم صروف الزمان.
     3. زَرَى عليه ـ كرمى ـ : عَابَهُ.
     4. البلاء يكون نعمة ويكون نقمةً، وَيتعيّن الاول بإضافة الحسن اليه. أي: ما عبدوك الاّ شكراً لنعمتك عليهم.


( 246 )


وَجَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبـَةً(1): مَشْرَباً وَمَطْعَماً، وَأَزْوَاجاً وَخَدَماً، وَقُصُوراً، وَأَنْهَاراً، وَزُرُوعاً، وَثِمَاراً.
     ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا، فَلاَ الدَّاعِيَ أَجَابُوا، وَلاَ فِيَما رَغَّبْتَ رَغِبُوا، وَلاَ إِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اشْتَاقُوا.
     أَقْبَلُوا عَلَى جِيفَة قَدْ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا، وَاصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا، وَمَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى(2) بَصَرَهُ، وَأَمْرَضَ قَلْبَهُ، فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْن غَيْرِ صَحِيحَة، وَيَسْمَعُ بَأُذُن غَيْرِ سَمِيعَة، قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ، وَأَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَهُ، وَوَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ، فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا، وَلِمَنْ فِي يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا، حَيْثُـمَا زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا، وَحَيْثُما أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا; لاَ يَنْزَجِرُ مِنَ اللهِ بِزَاجِر، وَلاَيَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظ، وَهُوَ يَرَى الْمَأْخُوذِينَ عَلَى الْغِرَّةِ(3)، حَيْثُ لاَ إِقَالَةَ وَلاَ رَجْعَةَ، كَيْفَ نَزَلَ بِهمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ، وَجَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ، وَقَدِمُوا مِنَ الاْخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ. فَغَيْرُ مَوْصُوف مَا نَزَلَ بِهمْ: اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ وَحَسْرَةُ الْفَوْتِ، فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ،
____________
     1. المَأدُبة ـ بضم الدال وفتحها ـ : ما يصنع من الطعام للمدعوِّين في عرس ونحوه، والمراد منها هنا نعيم الجنة.
     2. أعْشاه: أعماه.
     3. على الغِرّة ـ بكسر الغين ـ : بغتة وعلى غفلة.


( 247 )


وَتَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ.
     ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً(1)، فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَبَيْنَ مَنْطِقِهِ، وَإِنَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ، وَيَسْمَعُ بِأُذُنِهِ، عَلَى صِحَّة مِنْ عَقْلِهِ، وَبَقَاء مِنْ لُبِّهِ، يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمْرَهُ، وَفِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ! وَيَتَذَكَّرُ أَمْوَالاً جَمَعَهَا، أَغْمَضَ(2) فِي مَطَالِبِهَا، وَأَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَمُشْتَبِهَاتِهَا، قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ(3) جَمْعِهَا، وَأَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا، تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا، وَيَتَمَتَّعُونَ بِهَا، فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ(4) لِغَيْرِهِ، وَالْعِبءُ(5) عَلَى ظَهْرِهِ. وَالْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ(6) بِهَا، فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ(7) عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ، وَيَزْهَدُ فِيَما كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمُرِهِ، وَيَتَمَنَّى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا وَيَحْسُدُهُ
____________
     1. وُلُوجاً: دُخُولاً.
     2. أغْمَض: لم يفرِّق بين حلال وحرام، كأنه أغمض عينيه فلا يميّز.
     3. تَبِعاتها ـ بفتح فكسر ـ : ما يطالبه به الناس من حقوقهم فيها، وما يحاسبه به الله من منع حقه منها وتخطّي حدود شرعه في جمعها.
     4. المَهْنأ: ما أتاك من خير بلا مشقة.
     5. العِبء: الحِمْل والثِّقَل.
     6. غَلِقَتْ رهُونُهُ: استحقّها مُرْتَهِنُهَا، وَأعْوَزَتْهُ القدرةُ على تخليصها، كناية عن تعذّر الخلاص.
     7. أصْحَرَ له: من «أصْحَرَ» إذا برز في الصحراء، أي على ما ظهر له وانكشف من أمره.


( 248 )


عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ!
     فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ [لِسَانُهُ ]سَمْعَهُ(1)، فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لاَ يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ، وَلاَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ: يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ في وجُوهِهِمْ، يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَلاَ يَسْمَعُ رَجْعَ كَلاَمِهِمْ.
     ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً(2) بِهِ، فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ، وَخَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ، فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ، قَدْ أوْ حَشُوا مِنْ جَانِبِهِ، وَتَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ. لاَ يُسْعِدُ بَاكِياً، وَلاَ يُجِيبُ دَاعِياً.
     ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٍّ فِي الاَْرْضِ، فَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَى عَمَلِهِ، وَانْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ(3)
.

[القيامة]


     حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، وَالاَْمْرُ مَقَادِيرَهُ، وَأُلْحِقَ آخِرُ الْخَلْقِ بِأَوَّلِهِ، وَجَاءَ مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا يُرِيدُهُ مِنْ تَجْدِيدِ خَلْقِهِ، أَمَادَ(4) السَّماءَ وَفَطَرَهَا(5)،
____________
     1. خالَطَ لسانُه سَمْعَهُ: شارك السمع اللسان في العجز عن أداءِ وظيفته.
     2. الْتِياطاً: التصاقاً به.
     3. زَوْرَته: زيارته.
     4. أمادها: حركها على غير انتظام.
     5. فَطَرَها: صَدَعَهَا.


( 249 )


وَأَرَجَّ الاَْرْضَ وَأَرْجَفَهَا، وَقَلَعَ جِبَالَها وَنَسَفَهَا، وَدَكَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَيْبَةِ جَلاَلَتِهِ وَمَخُوفِ سَطْوَتِهِ، وَأَخْرَجَ مَنْ فِيهَا، فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إِخْلاَقِهمْ(1)، وَجَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفْرِيِقِهِم، ثُمَّ مَيَّزَهُمْ لِمَا يُريدُهُ مَنْ مَسْأَلَتِهِمْ عَنْ [خَفَايَا ]الاَْعْمَالِ وَخَبَايَا الاَْفْعَالِ، وَجَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ: أَنْعَمَ عَلَى هؤُلاَءِ وَانْتَقَمَ مِنْ هؤُلاَءِ.
     فَأَمَّا أَهْلُ الطَّاعَةِ فَأَثَابَهُمْ بِجِوَارِهِ، وَخَلَّدَهُمْ في دَارِهِ، حَيْثُ لاَ يَظْعَنُ النُّزَّالُ، وَلاَ تَتَغَيَّرُ بِهِمُ الْحَالُ، وَلاَ تَنُوبُهُمُ الاَْفْزَاعُ(2)، وَلاَ تَنَالُهُمُ الاَْسْقَامُ، وَلاَ تَعْرِضُ لَهُمُ الاَْخْطَارُ، وَلاَ تُشْخِصُهُمُ(3) الاَْسْفَارُ.
     وَأَمَّا أَهْلُ الْمَعْصِيَةِ فَأَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَار، وَغَلَّ الاَْيْدِيَ إِلَى الاَْعْنَاقِ، وَقَرَنَ النَّوَاصِيَ بِالاَْقْدَامِ، وَأَلْبَسَهُمْ سَرَابِيلَ الْقَطِرَانِ(4)، وَمُقَطَّعَاتِ(5) النِّيرَانِ، فِي
____________
     1. إخْلاقهم: من قولهم: «ثوب خَلَق، وثياب أخلاق»، والمراد أن البِلى يشملهم كما يشمل الثياب البالية.
     2. لا تَنُوبهم الافْزَاع: جمع فَزَع، بمعنى الخوف. تنوبهم: تنتابهم.
     3. أشْخَصَهُ: أزعجه.
     4. السّرْبال: القميص. والقَطِران معروف.
     5. المقَطّعَات: كل ثوب يُقَطّعُ كالقميص والجبة ونحوها، بخلاف ما لا يُقَطّع كالازار والرداء.


( 250 )


عَذَاب قَدِ اشْتَدَّ حَرُّهُ، وَبَاب قَدْ أُطْبِقَ عَلَى أَهْلِهِ، فِي نَار لَهَا كَلَبٌ(1) وَلَجَبٌ(2)، وَلَهَبٌ سَاطِعٌ، وَقَصِيفٌ(3) هَائِلٌ، لاَ يَظْعَنُ مُقِيمُهَا، وَلاَ يُفَادَى أَسِيرُهَا، وَلاَ تُفْصَمُ كُبُولُهَا(4). لاَ مُدَّةَ لِلدَّارِ فَتَفْنَى، وَلاَ أَجَلَ لِلْقَوْمِ فَيُقْضَى.

منها: في ذكر النبي(صلى الله عليه وآله)


     قَدْ حَقَّرَ الدُّنْيَا وَصَغَّرَهَا، وَأَهْوَنَ بَهَا وَهَوَّنَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ تعالى زَوَاهَا(5) عَنْهُ اخْتِيَاراً، وَبَسَطَهَا لِغَيْرِهِ احْتِقَاراً، فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، وَأَمَاتَ ذِكْرَهَا عَنْ نَفْسِهَ، وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ، لِكَيْلاَ يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً(6)، أوْ يَرْجُوَفِيهَا مَقَاماً.
     بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً(7)، وَنَصَحَ لاُِمَّتِهِ مُنْذِراً، وَدَعاَ إِلَى الْجَنَّةِ مُبَشِّراً،
____________
     1. عبّر «بالكَلَب» ـ محرّكاً ـ عَن هَيَجَانها.
     2. اللّجَب: الصوت المرتفع.
     3. القَصِيف: أشدّ الصوت.
     4. كُبُول جمع كَبْل ـ بفتح فسكون ـ : القيد. وتُفْصَمُ: تنقطع.
     5. زَوَاها: قَبَضَهَا. 6. الرِّيَاش: اللباس الفاخر.
     7. مُعْذِراً: مبيّناًلله حجةً تقوم مقام العذر في عقابهم إن خالفوا أمره.


( 251 )


[وَخَوَّفَ مِنَ النَّارِ مُحَذِّراً].

[أهل البيت(عليه السلام)]


     نَحْنُ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ، وَمَحَطُّ الرِّسَالَةِ، وَمُخْتَلَفُ الْمَلاَئِكَةِ(1)، وَمَعَادِنُ الْعِلْمِ، وَيَنَابِيعُ الْحُكْمِ، نَاصِرُنا وَمُحِبُّنَا يَنْتَظِرُ الرَّحْمَةَ، وَعَدُوُّنا وَمُبْغِضُنَا يَنْتَظِرُ السَّطْوَةَ.

[ 109 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[في أركان الدين]


[الاسلام]


     إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ الْمُتَوَسِّلُونَ إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ: الاِْيمَانُ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَالْجِهادُ فِي سَبِيلِهِ فَإِنَّهُ ذِرْوَةُ الاِْسْلاَمِ، وَكَلِمَةُ الاِْخْلاَصِ فَإِنَّهَا الْفِطْرَةُ، وَإِقَامُ الْصَّلاَةِ فَإِنَّهَا الْمِلَّةُ، وَإِيتَاهُ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ، وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنَ الْعِقَاب، وَحَجُّ الْبَيْتِ وَاعْتَِمارُهُ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَيَرْحَضَانِ الذَّنْبَ(2)، وَصِلَةُ الرَّحِمِ فَإِنَّهَا مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ وَمَنْسَأَةٌ(3) في
____________
     1. مُخْتَلَف الملائكة ـ بفتح اللام ـ : محل اختلافهم أي ورود واحد منهم بعد الاخر، فيكون الثاني كأنه خَلَف للاول، وهكذا.
     2. رَحَضَه ـ كمنعه ـ : غَسَلَه.
     3. مَنْسَأة: مَطَالٌ فيه ومَزيد.


( 252 )


الاَْجَلِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ فَإِنَّهَا تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ، وَصَدَقَةُ الْعَلاَنِيَةِ فَإِنَّهَا تَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ، وَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهَا تَقِي مَصَارعَ الْهَوَانِ.
     أَفِيضُوا في ذِكْرِ اللهِ فَأنَّهُ أَحْسَنُ الذِّكْرِ، وَارْغَبُوا فِيَما وَعَدَ المُتَّقِينَ فَإِنَّ وَعْدَهُ أَصْدَقُ الْوَعْدِ، وَاقْتَدُوا بِهَدْيِ نَبِيِّكُمْ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الْهَدْيِ، وَاسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ فَإِنَّهَا أهْدَى السُّنَنِ.

[فضل القرآن]


     وَتَعَلَّمُوا الْقرْآن [فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ، وَتَفَقَّهُوا فِيهِ] فَإِنَّهُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ، وَاسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ، وَأَحْسِنُوا تِلاَوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ الْقَصَصِ.
     وَإِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لاَ يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ، بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ، وَالْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ، وَهُوَ عَنْدَ اللهِ أَلْوَمُ(1)
.

[ 110 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[في ذم الدنيا]


     أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا حُلْوَةٌ خَضِرِةٌ، حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، وَتَحَبَّبَتْ بِالْعَاجِلَةِ، وَرَاقَتْ بِالْقَلِيلِ، وَتَحَلَّتْ بِالاْمَالِ، وَتَزَيَّنَتْ بِالْغُرُورِ، لاَ تَدُومُ حَبْرَتُهَا(2)، وَلاَ تُؤْمَنُ فَجْعَتُهَا، غَرَّارَةٌ ضَرَّارَةٌ، حَائِلَةٌ(3) زَائِلَةٌ،
____________
     1. ألْوَمُ: أشد لوماً لنفسه، لانه لا يجد عذراً يقبل أويرد.
     2. الحَبْرَة ـ بالفتح ـ : السرور والنعمة.
     3. حائلة: متغيّرة.


( 253 )


نَافِدَةٌ(1)بَائِدَةٌ(2)، أَكَّالَةٌ غَوَّالَةٌ(3)، لاَ تَعْدُوـ إِذَا تَنَاهَتْ إِلَى أُمْنِيَّةِ أَهْلِ الرَّغْبَةِ فِيهَا والرضى بِهَا ـ أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ وتعالى:
(كَمَاء أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّماَءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الاَْرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً(4) تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْء مُقْتَدِراً).
     لَمْ يَكُنِ امْرُؤٌ مِنْهَا فِي حَبْرَة إِلاَّ أَعْقَبَتْهُ بَعْدَهَا عَبْرَةً(5)، وَلَمْ يَلْقَ منْ سَرَّائِهَا بَطْناً(6) إِلاَّ مَنَحَتْهُ مِنْ ضَرَّائِهَا ظَهْراً(7)، وَلَمْ تَطُلَّهُ(8) فِيهَا دِيمَةُ(9)

____________
     1. نافدة: فانية. 2. بائدة: هالكة.
     3. غَوّالة: مُهْلِكة.
     4. الهَشِيم: النبت اليابس المكسّر.
     5. العَبْرَة ـ بالفتح ـ : الدمعة قبل أن تفيض.
     6. كنّى «بالبطن» عن الاقبال.
     7. كنّى «بالظهر» عن الادبار.
     8. الطَلّ: المطر الخفيف. وطَلّتْهُ السماء: أمطرتْه مطراً قليلاً.
     9. الدّيمة: مطر يدوم في سكون، لا رعد ولا برق معه.


( 254 )


رَخَاء(1) إِلاَّ هَتَنَتْ(2) عَلَيهِ مُزْنَةُ بَلاَء! وَحَرِيٌّ إِذَا أَصْبَحَتْ لَهُ مُنْتَصِرَةً أَنْ تُمْسِيَ لَهُ مُتَنَكِّرَةً، وَإِنْ جَانِبٌ مِنْهَا اعْذَوْذَبَ وَاحْلَوْلَى، أَمَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ فَأَوْبَى(3)
!
     لاَ يَنَالُ امْرُؤٌ مِنْ غَضَارَتِهَا(4) رَغَباً(5)، إِلاَّ أَرْهَقَتْهُ(6) مِنْ نَوَائِبِهَا تَعَباً! وَلاَ يُمْسِي مِنْهَا فِي جَنَاحِ أَمْن، إِلاَّ أَصْبَحَ عَلَى قَوَادِمِ(7) خَوْف! غَرَّارَةٌ، غُرُورٌ مَا فِيهَا، فَانِيَةٌ، فَان مَنْ عَلَيْهَا، لاَ خَيْرَ في شَيْء مِنْ أَزْوَادِهَا إِلاَّ التَّقْوَى.
     مَنْ أَقَلَّ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُؤْمِنُهُ! وَمَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا
____________
     1. الرّخاء: السّعة.
     2. هَتَنَتِ المُزْن: انصبّت.
     3. أوْبى: صار كثير الوباء، والوباء هو المعروف بالريح الاصفر.
     4. الغَضَارة: النعمة والسّعة.
     5. الرّغَب ـ بالتحريك ـ : الرغبة والمرغوب.
     6. أرْهَقَتْهُ التعب: ألحقَتْهُ به.
     7. القَوَادِم: جمع قادِمة، الواحدة من أربع أوعشر ريشات في مقدّم جناح الطائر، وهي القوادم، والعَشْر التي تحتها هي الخَوَافي.


( 255 )


يُوبِقُهُ(1)، وَزَالَ عَمَّا قَلِيل عَنْهُ.
     كُمْ مِنْ وَاثِق بِهَا قَدْ فَجَعَتْهُ، وَذِي طُمَأْنِينَة إِلَيْهَا قَدْ صَرَعَتْهُ، وَذِي أُبَّهَة(2) قَدْ جَعَلَتْهُ حَقِيراً، وَذِي نَخْوَة(3) قَدْ رَدَّتْهُ ذَلِيلاً!
     سُلْطَانُهَا دُوَّلٌ(4)، وَعَيْشُهَا رَنِقٌ(5)، وَعَذْبُهَا أُجَاجٌ(6)، وَحُلْوُهَا صَبِرٌ(7)، وَغِذَاؤُهَا سِمَامٌ(8)، وَأَسْبَابُهَا رِمَامٌ(9)! حَيُّهَا بِعَرَضِ مَوْت، وَصَحِيحُهَا بَعَرَضِ سُقْم! مُلْكُهَا مَسْلُوبٌ، وَعَزِيزُهَا مَغْلُوبٌ، وَمَوْفُورُهَا(10) مَنْكُوبٌ،
____________
     1. يُوبِقُهُ: يُهْلكه.
     2. أُبّهَة ـ بضم فتشديد ـ : عظَمَة. 3. النَّخْوَة ـ بفتح النون ـ : الافتخار.
     4. دُوَّل ـ بضم الدال وفتح الواوالمشددة ـ : المتحوِّل.
     5. رَنِق ـ بفتح فكسر ـ : كَدِر.
     6. أُجاج: شديد المُلوحة.
     7. الصّبِر ـ كَكَتِف ـ : عُصارة شجر مُرّ.
     8. سِمام: جمع سم، مثلّث السين وهو من المواد ما إذا خالط المزاجَ أفسده فقتل صاحبه.
     9. رِمام: جمع رُمّة بالضم: وهي القطعة البالية من الحبل.
     10. مَوْفُورها: ما كثر منها. مصاب بالنكبة، وهي المصيبة: أي في مَعْرِض لذلك.


( 256 )


وَجَارُهَا مَحْرُوبٌ(1)
.
     أَلَسْتُمْ فِي مَسَاكِنِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَطْوَلَ أَعْمَاراً، وَأَبْقَى آثَاراً، وَأَبْعَدَ آمَالاً، وَأَعَدَّ عَدِيداً، وَأَكْثَفَ جُنُوداً! تَعَبَّدُوا لِلدُّنْيَا أَيَّ تَعَبُّد، وَآثَرُوهَا أَيَّ إِيثَار، ثُمَّ ظَعَفُوا عَنْهَا بَغَيْرِ زَاد مُبَلِّغ وَلاَ ظَهْر قَاطِع(2)
.
     فَهَلْ بَلَغَكُمْ أَنَّ الدُّنْيَا سَخَتْ لَهُمْ نَفْساً بِفِدْيَة(3)؟ أَوْ أَعَانَتْهُمْ بِمَعُونَة؟ أَوْ أَحْسَنَتْ لَهُمْ صُحْبَةً؟ بَلْ أَرْهَقَتْهُمْ بَالْفَوَادِحِ(4)، وَأوْهَنَتْهُمْ بِالْقَوَارِعِ(5)، وَضَعْضَعَتْهُمْ(6) بِالنَّوَائِبِ، وَعَفَّرَتْهُمْ(7) لِلْمَنَاخِرَ، وَوَطِئَتْهُمْ بَالْمَنَاسِمِ(8)،
____________
     1. مَحْرُوب: من «حَرَبَهُ حَرْباً» ـ بالتحريك ـ إذا سلب ماله.
     2. ظهر قاطع: راحلة تُرْكَبُ لقطع الطريق.
     3. الفِدْية: الفِداء.
     4. أَرْهَقَتْهُمْ: غَشِيَتْهُمْ. الفوادح ـ من فدحه الامر ـ إذا أثقله.
     5. القوارع: المِحَن والدواهي.
     6. ضَعْضَعَتْهُمْ: ذَلّلَتْهُمْ.
     7. عَفّرَتْهم: كَبّتْهُمْ على مَنَاخِرَهِم في العَفَر، وهو التراب.
     8. المَنَاسِم: جمع مِنْسَمْ، وهو مقدّم خُفّ البعير، أوالخُفّ نفسه.


( 257 )


وَأَعَانَتْ عَلَيْهِمْ
(رَيْبَ الْمَنُونِ)، فَقَدْ رَأَيْتُمْ تَنَكُّرَهَا لِمَنْ دَانَ لَهَا(1)، وَآثَرَهَا وَأَخْلَدَ إِلَيْهَا(2)، حِينَ ظَعَنُوا عَنْهَا لَفِرَاقِ الاَْبَدِ.
     هَلْ زَوَّدَتْهُمْ إِلاَّ السَّغَبَ(3)؟ أَوْ أَحَلَّتْهُمْ إِلاَّ الضَّنْكَ(4)؟ أوْ نَوَّرَتْ لَهُمْ إِلاَّ الظُّلْمَةَ؟ أَوْ أَعْقَبَتْهُمْ إِلاَّ النَّدَامَةَ؟
     أَفَهذِهِ تُؤْثِرُونَ؟ أَمْ إِلَيْهَا تَطْمَئِنُّونَ؟ أَمْ عَلَيْهَا تَحْرِصُونَ؟ فَبِئْسَتِ الدَّارُ لَمَنْ لَمْ يَتَّهِمْهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا عَلَى وَجَل مِنْهَا!
     فَاعْلَمُوا ـ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ـ بِأَنَّكُمْ تَارِكُوهَا وَظَاعِنُونَ عَنْهَا، وَاتَّعِظُوا فِيهَا بِالَّذِينَ
(قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً): حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ فَلاَ يُدْعَوْنَ رُكْبَاناً(5)، وَأُنْزِلُوا [الاَْجْدَاثَ](6)فَلاَ يُدْعَوْنَ ضِيفَاناً، وَجُعِلَ لَهُمْ مِنَ الصَّفِيحِ(7)
____________
     1. دَان لها: خضع.
     2. أخلدَ لها: ركن إليها.
     3. السّغَب ـ بالتحريك ـ : الجوع.
     4. الضّنْكَ: الضّيق.
     5. لا يُدْعَوْنَ رُكباناً: لا يقال لهم رُكْبان: جمع راكب، لان الراكب من يكون مختاراً، وله التصرّف في مركوبه.
     6. الاجْدَاث: القبور.
     7. الصّفِيح: وَجْهُ كل شيء عريض، والمراد وجه الارض.


( 258 )


أَجْنَانٌ(1)، وَمِنَ التُّرَابِ أَكْفَانٌ، وَمِنَ الرُّفَاتِ(2) جِيرَانٌ، فَهُمْ جِيرَةٌ لاَ يُجِيبُونَ دَاعِياً، وَلاَ يَمْنَعُونَ ضَيْماً، وَلاَ يُبَالُونَ مَنْدَبَةً، إِنْ جِيدُوا(3) لَمْ يَفْرَحُوا، وَإِنْ قُحِطُوا لَمْ يَقْنَطُوا، جَمِيعٌ وَهُمْ آحَادٌ، وَجِيرَةٌ وَهُمْ أَبْعَادٌ، مُتَدَانُونَ لاَ يَتَزَاوَرُونَ، وَقَرِيبُونَ لاَ يَتَقَارَبُونَ، حُلَمَاءُ قَدْ ذَهَبَتْ أَضْغَانُهُمْ، وَجُهَلاءُ قَدْ مَاتَتْ أَحْقَادُهُمْ، لاَ يُخْشَى فَجْعُهُمْ(4)، وَلاَ يُرْجَى دَفْعُهُمْ، اسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ الاَْرْضِ بَطْناً، وَبِالسَّعَةِ ضِيقاً، وَبِالاَْهْلِ غُرْبَةً، وَبِالنُّورِ ظُلْمَةً، فَجَاؤُوهَا كَمَا فَارَقُوهَا، حُفَاةً عُرَاةً، قَدْ ظَعَنُوا عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ إِلَى الْحَيَاةِ الْدَّائِمَةِ وَالدَّارِ الْبَاقِيَةِ، كَمَا قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ:
(كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْق نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ).

[ 111 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
ذكر فيها ملك الموت وتوفية الانفس
[وعجز الخلق عن وصف الله]


     هَلْ تُحِسُّ بِهِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلاً؟ أَمْ هَلْ تَرَاهُ إِذَا تَوَفَّى أَحَداً؟ بَلْ كَيْفَ يَتَوَفَّى
____________
     1. الاجْنان: جمع جَنَن ـ بالتحريك ـ وهو القبر.
     2. الرُفات: العظام المندقّة المحطومة.
     3. جِيدُوا ـ بالبناء للمجهول ـ : مُطِرُوا.
     4. لا يُخْشى فَجْعُهم: لا تَخافُ منهم أن يَفْجعوك بضرر.


( 259 )


الْجَنِينَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ؟! أَيَلِجُ(1) عَلَيْهِ مِنْ بَعْضِ جَوَارِحِهَا؟ أَمِ الرُّوحُ أَجَابَتْهُ بَإِذْنِ رَبِّهَا؟ أَمْ هُوَ سَاكِنٌ مَعَهُ فِي أَحْشَائِهَا؟ كَيْفَ يَصِفُ إِلهَهُ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوق مِثْلِهِ؟!

[ 112 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[في ذم الدنيا]


     وَأُحَذّرُكُمُ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَة(2)، وَلَيْسَتْ بِدَارِ نُجْعَة(3)، قَدْ تَزَيَّنَتْ بَغُرُورِهَا، وَغَرَّتْ بِزِينَتِهَا، دَارُهَا هَانَتْ عَلَى رَبِّهَا، فَخَلَطَ حَلاَلَهَا بِحَرَامِهَا، وَخَيْرَهَا بِشَرِّهَا، وَحَيَاتَهَا بِمَوتِهَا، وَحُلْوَهَا بِمُرِّهَا، لَمْ يُصْفِهَا اللهُ لاَِوْلِيَائِهِ، وَلَمْ يَضِنَّ بِهَا عَلَى أَعْدَائِهِ، خَيْرُهَا زَهِيدٌ، وَشَرُّهَا عَتِيدٌ(4)، وَجَمْعُهَا يَنْفَدُ، وَمُلْكُهَا يُسْلَبُ، وَعَامِرُهَا يَخْرَبُ. فَمَا خَيْرُ دَار تُنْقَضُ نَقْضَ الْبِنَاءَ، وَعُمُر يَفْنَى فَنَاءَ الزَّادِ، وَمُدَّة تَنْقَطِعُ انْقِطَاعَ السَّيْرِ!
     فاجْعَلُوا مَا افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنْ طَلِبَتِكُمْ، وَاسْأَلُوهُ مِنْ أَدَاءِ حَقِّهِ مَا
____________
     1. يَلِجُ: يدخل.
     2. القُلْعة ـ بضم القاف وسكون اللام ـ : ليست بمُسْتَوْطَنَة.
     3. النُجْعة ـ بضم النون ـ : طلب الكلافي موضعه، أي ليست محطّ الرحال ولا مبلغ الامال.
     4. عَتِيد: حاضر.


( 260 )


سَأَلَكُمْ، وَأَسْمِعُوا دَعْوَةَ الْمَوْتِ آذَانَكُمْ قَبْلَ أَنْ يُدْعَى بِكُمْ.
     إِنَّ الزَّاهِدِينَ في الدُّنْيَا تَبْكِي قُلُوبُهُمْ وَإِنْ ضَحِكُوا، وَيَشْتَدُّ حُزْنُهُمْ وَإِنْ فَرِحُوا، وَيَكْثُرُ مَقْتُهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَإِنِ اغْتُبِطُوا(1) بِمَا رُزِقُوا.
     قَدْ غَابَ عَنْ قُلُوبِكُمْ ذِكْرُ الاْجَالِ، وَحَضَرَتْكُمْ كَوَاذِبُ الاْمَالِ، فَصَارَتِ الدُّنْيَا أَمْلَكَ بِكُمْ مِنَ الاْخِرَةِ، وَالْعَاجِلَةُ أَذْهَبَ بِكُمْ مِنَ الاْجِلَةِ، وَاِِنَّمَا أَنْتُم إِخْوَانٌ عَلَى دِينِ اللهِ، مَا فَرَّقَ بَيْنَكُمْ إِلاَّ خُبْثُ السَّرَائِرَ، وَسُوءُ الضَّمائِرِ، فَلاَ تَوَازَرُونَ، وَلاَ تَنَاصَحُونَ، وَلاَ تَبَاذَلُونَ، وَلاَ تَوَادُّونَ.
     مَا بَالُكُمْ تَفْرَحُونَ بِالْيَسِيرَ مِنَ الدُّنْيَا تُدْرِكُونَهُ، وَلاَ يَحْزُنُكُمُ الْكَثِيرُ مِنَ الاخِرَةِ تُحْرَمُونَهُ! وَيُقْلِقُكُمُ الْيَسِيرُ مِنَ الدُّنْيَا يَفُوتُكُمْ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ ذلِكَ فِي وُجُوهِكُمْ، وَقَلَّةِ صَبْرِكُمْ عَمَّا زُوِيَ(2) مِنْهَا عَنْكُمْ! كَأَنَّهَا دَارُ مُقَامِكُمْ، وَكَأَنَّ مَتَاعَهَا بَاق عَلَيْكُمْ.
     وَمَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلَ أَخَاهُ بِمَا يَخَافُ مِنْ عَيْبِهِ، إِلاَّ مَخَافَةُ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ بِمِثْلِهِ، قَدْ تَصَافَيْتُمْ عَلَى رَفْضِ الاْجِلِ وَحُبِّ الْعَاجِلِ، وَصَارَ دِينُ أَحَدِكُمْ لُعْقَةً(3) عَلَى لِسَانِهِ، صَنِيعَ مَنْ قَدْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ، وَأَحْرَزَ رِضَى سَيِّدِهِ.
____________
     1. اغْتُبِطُوا ـ بالبناء للمجهول ـ : غبطهم غيرُهم بما آتاهم الله من الرزق.
     2. زُوّيَ: من «زَوّاه» إذا نحّاه.
     3. عبّر «باللّعْقة» عن الاقرار باللسان مع ركون القلب إلى مخالفته.


( 261 )

[ 113 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[وفيها مواعظ للناس]


     الْحَمْدُ للهِ الْوَاصِلِ الْحَمْدَ بِالنِّعَمِ وَالنِّعَمَ بِالشُّكْرِ، نَحْمَدُهُ عَلَى آلاَئِهِ كَمَا نَحْمَدُهُ عَلَى بَلاَئِهِ، وَنَسْتَعِينُهُ عَلَى هذِهِ النُّفُوسِ الْبِطَاءِ(1) عَمَّا أُمِرَتْ بِهِ، السِّرَاعِ(2) إِلَى مَا نُهِيَتْ عَنْهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ مِمَّا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ، وَأَحْصَاهُ كِتَابُهُ: عِلْمٌ غَيْرُ قَاصِر، وَكِتَابٌ غَيْرُ مُغَادِر(3)، وَنُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ عَايَنَ الْغُيُوبَ، وَوَقَفَ عَلَى الْمَوْعُودِ، إِيمَاناً نَفَى إِخْلاَصُهُ الشِّرْكَ، وَيَقِينُهُ الشَّكَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، شَهَادَتَيْنِ تُصْعِدَانِ الْقَوْلَ، وَتَرْفَعَانِ الْعَمَلَ، لاَيَخِفُّ مِيزَانٌ تُوضَعَانِ فِيهِ، وَلاَ يَثْقُلُ مِيزَانٌ تُرْفَعَانِ مِنُهُ.
     أُوصِيكُمْ، عِبَادَ اللهِ، بَتَقْوَى اللهِ الَّتي هِيَ الزَّادُ وَبِهَا الْمَعَاذُ: زَادٌ مُبْلِغٌ وَمَعَاذٌ مُنْجِحٌ، دَعَا إِلَيْهَا أَسْمَعُ دَاع، وَوَعَاهَا(4) خَيْرُ وَاع، فَأَسْمَعَ دَاعِيهَا،
____________
     1. البِطاء ـ بكسر الباء ـ : جمع بطيئة.
     2. السِّرَاع: جمع سريعة.
     3. غير مُغَادِر: غير تارك شيئاً إلاّ أحاط به.
     4. وَعَاها: حَفِطها وفهمها.


( 262 )


وَفَازَ وَاعِيهَا.
     عِبَادَ اللهِ، إِنَّ تَقْوَى اللهِ حَمَتْ(1) أوْلِيَاءَ اللهِ مَحَارِمَهُ، وَأَلْزَمَتْ قُلُوبَهُمْ مَخَافَتَهُ، حَتَّى أَسهَرَتْ لَيَالِيَهُمْ، وَأَظْمَأَتْ هَوَاجِرَهُمْ(2); فَأَخَذُوا الرَّاحَةَ بِالنَّصَبِ(3)، وَالرِّيَّ بِالظَّمَإِ، وَاسْتَقْرَبُوا الاَْجَلَ فَبَادَرُوا الْعَمَلَ، وَكَذَّبُوا الاَْمَلَ فَلاَحَظُوا الاَْجَلَ.
     ثُمَّ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ فَنَاء، وَعَنَاء، وَغِيَر، وَعِبَر:
     فَمِنَ الْفَنَاءِ أَنَّ الدَّهْرَ مُوتِرٌ قَوْسَهُ(4)، لاَ تُخْطِىءُ سِهَامُهُ، وَلاَ تُؤْسَى(5) جِرَاحُهُ، يَرْمِي الْحَيَّ بِالْمَوْتِ، وَالصَّحِيحَ بِالسَّقَمِ، وَالنَّاجِيَ بِالْعَطَبِ، آكِلٌ لاَ يَشْبَعُ، وَشَارِبٌ لاَ يَنْقَعُ(6)
.
     وَمِنَ الْعَنَاءِ أَنَّ الْمَرْءَ يَجْمَعُ مَا لاَ يَأْكُلُ، وَيَبْني مَا لاَ يَسْكُنُ، ثُمَّ يَخْرُجُ
____________
     1. حَمَى الشيء: منعه، أي منعتهم ارتكاب محرّماته.
     2. الهَوَاجر: جمع هاجرة، شدة حرّ النهار، وقد أُظْمِئَتْ هذه الهواجرُ بالصيام.
     3. النّصَب: التعب.
     4. الدّهْر مُوتِرٌ قوْسَهُ: شَبّهه بمن أوْتَرَ قوسَهُ ليرمي بها أبناءه.
     5. تُؤسى: تُداوى، من «أسَوْتُ الجراح» داويته. 6. لا يَنْقَع: لا يَشْتَفِي من العطش بالشرب.


( 263 )


إِلَى اللهِ، لاَ مَالاً حَمَلَ، وَلاَ بِنَاءً نَقَلَ!
     وَمِنْ غِيَرِهَا(1) أَنَّكَ تَرَى الْمَرْحُومَ مَغْبُوطاً، والْمَغْبُوطَ مَرْحُوماً، لَيْسَ ذلِكَ إِلاَّ نَعِيماً زَلَّ(2)، وَبُؤْساً نَزَلَ.
     وَمِنْ عِبَرِهَا أَنَّ المَرْءَ يُشْرِفُ عَلَى أَمَلِهِ فَيَقْتَطِعُهُ حُضُورُ أَجَلِهِ، فَلاَ أَمَلٌ يُدْرَكُ، وَلاَ مُؤَمَّلٌ يُتْرَكُ.
     فَسُبْحَانَ اللهِ، مَا أَعَزَّ سُرُورَهَا! وَأَظْمَأَ رِيَّهَا! وَأَضْحَى فَيْئَهَا(3)! لاَ جَاء يُرَدُّ(4)، وَلاَ مَاض يَرْتَدُّ.
     فَسُبْحَانَ اللهِ، مَا أَقْرَبَ الْحَيَّ مِنَ المَيِّتِ لِلَحَاقِهِ بِهِ، وَأَبْعَدَ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ لاِنْقِطَاعِهِ عَنْهُ!
     إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِشَرٍّ مِنَ الشَّرِّ إِلاَّ عِقَابُهُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ بِخَيْر مِنَ الْخَيْرِ إِلاَّ ثَوَابُهُ، وَكُلُّ شَيْء مِنَ الدُّنْيَا سَمَاعُهُ أَعْظَمُ مِنْ عِيَانِهِ، وَكُلُّ شَيْء مِنَ الاْخِرَةِ عِيَانُهُ أَعْظَمُ مِنْ سَمَاعِهِ، فَلْيَكْفِكُمْ مِنَ الْعِيَانِ السَّمَاعُ، وَمِنَ الْغَيْبِ الْخَبَرُ.
     وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا نَقَصَ مِنَ الدُّنْيَا وَزَادَ في الاْخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا نَقَصَ مِنَ
____________
     1. غِيَرُها ـ بكسر الغين وفتح الراء ـ : تقلّباتها.
     2. ليس ذلك إلاّ نعيماً زَلّ: من «زَلّ فلان زَليلاً وَزُلُولاً» إذا مرّ سريعاً. والمراد: انتقل.
     3. أضْحى: برز للشمس. والفَيْء: الظلّ بعد الزوال، أومطلقاً.
     4. لا جاء يُرَدّ: الجائي يريد به الموتَ.


( 264 )


الاْخِرَةِ وَزَادَ فِي الدُّنْيَا: فَكَمْ مِنْ مَنْقُوص رَابح وَمَزِيد خَاسِر! إنَّ الَّذي أُمِرْتُمْ بِهِ أَوْسَعُ مِنَ الَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ، وَمَا أُحِلَّ لَكُمْ أَكْثَرُ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، فَذَرُوا مَا قَلَّ لِمَا كَثُرَ، وَمَا ضَاقَ لِمَا اتَّسَعَ.
     قَدْ تُكُفِّلَ لِكُمْ بِالرِّزْقِ، وَأُمِرْتُمْ بَالْعَمَلِ، فَلاَ يَكُونَنَّ الْمَضْمُونُ لَكُمْ طَلَبُهُ أَوْلَى بِكُمْ مِنَ الْمَفْرُوضِ عَلَيْكُمْ عَمَلُهُ، مَعَ أَنَّهُ واللهِ لَقَدِ اعْتَرَضَ الشَّكُّ، وَدَخِلَ(1) الْيَقِينُ، حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي ضُمِنَ لَكُمْ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ، وَكَأَنَّ الَّذِي قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ قَدْ وُضِعِ عَنْكُمْ.
     فَبَادِرُوا الْعَمَلَ، وَخَافُوا بَغْتَةَ الاَْجَلِ، فَإِنَّهُ لاَ يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الْعُمُرِ مَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الرِّزْقِ، مَا فَاتَ الْيَوْمَ مِنَ الرِّزْقِ رُجِيَ غَداً زِيَادَتُهُ، وَمَا فَاتَ أَمْسِ مِنَ الْعُمُرِ لَمْ يُرْجَ الْيَوُمَ رَجْعَتُهُ. الرَّجَاءُ مَعَ الْجَائِي، وَالْيَأْسُ مَعَ الْمَاضِي، فـَ
(اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

[ 114 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
في الاستسقاء


     اللَّهُمَّ قَدِ انْصَاحَتْ(2) جِبَالُنَا، وَاغْبَرَّتْ أَرْضُنَا، وَهَامَتْ(3) دَوَابُّنَا، وَتَحَيَّرَتْ
____________
     1. دَخِلَ ـ كفرح ـ : خالطَه فسادُ الاوهام.
     2. انصاحَتْ: جَفّتْ أعالي بُقُولها وَيَبست من الجَدْب. وهذا أنسبُ من تفسير الرضيّ في آخر الدعاء.
     3. هامَت: نَدّت وذهبَتْ على وجوهها من شدة المَحْل. وهذا أنسب من تفسير الهيام بالعطش كما يقول الرضي في آخر الدعاء.


( 265 )


في مَرَابِضِهَا(1)، وَعَجَّتْ عَجِيجَ الثَّكَالَى(2) عَلَى أَوْلاَدِهَا، وَمَلَّتِ التَّرَدُّدَ في مَرَاتِعِهَا، وَالحَنِينَ إِلَى مَوَارِدِهَا.
     اللَّهُمَّ فَارْحَمْ أَنِينَ الاْنَّةِ(3)، وَحَنِينَ الْحَانَّةِ(4)
!
     اللَّهُمَّ فَارْحَمْ حَيْرَتَهَا فِي مَذَاهِبِهَا، وَأَنِينَهَا في مَوَالِجِهَا(5)
!
     اللَّهُمَّ خَرَجْنَا إِلَيْكَ حِينَ اعْتَكَرَتْ عَلَيْنَا حَدَابِيرُ السِّنِينَ، وَأَخْلَفَتْنَا مَخَايِلُ الْجُودِ(6); فَكُنْتَ الرَّجَاءَ لِلْمُبْتَئِسِ، وَالْبَلاَغَ(7) لِلْمُلْتَمِسِ.
     نَدْعُوكَ حِينَ قَنَطَ الاَْنَامُ، وَمُنِعَ الْغَمَامُ، وَهَلَكَ الْسَّوَامُ(8)، أَلاَّ تُؤَاخِذَنَا
____________
     1. مَرَابِض: جمع مَرْبِض، بكسر الباء، وهو مَبْرَك الغنم.
     2. عَجّتْ عَجِيجَ الثّكَالى: صاحت بأعلى صوتها.
     3. الانّة: الشاة.
     4. الحانّة: الناقة.
     5. مَوَالجها: مداخلها في المرارض.
     6. مَخَايل: جمع مُخِيلة ـ كمُصِيبة ـ هي السحابة تظهر كأنّها ماطرة ثم لاتمطر. والجَوْد ـ بفتح الجيم ـ : المطر.
     7. المُبْتَئِس: الذي مسّتْهُ البأساءُ والضرّاع، والبلاغ: الكفاية.
     8. السّوامّ: جمع سائمة، وهي البهيمة الراعية من الابل ونحوها.


( 266 )


بَأَعْمَالِنَا، وَلاَ تَأْخُذَنَا بِذُنُوبِنَا، وَانْشُرْ عَلَيْنَا رَحْمَتَكَ بِالسَّحَابِ الْمُنْبَعِقِ(1)، وَالرَّبِيعِ الْمُغْدِقِ(2)، وَالنَّبَاتِ الْمُونِقِ(3)، سَحّاً وَابِلاً(4) تُحْيِي بِهِ مَا قَدْ مَاتَ، وَتَرُدُّ بِهِ مَا قَدْ فَاتَ.
     اللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ مُحْيِيَةً مُرْوِيَةً، تَامَّةً عَامَّةً، طَيِّبَةً مُبَارَكَةً، هَنِيئَةً مَرِيعَةً(5)، زَاكِياً(6) نَبْتُهَا، ثَامِراً(7) فَرْعُهَا، نَاضِراً وَرَقُهَا، تُنْعِشُ بِهَا الضَّعِيفَ مِنْ عِبَادِكَ، وَتُحْيِي بِهَا الْمَيِّتَ مِنْ بِلاَدِكَ!
     اللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ تُعْشِبُ بِهَا نِجَادُنَا(8)، وَتَجْرِي بِهَا وِهَادُنَا(9)، وَيُخْصِبُ
____________
     1. انْبَعَقَ المُزْن: انفرج عن المطر كأنما هو حيّ، انشقت بطنه فنزل ما فيها.
     2. أغْدَقَ المطرُ: كثر ماؤه.
     3. المُونِقُ: من «آنَقَني» إذا أعجبني، أومن «آنَقَهُ» إذا سرّه وأفرَحَه.
     4. سَحّاً: صَبّاً. والوابل: الشديد من المطر الضخم القِطْر.
     5. المَرِيعَة ـ بفتح الميم ـ : الخصيبة.
     6. زاكياً: نامياً.
     7. ثامِراً: مُثْمِراً، آتياً بالثمر.
     8. النّجاد ـ جمع النجد ـ : ما ارتفع من الارض.
     9. الوِهاد ـ جمع الوَهْدة ـ : ما انخفض من الارض.


( 267 )


بِهَا جَنَابُنَا(1) وَتُقْبِلُ بِهَا ثِمَارُنَا، وَتَعِيشُ بِهَا مَوَاشِينَا، وَتَنْدَى بِهَا أَقَاصِينَا(2)، وَتَسْتَعِينُ بِهَا ضَوَاحِينَا(3)، مِنْ بَرَكَاتِكَ الْوَاسِعَةِ، وَعَطَايَاكَ الْجَزِيلَةِ، عَلَى بَرِيَّتِكَ الْمُرْمِلَةِ(4)، وَوَحْشِكَ الْمُهْمَلَةِ.
     وَأَنْزِلْ عَلَيْنَا سَمَاءً مُخْضِلَةً(5)، مِدْرَاراً هَاطِلَةً، يُدَافِعُ الْوَدْقُ(6) مِنْهَا الْوَدْقَ، وَيَحْفِزُ(7) الْقَطْرُ مِنْهَا الْقَطْرَ، غَيْرَ خُلَّب بَرْقُهَا(8)، وَلاَ جَهَام عَارِضُهَا(9)، وَلاَ قَزَع رَبَابُهَا(10)، وَلاَ شَفَّان ذِهَابُهَا(11)، حَتَّى يُخْصِبَ لاِِمْرَاعِهَا
____________
     1. الجَناب: الناحية.
     2. القاصية: البعيدة عنا من أطراف بلادنا في مقابلة جنابنا.
     3. ضاحية الماء: التي تشرب ضُحىً، والضّوَاحي: جمعها.
     4. المُرْمِلة ـ بصيغة الفاعل ـ : الفقيرة.
     5. مُخْضِلة: من «أخْضَلَهُ» إذا بلّهُ.
     6. الوَدْق: المطر.
     7. يَحْفِز: يدفع.
     8. البرق الخُلّب: ما يُطْمِعُك في المطر ولا مطرَ معه.
     9. الجَهَام ـ بفتح الجيم ـ : السّحاب الذي لا مطرَ فيه. والعارض: ما يعْرِض في الافُق من السحاب.
     10. الرّباب: السحاب الابيض. والقَزَع من الرّباب فسّره الرّضي بالقطع الصغيرة المتفرقة من السحاب.
     11. الذِّهاب ـ بكسر الذال ـ : جمع ذِهبَة ـ بكسر الذال أيضاً ـ : الامطار القليلة أوالليّنة، كما قال الشريف في تفسيرها.


( 268 )


الُْمجْدِبُونَ، وَيَحْيَا بِبَرَكَتِهَا المُسْنِتُونَ(1)، فَإِنَّكَ تُنْزِلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا، وَتَنْشُرُ رَحْمَتَكَ، وَأَنْتَ الْوَلِيُّ الْحَميدُ.

      تفسير ما في هذه الخطبة من الغريب
           قوله(عليه السلام): (انْصَاحَتْ جِبَالُنَا) أي: تَشَقّقَتْ مِنَ المُحُولِ، يُقَالُ: انْصَاحَ الثّوْبُ: إذَا انْشَقّ، وَيُقَالُ أيْضاً: انْصَاحَ النّبْتُ وَصَاح وَصَوّح: إذَا جَفّ وَيَبِسَ. وَقَوْلُهُ: (وَهَامَتْ دَوَابّنَا) أيْ: عَطِشَتْ، وَالْهُيَامُ: الْعَطَشُ. وَقَوْلُهُ: (حَدَابِيرُ السّنِينَ) جمع حِدبار، وهي: الناقَة التي أنضاها السّيْرُ، فشبّه بها السنة التي فشا فِيهَا الجَدْبُ، قَالَ ذوالرّمّةِ:

      حَدَابِيرُ مَا تَنْفَكُّ إلاّ مُنَاخَةً

      عَلَى الْخَسْفِ أوْ نَرْمِي بِهَا بَلَداً قَفْرَا

           وَقَولُهُ: (وَلاَ قَزَع رَبَابُهَا)، الْقَزَعُ: الْقِطَعُ الصّغَارُ الْمُتَفَرّقَهُ مِنَ السَّحَابِ. وَقَوْلُهُ: (وَلاَ شَفّان ذِهَابُهَا) فَإنّ تَقْديرَهُ: وَلاَ ذَاتَ شَفّان ذِهَابُهَا. وَالشّفّانُ: الرّيحُ البَارِدَةُ. وَالذِّهَابُ: الامْطَارُ اللّيّنَةُ، فَحَذَفَ (ذَاتَ) لِعِلْمِ السّامِعِ بِهِ.

    

[ 115 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[وفيها ينصح أصحابه]


     أَرْسَلَهُ دَاعِياً إِلَى الْحَقِّ، وَشَاهِداً عَلَى الْخَلْقِ، فَبَلَّغَ رَسَالاَتِ رَبِّهِ غَيْرَ وَان(2) وَلاَ مُقَصِّر، وَجَاهَدَ فِي اللهِ أَعْدَاءَهُ غَيْرَ وَاهِن(3) وَلاَ مُعَذِّر(4)، إِمَامُ
____________
     1. المُسْنِتُون: المُقْحِطُون.
     2. وان: متباطىء متثاقل.
     3. واهِن: ضعيف.
     4. المُعَذِّر: من يعتذر ولا يثبت له عذر.


( 269 )


مَنِ اتَّقَى، وَبَصَرُ مَنِ اهْتَدَى.
     وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِمَّا طُوِيَ عَنْكُمْ غَيْبُهُ، إِذاً لَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ(1)، تَبْكُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ، وَتَلْتَدِمُونَ(2) عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَتَرَكْتُمْ أَمْوَالَكُمْ لاَ حَارِسَ لها وَلاَ خَالِفَ(3) عَلَيْهَا، وَلَهَمَّتْ(4) كُلَّ امْرِىء مِنْكُمْ نَفْسُهُ، لاَ يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهَا; وَلَكِنَّكُمْ نَسِيتُمْ مَا ذُكِّرْتُمْ، وَأَمِنْتُمْ مَا حُذِّرْتُمْ، فَتَاهَ عَنْكُمْ رَأْيُكُمْ، وَتَشَتَّتَ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ.
     وَلَوَدِدْتُ أَنَّ اللهَ فَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَأَلْحَقَنِي بِمَنْ هُوَ أَحَقُّ بِي مِنْكُمْ، قَوْمٌ واللهِ مَيَامِينُ(5) الرَّأْيِ، مَرَاجِيحُ(6) الْحِلْمِ، مَقَاوِيلُ(7) بِالْحَقِّ،
____________
     1. الصُّعُدات ـ بضمتين ـ : جمع صَعيد بمعنى الطريق، أي: لتركتم منازلهم وهِمْتُم في الطّرُق من شدة الخوف.
     2. الالْتِدام: ضرب النساء صدورهن أووجوهَهن للنياحة.
     3. الخالف: مَن تتركه في أهلك ومالك، إذاخرجت لسفرأ وحرب.
     4. هَمّتْهُ: حَزَنَتْهُ وَشَغَلَتْهُ.
     5. ميامين ـ جمع مَيْمُون ـ : مُبارَك.
     6. مَرَاجيح: أي حُلَماء، من «رجح» إذا ثَقُلَ ومال بغيره، والمراد الرزانة.
     7. مَقاوِيل: جمع مِقْوَال: من يُحْسنُ القولَ.


( 270 )


مَتَارِيكُ(1) لِلْبَغْيِ. مَضَوْا قُدُماً(2) عَلَى الطَّرِيقَةِ، وَأَوْجَفُوا(3) عَلَى الْـمَحَجَّةِ(4)، فَظَفِرُوا بَالْعُقْبَى الْدَّائِمَةِ، وَالْكَرَامَةِ الْبَارِدَةِ(5)
.
     أَمَا وَاللهِ، لَيُسَلَّطَنَّ عَلَيْكُمْ غُلاَمُ ثَقِيف الذَّيَّالُ(6) الْمَيَّالُ، يَأْكُلُ خَضِرَتَكُمْ، وَيُذِيبُ شَحْمَتَكُمْ، إِيه أَبَا وَذَحَةَ!

      قال السيّد: الْوَذَحَةُ: الخُنْفُسَاءُ. وهذا القول يومىءُ به إلى الحجاج، وله مع الوذحة حديث ليس هذا موضع ذكره.

    
____________
     1. مَتَارِيك ـ جمع مِتْرَاك ـ : المبالغ في الترك. 2. القُدُم ـ بضمتين ـ : المُضِيّ أمام، أي سابقين.
     3. الوَجِيف: ضرب من سير الخيل والابل. وأوْجَفَ خيلَة: سيّرها بهذا النوع، والمراد السرعة.
     4. المَحَجّة: الطريق المستقيمة.
     5. الكرامة الباردة: من قولهم «عيش بارد» أي هنيء.
     6. الذّيّال: الطويل القَدّ. الطويل الذّيْل: المتبختر في مشيته.


( 271 )

[ 116 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
[يوبخ البخلاء بالمال والنفس]


     فَلاَ أَمْوَالَ بَذَلُْتموهَا لِلَّذِي رَزَقَهَا، وَلاَ أَنْفُسَ خَاطَرْتُمْ بِهَا لِلَّذِي خَلَقَهَا، تَكْرُمُونَ(1) بِاللهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلاَ تُكْرِمُونَ اللهَ فِي عِبَادِهِ! فَاعْتَبِرُوا بِنُزُولِكُمْ مَنَازِلَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَانْقِطَاعِكُمْ عَنْ أَصْلِ إِخْوَانِكُمْ!

[ 117 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
[في الصالحين من أصحابه]


    
     أَنْتُمُ الاَنْصَارُ عَلَى الْحَقِّ، وَالاِخُوَانُ في الدِّينِ، وَالْجُنَنُ(2) يَوْمَ الْبَأْسِ(3)، وَالْبِطَانَةُ(4) دُونَ النَّاسِ، بِكُمْ أَضْرِبُ الْمُدْبِرَ، وَأَرْجُو طَاعَةَ الْمُقْبِلِ، فَأَعِينُوني بِمُنَاصَحَة خَلِيَّة مِنَ الْغِشِّ، سَلِيمَة مِنَ الرَّيْبِ; فَوَ اللهِ إِنِّي لاََوْلَى النَّاسِ بِالنَّاسِ!
    
____________
     1. كَرُمَ الشيء ـ كَحَسُنَ يَحْسُنُ ـ : أي عَزّ ونَفُسَ.
     2. الجُنَن ـ بضم ففتح ـ : جمع جُنّة ـ بالضم ـ وهي الوقاية.
     3. البأس: الشدة.
     4. بطانة الرجل: خواصّه وأصحاب سرّه.


( 272 )

[ 118 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
وقد جمع الناس وحضّهم على الجهاد، فسكتوا ملياً، فقال(عليه السلام)


     مَا بَالُكُمْ أَمُخْرَسُونَ أَنْتُمْ؟
     فقال قوم منهم: يا أميرالمؤمنين، إن سرتَ سرنا معك.
     فقال(عليه السلام):
     مَا بَالُكُمْ! لاَ سُدِّدْتُمْ(1) لِرُشْد! وَلاَ هُدِيتُمْ لَقَصْد! أَفِي مِثْلِ هذَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَخْرُجَ؟ إِنَّمَا يَخْرُخُ فِي مِثْلِ هذَا رَجُلٌ مِمَّنْ أَرْضَاهُ مِنْ شُجْعَانِكُمْ وَذَوِي بَأْسِكُمْ، وَلاَ يَنْبَغِي لِي أَنْ أَدَعَ الْجُنْدَ، وَالْمِصْرَ، وَبَيْتَ الْمَالِ، وَجِبَايَةَ الاَْرْضِ، وَالْقَضَاءَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالنَّظَرَ في حُقُوقِ الْمُطَالِبِينَ، ثُمَّ أَخْرُجَ فِي كَتِيبَة أَتْبَعُ أُخْرَى، أَتَقَلْقَلُ تَقَلْقُلَ الْقِدْحِ(2) فِي الْجَفِيرِ(3) الْفَارِغِ، وَإِنَّمَا أَنَا قُطْبُ الرَّحَا، تَدُورُ عَلَيَّ وَأَنَا بِمَكَاني، فَإِذَا فَارَقْتُهُ اسْتَحَارَ(4) مَدَارُهَا، وَاضْطَرَبَ ثِفَالُهَا(5). هذَا لَعَمْرُ اللهِ الرَّأْيُ السُّوءُ.
    
____________
     1. سَدّده: وفّقه للسداد.
     2. الِقدْح ـ بكسر القاف ـ : السهم قبل أن يُرَاشَ وَيُنْصَلَ.
     3. الجَفِير: الكنانة توضع فيها السهام.
     4. اسْتَحَارَ: تَرَدّدَ واضطرب.
     5. الثِّفال ـ بكسر الثاء ـ : جلد يُبْسَطُ ويوضع الرّحا فوقه فيطحن باليد ليسقط عليه الدقيق.


( 273 )


وَاللهِ لَوْلاَ رَجَائِي الشَّهَادَةَ عِنْدَ لِقَائِي الْعَدُوَّ ـ وَلَوْ قَدْ حُمَّ(1) لِي لِقَاؤُهُ ـ لَقَرَّبْتُ رِكَابِي(2) ثُمَّ شَخَصْتُ(3) عَنْكُمْ، فَلاَ أَطْلُبُكُمْ مَا اخْتَلَفَ جَنُوبٌ وَشَمَالٌ.
     [طَعَّانِينَ عَيَّابِينَ، حَيَّادِينَ رَوَّاغِينَ. إِنَّهُ لاَ غَنَاءَ(4) فِي كَثْرَةِ عَدَدِكُمْ مَعَ قِلَّةِ اجْتَِماعِ قُلُوبِكُمْ. لَقَدْ حَمَلْتُكُمْ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ الَّتي لاَ يَهْلِكُ عَلَيْهَا إِلاَّ هَالِكٌ(5)، مَنِ اسْتَقَامَ فَإِلَى الْجَنَّةِ، وَمَنْ زَلَّ فَإِلَى النَّارِ!].

____________
     1. حُمّ: قُدّر.
     2. قَرّبت ركابي: حزمت إبلي وأحضرتها للركوب.
     3. شَخَصْتُ: بعدتُ عنكم و تخليت عن أمر الخلافة.
     4. الغَنَاء ـ بالفتح والمد ـ : النفع.
     5. الهالك ـ هنا ـ : الذي حُتّم هلاكه لتمكن الفساد من طبعه وجبلّته.


( 274 )

[ 119 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
[يذكر فضله ويعظ الناس]


     تَاللهِ لَقَدْ عُلِّمْتُ تَبْلِيغَ الرِّسَالاَتِ، وَإِتْمَامَ الْعِدَاتِ(1)، وَتَمَامَ الْكَلِمَاتَ. وَعِنْدَنَا ـ أَهْلَ الْبَيْتِ ـ أَبْوَابُ الْحُكْمِ وَضِيَاءُ الاَْمْرِ.
     أَلاَ وَإِنَّ شَرَائِعَ الدِّينِ وَاحِدَةٌ، وَسُبُلَهُ قَاصِدَةٌ(2)، مَنْ أَخَذَ بِهَا لَحِقَ وَغَنِمَ، وَمَنْ وَقَفَ عَنْهَا ضَلَّ وَنَدِمَ.
     اعْمَلُوا لِيَوْم تُذْخَرُ لَهُ الذَّخَائِرُ، وَتُبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ، وَمَنْ لاَ يَنْفَعُهُ حَاضِرُ لُبِّهِ فَعَازِبُهُ(3) عَنْهُ أَعْجَزُ، وَغَائِبُهُ أَعْوَزُ(4). وَاتَّقُوا نَاراً حَرُّهَا شَدِيدٌ، وَقَعْرُهَا بَعِيدٌ، وَحِلْيَتُهَا حَدِيدٌ، [وَشَرَابُهَا صَدِيدٌ](5)
     أَلاَ وَإِنَّ اللِّسَانَ الصَّالِحَ(6) يَجْعَلُهُ اللهُ لِلْمَرْءِ فِي النَّاسِ، خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْمَالِ يُورِثُهُ مَنْ لاَ يَحْمَدُهُ.
____________
     1. العِدَات: جمع عِدَة بمعنى الوعد. 2. قَاصدة: مستقيمة.
     3. عازِبُهُ: غائبه.
     4. عَوِزَ الشيء ـ كفرح ـ أي: لم يوجد.
     5. الصّدِيد: ماء الجرح الرقيق، والحميم.
     6. اللسان الصالح: الذّكر الحسن.


( 275 )

[ 120 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
[بعد ليلة الهرير]


     وقد قام رجل من أصحابه فقال: نهيتنا عن الحكومة ثمّ أمرتنا بها، فما ندري أيّ الامرين أَرشد؟
     فصفق(عليه السلام) إحدى يديه على الاخرى ثمّ قال:
     هذا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْعُقْدَةَ!(1) أَمَا وَاللهِ لَوْ أَنِّي حِينَ أَمَرْتُكُمْ بِما أَمَرْتُكُمْ بِهِ حَمَلْتُكُمْ عَلَى الْمَكْرُوهِ الَّذِي يَجْعَلُ اللهُ فِيهِ خَيْراً، فَإِنِ اسْتَقَمْتُمْ هَدَيْتُكُمْ وَإِنِ اعْوَجَجْتُمْ قَوَّمْتُكُمْ وَإِنْ أَبَيْتُمْ تَدَارَكْتُكُمْ، لَكَانَتِ الْوُثْقَى، وَلكِنْ بِمَنْ وَإِلَى مَنْ؟ أُرِيدُ أَنْ أُدَاوِيَ بِكُمْ وَأَنْتُمْ دَائي، كَنَاقِشِ الشَّوْكَةِ بِالشَّوْكَةِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ضَلْعَهَا(2) مَعَهَا!
     اللَّهُمَّ قَدْ مَلَّتْ أَطِبَّاءُ هذَا الدَّاءِ الدَّوِيِّ(3)، وَكَلَّتِ النَّزْعَةُ(4) بِأَشْطَانِ الرَّكِيِّ(5)
!
     أَيْنَ الْقَوْمُ الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الاِسْلاَمِ فَقَبِلُوهُ؟ وَقَرَأُوا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ؟
____________
     1. يريد «بالعقدة» ماحصل عليه التعاقد.
     2. الضَلْع ـ بفتح الضاد وتسكين اللام ـ : المَيْل. وأصل المثل: «لا تنقش الشوكة بالشوكة، فان ضَلْعها معها» يُضْرَبُ للرجل يخاصم آخر ويستعين عليه بمن هو من قرابته أو أهل مَشْرَبه. ونَقش الشوكة: إخراجها من العضو تدخل فيه.
     3. الدّاء الدّوِيّ ـ بفتح فكسر ـ : المؤلم الشديد. وقد وُصِف بما هو من لفظه.
     4. كلّت: ضعفت. والنزعة: جمع نازع.
     5. الاشْطَان: جمع شَطَن، وهو الحبل. والرّكِيّ: جمع رَكِيّة، وهي البئر.


( 276 )


وَهِيجُوا إِلى الْجِهَادِ فَوَلَّهُوا اللِّقَاحَ(1) أَوْلاَدَهَا، وَسَلَبُوا السُّيُوفَ أَغْمَادَهَا، وَأَخَذُوا بِأَطْرَافِ الاَْرْضِ زَحْفاً زَحْفاً وَصَفّاً صَفّاً؟! بَعْضٌ هَلَكَ، وَبَعْصٌ نَجَا.
     لاَيُبَشَّرُونَ بِالاَْحْيَاءِ(2)، وَلاَ يُعَزَّوْنَ عَنِ الْمَوْتَى(3)، مُرْهُ الْعُيُونِ(4) مِنَ الْبُكَاءِ، خُمْصُ الْبُطُونِ(5) مِنَ الصِّيَامِ، ذُبُلُ الشِّفَاهِ(6) مِنَ الدُّعَاءِ، صُفْرُ الاَْلْوَانِ مِنَ السَّهَرِ، عَلَى وَجُوهِهمْ غَبَرَةُ الْخَاشِعيِنَ، أُولئِكَ إِخْوَاني الذَّاهِبُونَ، فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَأَ إِلَيْهِمْ وَنَعَضَّ الاَْيْدِيَ عَلَى فِرَاقِهمْ!
     إِنَّ الشَّيْطَانَ يُسَنِّي(7) لَكُمْ طُرُقَهُ، وَيُرِيدُ أَنْ يَحُلَّ دِينَكُمْ عُقْدَةً عُقْدَةً،
____________
     1. اللِّقاح: جمع لَقُوح، وهي الناقة.
     2. لا يُبَشّرُون بالاحياء: إذا قيل لهم: نجا فلان فبقي حياً لايفرحون، لان أفضل الحياة عندهم الموت في سبيل الحق.
     3. لا يُعَزّوْن عن المَوْتى: لا يحزنون إذا قيل لهم: مات فلان، فان الموت عندهم حياة السعادة الابدية.
     4. مُرْهُ العيون: جمع أمْرَه، وهو على صيغة أفعَل الذي يجمع على فُعْل، كأحمر وحُمر، مأخوذ من «مَرَهَتْ عَيْنُهُ» إذا فسدت أو ابيضّت حَمَاليقُها.
     5. خُمْص البطون: ضَوَامِرُها.
     6. ذَبُلَتْ شفَتُهُ: جَفّت وَيبِستْ لذهاب الرّيق.
     7. يُسَنّي: يُسَهّل.


( 277 )


وَيُعْطِيَكُمْ بَالْجَمَاعَةِ الْفُرْقَةَ، وَبِالْفُرْقَةِ الْفَتْنَةَ; فَاصْدِفُوا(1) عَنْ نَزَغَاتِهِ(2) وَنَفَثَاتِهِ، وَاقْبَلُوا النَّصِيحَةَ مِمَّنْ أَهْدَاهَا إِلَيْكُمْ، وَاعْقِلوهَا(3) عَلَى أَنْفُسِكُمْ.

[ 121 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
قاله للخوارج، وقد خرج إلى معسكرهم وهم مقيمون على إنكار الحكومة، فقال(عليه السلام):


     أَكُلُّكُمْ شَهِدَ مَعَنَا صِفِّينَ؟
     فَقَالُوا: مِنَّا مَنْ شَهِدَ وَمِنَّا مَنْ لَمْ يَشْهَدْ.
     قَالَ: فَامْتَازُوا فِرْقَتَيْنِ، فَلْيَكُنْ مَنْ شَهِدَ صِفِّينَ فِرْقَةً، وَمَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا فَرْقَةً، حَتَّى أُكَلِّمَ كُـلاًّ مِنْكُمْ بِكَلاَمِهِ.
     وَنَادَى النَّاسَ، فَقَالَ: أَمْسِكُوا عَنِ الْكَلاَمِ، وَأَنْصِتُوا لِقَوْلِي، وَأَقْبِلُوا بِأَفْئِدَتِكُمْ إِلَيَّ، فَمَنْ نَشَدْنَاهُ شَهَادَةً فَلْيَقُلْ بِعِلْمِهِ فِيهَا.
     ثُمَّ كَلَّمَهُمْ(عليه السلام) بِكَلاَم طَوِيل، مِنْ جُمْلَتِهِ أَنْ قَالَ:
     أَلَمْ تَقُولُوا عِنْدَ رَفْعِهِمُ الْمَصَاحِفَ ـ حِيلَةً وَغِيلَةً وَمَكْراً وَخَدِيعَةً ـ : إِخْوانُنَا وَأَهْلُ دَعْوَتِنَا، اسْتَقَالُونَا وَاسْتَرَاحُوا إِلى كِتَابِ اللهِ سُبْحَانَهُ، فَالرَّأْيُ الْقَبُولُ مِنْهُمْ وَالتَّنْفِيسُ عَنْهُمْ؟
    
____________
     1. فاصْدِفُوا: فأعْرِضُوا.
     2. نَزَغاته: وساوسه.
     3. اعْقِلُوها: احبسوها على أنفسكم لا تتركوها فتضيعَ منكم.


( 278 )


فَقُلْتُ لَكُمْ: هذَا أَمْرٌ ظَاهِرُهُ إِيمَانٌ، وَبَاطِنُهُ عُدْوَانٌ، وَأَوَّلُهُ رَحْمَةٌ، وَآخِرُهُ نَدَامَةٌ، فَأَقِيمُوا عَلى شَأْنِكُمْ، وَالْزمُوا طَرِيقَتَكُمْ، وَعَضُّوا عَلَى الْجِهَادِ بِنَوَاجِذِكُمْ، وَلاَ تَلْتَفِتُوا إِلى نَاعِق نَعَقَ: إِنْ أُجِيبَ أَضَلَّ، وَإِنْ تُرِكَ ذَلَّ.
     [وَقَدْ كَانَتْ هذِهِ الْفَعْلَةُ، وَقَدْ رَأَيْتُكُمْ أَعْطَيْتُمُوهَا، وَاللهِ لَئِنْ أَبَيْتُهَا مَا وَجَبَتْ عَلَيَّ فَرِيضَتُهَا وَلاَ حَمَّلَنِي اللهُ ذَنْبَهَا، وَوَاللهِ إِنْ جِئْتُهَا إِنِّي لَلْمُحِقُّ الَّذِي يُتَّبَعُ، وَإِنَّ الْكِتَابَ لَمَعِي، مَا فَارَقْتُهُ مُذْ صَحِبْتُهُ].
     فَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله)، وَإِنَّ الْقَتْلَ لَيَدُورُ بَيْنَ الاْباءِ وَالاَْبْنَاءِ وِالاِْخوَانِ وَالْقَرَابَاتِ، فَمَا نَزْدَادُ عَلَى كُلِّ مُصِيبَة وَشِدَّة إِلاَّ إِيمَاناً، وَمُضِيّاً عَلَى الْحَقِّ، وَتَسْلِيماً لِلاَْمْرِ، وَصَبْراً عَلَى مَضَضِ الْجِرَاحِ.
     وَلكِنَّا إِنَّمَا أَصْبَحْنَا نُقَاتِلُ إِخْوَانَنَا فِي الاِْسْلاَمِ عَلَى مَا دَخَلَ فِيهِ مِنَ الزَّيْغِ وَالاعْوِجَاجِ، وَالشُّبْهَةِ وَالتَّأْوِيلِ، فَإِذَا طَمِعْنَا فِي خَصْلَة(1) يَلُمُّ اللهُ بِهَا شَعَثَنَا(2)، وَنَتَدَانَى بِهَا(3) إِلَى الْبَقِيَّةِ فِيَما بَيْنَنَا، رَغِبْنَا فِيهَا، وَأَمْسَكْنَا عَمَّا سِوَاهَا.
    
____________
     1. المراد من الخَصْلة ـ بفتح الخاء ـ هنا: الوسيلة.
     2. لمّ شَعَثَهُ: جمع أمره.
     3. نتدانى بها: نتقارب إلى ما بقي بيننا من علائق الارتباط.


( 279 )

[ 122 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
قاله لاصحابه في ساعة الحرب


وَأَيُّ امْرِىء مِنْكُمْ أَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ رَبَاطَةَ جَأْش(1) عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَرَأَى مِنْ أَحَد مِنْ إِخْوَانِهِ فَشَلاً(2)، فَلْيَذُبَّ(3) عَنْ أَخِيهِ بِفَضْلِ نَجْدَتِهِ(4) الَّتي فُضِّلَ بِهَا عَلَيْهِ كَمَا يَذُبُّ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَهُ مِثْلَهُ. إِنَّ الْمَوْتَ طَالِبٌ حَثِيثٌ لاَيَفُوتُهُ الْمُقِيمُ، وَلاَ يُعْجِزُهُ الْهَارِبُ. إِنَّ أَكْرَمَ الْمَوْتِ الْقَتْلُ! وَالَّذِي نَفْسُ ابْنِ أَبِي طَالِب بِيَدِهِ، لاََلْفُ ضَرْبَة بِالسَّيْفِ أَهْوَنُ مِنْ مِيتَة عَلَى الْفِرَاشِ [فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللهِ!].

[ 123 ]
ومن كلام له(عليه السلام)


     وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكُمْ تَكِشُّونَ كَشِيشَ الضِّبَابِ(5): لاَ تَأْخُذُونَ حَقّاً، وَلاَ تَمْنَعُونَ ضَيْماً. قَدْ خُلِّيتُمْ وَالطَّرِيقَ، فَالنَّجَاةُ لَلْمُقْتَحِمِ، وَالْهَلَكَةُ لَلْمُتَلَوِّمِ(6).
____________
     1. رَبَاطَة الجأش: قوة القلب عند لقاء الاعداء.
     2. الفَشَل: الجُبْن والضعف.
     3. فَلْيَذُبّ: فَلْيَدْفَعْ.
     4. النّجْدَة ـ بالفتح ـ : الشجاعة.
     5. كشِيش الضّباب: هو احتكاك جلودها عند ازدحامها. والضّباب ـ بكسر الضاد ـ : جمع ضبّ، وهو الحيوان المعروف.
     6. تَلَوّمَ: تَوَقّف وتباطأ.


( 280 )

[ 124 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
في حضّ أصحابه على القتال


     فَقَدِّمُوا الدَّارِعَ(1)، وَأَخِّرُوا الْحَاسِرَ(2)، وَعَضُّوا عَلَى الاَْضْرَاسِ فَإِنَّهُ أَنْبَى(3)لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ(4)، وَالْتَوُوا(5) فِي أَطْرَافِ الرِّمَاحِ فَإِنَّهُ أَمْوَرُ(6) لِلاَْسِنَّةِ، وَغُضُّوا الاَْبْصَارَ فَإِنَّهُ أَرْبَطُ لَلْجَأْشِ وَأسْكَنُ لِلْقُلُوبِ، وَأَمِيتُوا الاَْصْوَاتَ فَإِنَّهُ أطْرَدُ لِلْفَشَلِ.
     وَرَايَتَكُمْ فَلاَ تُمِيلُوهَا وَلاَ تُخِلُّوهَا، وَلاَ تَجْعَلُوهَا إِلاَّ بِأَيْدِي شُجْعَانِكُمْ، وَالمَانِعِينَ الذِّمَارَ(7) مِنْكُمْ، فَإِنَّ الصَّابِرِينَ عَلَى نُزُولِ الْحَقَائِقِ(8) هُمُ الَّذِينَ
____________
     1. الدارع: لابس الدّرْع.
     2. الحاسِر: من لا دِرْعَ له.
     3. أنْبَى: صيغة أفعل التفضيل من «نَبَا السيف» إذا دَفَعَتْهُ الصلابة من موقعه فلم يَقْطَعْ. 4. الهام: جمع هامة، وهي الرأس.
     5. الْتَوُوا: انْعَطِفوا وأميلوا جانبكم لِتَزْلَقَ الرماح ولا تنفذ فيكم أسنّتها.
     6. أمْوَرُ: أي أشدّ فعلاً للمَوْر، وهو الاضطراب الموجب للانزلاق وعدم النفوذ.
     7. الذِّمار ـ بسكر الذال ـ : ما يلزم الرجلَ حفظُهُ وحمايته من ماله وعرضه.
     8. حقائق: جمع حاقّة، وهي النازلة الثابتة.


( 281 )


يَحُفُّونَ بِرَايَاتِهمْ(1)، وَيَكْتَنِفُونَهَا(2): حفَافَيْهَا(3)، وَوَرَاءَهَا، وَأَمَامَهَا، لاَ يَتَأَخَّرُونَ عَنْهَا فَيُسْلِمُوهَا، وَلاَ يَتَقَدَّمُونَ عَلَيْهَا فَيُفْرِدُوهَا.
     أَجْزَأَ امْرُؤٌ قِرْنَهُ(4)، وَآسَى أَخَاهُ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَكِلْ قِرْنَهُ إِلَى أَخِيهِ(5) فَيَجْتَمِعَ عَلَيْهِ قِرْنُهُ وَقِرْنُ أَخِيهِ. وَايْمُ اللهِ لَئِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ سَيْفِ الْعَاجِلَةِ، لاَ تَسْلَمُوا مِنْ سَيْفِ الاْخِرَةِ، أَنْتُمْ لَهَامِيمُ(6) الْعَرَبِ، وَالسَّنَامُ الاَْعْظَمُ، إِنَّ فِي الْفِرَارِ مَوْجِدَةَ(7) اللهِ، وَالذُّلَّ اللاَّزِمَ، وَالْعَارَ الْبَاقِيَ، وَإِنَّ الْفَارَّ لَغَيْرُ مَزِيد فِي عُمُرِهِ، وَلاَ مَحْجُوز بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَوْمِهِ.
    
____________
     1. يَحفّون بالرايات: أي يستديرون حولها.
     2. يكتنفونها: يحيطون بها.
     3. حِفَافَيْها: جانبيْها.
     4. أَجْزَأ امْرِؤٌ قِرْنَهُ: فعل ماض في معنى الامر، أي: فليَكْف كلّ منكم قِرْنه أي كفؤه، فيقتله.
     5. لم يَكِلْ قرْنهُ إلى أخيه: لم يترك خصمه إلى أخيه فيجتمع على أخيه خصمان فيغلبانه ثم ينقلبان عليه فيهلكانه.
     6. لهَامِيم: جمع لِهْمِيم ـ بالكسر ـ الجواد السابق من الانسان والخيل.
     7. مَوْجِدَته: غضبه.


( 282 )


مَنْ رائِحٌ إِلَى اللهِ كَالظَّمَآنِ يَرِدُ الْمَاءَ؟ الْجَنَّةُ تَحْتَ أَطْرَافِ الْعَوَالِي(1)! الْيَوْمَ تُبْلَى(2) الاَْخْبَارُ! [وَاللهِ لاََنَا أَشْوَقُ إِلَى لِقَائِهِمْ مِنْهُمْ إِلَى دِيَارِهِمْ].
     اللَّهُمَّ فَإِنْ رَدُّوا الْحَقَّ فَافْضُضْ جَمَاعَتَهُمْ، وَشَتِّتْ كَلِمَتَهُمْ، وَأَبْسِلْهُمْ(3) بِخَطَايَاهُمْ.
     إِنَّهُمْ لَنْ يَزُولُوا عَنْ مَوَاقِفِهمْ دُونَ طَعْن دِرَاك(4) يَخْرُجُ مِنْهُ النَّسِيمُ، وَضَرْب يَفْلِقُ الْهَامَ، وَيُطِيحُ العِظَامَ، وَيُنْدِرُ(5) السَّوَاعِدَ وَالاَْقدْاَمَ، وَحَتَّى يُرْمَوْا بِالمَنَاسِرِ تَتْبَعُهَا الْمَنَاسَرُ(6)، وَيُرْجَمُوا بِالْكَتَائِبِ(7)، تَقْفُوهَا الْحَلاَئِبُ(8) حَتَّى يُجَرَّ بِبِلاَدِهِمُ الْخَمِيسُ يَتْلُوهُ الْخَمِيسُ، وَحَتَّى تَدْعَقَ(9) الْخُيُولُ فِي نَوَاحِر أَرْضِهِمْ، وَبِأَعْنَانِ(10) مَسَارِبِهِمْ(11) وَمَسَارِحِهِمْ.

      قال الشريف: الدّعْقُ: الدّقُّ، أي: تَدُقُّ الخُيُولُ بِحَوَافِرِهَا أرْضَهُمْ. نَوَاحِرُ أَرْضِهِمْ: مُتَقَابِلاَتُهَا، يُقَالُ: مَنَازِلُ بَنِي فُلان تتَنَاحَرُ، أيْ: تَتَقَابَلُ.

    
____________
     1. العَوالي: الرماح.
     2. تُبْلى: تُمتَحَن.
     3. أَبْسَلَهُ: أسلمه للهلكة.
     4. دِرَاك ـ ككتاب ـ : متتابع مُتوال في أبدانهم أبواباً يمرّ فيها النسيم.
     5. يندرها ـ كيهلكها ـ أي: يسقطها.
     6. المَنَاسر ـ جمع مَنْسِر كمجلس ـ : القطعة من الجيش تكون أمام الجيش الاعظم.
     7. الكتائب: جمع كتيبة، من المائة إلى الالف.
     8. الحَلائِب: جمع حلبة، الجماعة من الخيل تجتمع من كل صَوْب للنصرة.
     9. دَعَقَ الطريق ـ كمنع ـ : وطئه في شدة وقوة. ودَعَقَ الغارة: بثّها.
     10. أعنان الشيء: أطرافه.
     11. المَسارِب: المذاهب للرّعْي.


( 283 )

[ 125 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
في معنى الخوارج لمّا أنكروا تحكيم الرجال ويذمّ فيه أصحابه، قال(عليه السلام):


     إِنَّا لَمْ نُحَكِّمِ الرِّجَالَ، وَإِنَّمَا حَكَّمْنَا الْقُرْآنَ. وهذَا الْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْتُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ(1)، لاَ يَنْطِقُ بِلِسَان، وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَان، وَإِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ.
     وَلَمَّا دَعَانَا الْقَوْمُ إِلَى أَنْ نُحَكِّمَ بَيْنَنَا الْقُرْآنَ لَمْ نَكُنِ الْفَرِيقَ الْمُتَوَلِّيَ عَنْ كِتَابِ اللهِ، وقَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ:
(فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)، فَرَدُّهُ إِلَى اللهِ أَنْ نَحْكُمَ بِكِتَابِهِ، وَرَدُّهُ إِلَى الرَّسُولِ أَنْ نَأْخُذَ بسُنَّتِهِ; فَإِذَا حُكِمَ بِالصِّدْقِ فِي كِتَابِ اللهِ، فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ، وَإِنْ حُكمَ بسُنَّةِ رَسُولِهِ فَنَحْنُ أَوْلاَهُمْ بِهِ.
     وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: لِمَ جَعَلْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ أَجَلاً فِي التَّحْكِيمِ؟
    
____________
     1. دَفّتا المصحف: جانباه اللذان يَكْنُفانه.


( 284 )


فَإِنَّمَا فَعَلْتُ ذلِكَ لِيَتَبَيَّنَ الْجَاهِلُ، وَيَتَثَبَّتَ الْعَالِمُ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ فِي هذِهِ الْهُدْنَةِ أَمْرَ هذِهِ الاُْمَّةِ، وَلاَ تُؤْخَدُ بِأَكْظَامِهَا(1)، فَتَعْجَلَ عَنْ تَبَيُّنِ الْحَقِّ، وَتَنْقَادَ لاَِوَّلِ الْغَيِّ.
     إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْ كَانَ الْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَيْهِ ـ وَإِنْ نَقَصَهُ وَكَرَثَهُ(2) ـ مِنَ الْبَاطِلِ وَإِنْ جَرَّ إِلَيْهِ فَائِدَةً وَزَادَهُ، فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ؟! وَمِنْ أَيْنَ أُتِيتُمْ؟! اسْتَعِدُّوا لِلْمَسِيرِ إِلَى قَوْم حَيَارَى عَنِ الْحَقِّ لاَ يُبْصِرُونَهُ، وَمُوزَعِينَ(3) بِالْجَوْرِ لاَ يَعْدِلُونَ بِهِ(4)، جُفَاة عَنِ الْكِتَابِ، نُكُب(5) عَنِ الطَّرِيقِ.
     مَا أَنْتُمْ بَوَثِيقَة(6) يُعْلَقُ بِهَا، وَلاَ زَوَافِرَ(7) يُعْتَصَمُ إِلَيْهَا، لَبِئْس حُشَّاشُ(8)

____________
     1. الاكظام ـ جمع كَظَم محركة ـ : مخرج النفس. والاخذ بالاكظام: المضايقة والاشتداد بسلب المهلة.
     2. كَرَثَهُ ـ كنصره وضربه ـ : اشتد عليه الغمّ.
     3. مُوزَعين: من «أوْزَعَهُ» أي أغراه، وأصله بمعنى ألْهَمَ.
     4. لا يَعْدِلون به: أي لا يستبدلونه بالعدل.
     5. نُكُب ـ جمع ناكب ـ : الحائد عن الطريق.
     6. ما أنتم بوثيقَة: أي لستم عروةً وثيقةً يستمسك بها.
     7. زافرة الرجل: أنصاره وأعوانه.
     8. الحُشّاش: جمع حاشّ، من «حَشّ النارَ» إذا أوقدها. والمراد «لبئس الموقدون لنار الحرب أنتم».


( 285 )


نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ! أُفٍّ لَكُمْ! لَقَدْ لَقِيتُ مِنْكُمْ بَرْحاً(1)، يَوْماً أُنَادِيكُمْ وَيَوْماً أُنَاجِيكُمْ، فَلاَ أحْرارُ صِدْق عِنْدَ النِّدَاءِ(2)، وَلاَ إِخْوَانُ ثِقَة عِنْدَ النَّجَاءِ(3)
!

[ 126 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
لمّا عوتب على تصييره الناس أسوة في العطاء من غير تفضيل إلى السابقات والشرف، قال:


     أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ! وَاللهِ لاَ أَطُورُ بِهِ(4) مَا سَمَرَ سَميرٌ(5)، وَمَا أَمَّ(6)نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً! لَوْ كَانَ الْمَالُ لي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللهِ لَهُمْ.
     ثمّ قال(عليه السلام):
     أَلاَ وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهَ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ، وَهُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي
____________
     1. بَرْحاً ـ بفتح الباء ـ : شرّ أوشدة.
     2. يوم النداء: يوم الدعوة إلى الحرب.
     3. يوم النّجاء: يوم العتاب على التقصير. وأصل النجاء: الافضاء بالسر والتكلم مع شخص بحيث لا يسمع الاخر.
     4. لا أطُورُ به: من «طار يَطُور» إذا حام حول الشيء، أي: لا أمُرّ به ولا أقاربه. 5. ما سَمَرَ سمير: أي مدى الدهر.
     6. أمّ: قصد.


( 286 )


الدُّنْيَا وَيَضَعُهُ فِي الاخِرَةِ، وَيُكْرِمُهُ فِي النَّاسِ وَيُهِينُهُ عِنْدَ اللهِ، وَلَمْ يَضَعِ امْرُؤٌ مَالَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَعِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ إِلاَّ حَرَمَهُ اللهُ شُكْرَهُمْ وَكَانَ لِغَيْرِهِ وَدُّهُمْ، فَإِنْ زَلَّتْ بِهِ النَّعْلُ يَوْماً فَاحْتَاجَ إِلى مَعُونَتِهِمْ فَشَرُّ خَلِيل وَأَلاَْمُ خَدِين!(1)
    

[ 127 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
للخوارج أيضاً


     فإنْ أَبَيْتُمْ إِلاَّ أَنْ تَزْعُمُوا أَنِّي أَخْطَأْتُ وَضَلَلْتُ، فَلِمَ تُضَلِّلونُ عَامَّةَ أُمَّةِ مُحَمَّد(صلى الله عليه وآله)بِضَلاَلِي، وَتَأْخُذُونَهُمْ بِخَطَئِي، وَتُكَفِّرُونَهُمْ بِذُنُوِبي! سُيُوفُكُمْ عَلَى عَوَاتِقِكُمْ تَضَعُونَهَا مَوَاضِعَ البَراءةِ وَالسُّقْمِ، وَتَخْلِطُونَ مَنْ أَذْنَبَ بِمَنْ لَمْ يُذْنِبْ.
     وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ(صلى الله عليه وآله) رَجَمَ الزَّانِيَ [الْـمُحْصَنَ] ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ وَرَّثَهُ أَهْلَهُ، وَقَتَلَ الْقَاتِلَ وَوَرَّثَ مِيرَاثَهُ أَهْلَهُ، وَقَطَعَ السَّارِقَ وَجَلَدَ الزَّانِيَ غَيْرَ الُْمحْصَنِ ثُمَّ قَسَمَ عَلَيْهِمَا مِنَ الْفَيْءِ وَنَكَحَا الْمُسْلِمَاتِ; فَأَخَذَهُمْ رَسُولُ اللهِ(صلى الله عليه وآله) بِذُنُوبِهمْ، وَأَقَامَ حَقَّ اللهِ فِيهمْ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ سَهْمَهُمْ مِنَ الاِْسْلاَمِ، وَلَمْ يُخْرِجْ أَسْمَاءَهُمْ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ. ثُمَّ أَنْتُمْ شِرَارُ النَّاسِ، وَمَنْ رَمَى بِهِ
____________
     1. خَدِينٌ: صديق.


( 287 )


الشَّيْطَانُ مَرَامِيَهُ، وَضَرَبَ بِهِ تِيهَهُ(1)
!
     وَسَيَهْلِكُ فِيَّ صِنْفَانِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْحُبُّ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ، وَمُبْغِضٌ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْبُغْضُ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ، وَخَيْرُ النَّاسِ فيَّ حَالاً الَّنمَطُ الاَْوْسَطُ فَالْزَمُوهُ، وَالْزَمُوا السَّوَادَ الاَعْظَم فَإِنَّ يَدَ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ! فَإِنَّ الشَّاذَّ مِنَ النَّاسِ لِلشَّيْطَانِ، كَمَا أَنَّ الشَّاذَّةَ مِنَ الْغَنَمِ لِلذِّئْبِ.
     أَلاَ مَنْ دَعَا إِلَى هذَا الشِّعَارِ(2) فَاقْتُلُوهُ، وَلَوْ كَانَ تَحْتَ عِمَامَتِي هذِهِ، فَإِنَمَّا حُكِّمَ الْحَكَمَانِ لِيُحْيِيَا مَا أَحْيا الْقُرْآنُ، وَيُمِيتَا مَا أَمَاتَ الْقُرْآنُ، وَإِحْيَاؤُهُ الاجْتَِماعُ عَلَيْهِ، وَإِمَاتَتُهُ الافْتَرَاقُ عَنْهُ، فَإِنْ جَرَّنَا الْقُرْآنُ إِلَيْهِمُ اتَّبَعْنَاهُم، وَإِنْ جَرَّهُمْ إِلَيْنَا اتَّبَعُونَا.
     فَلَمْ آتِ ـ لاَأَبَا لَكُمْ ـ بُجْراً(3)، وَلاَ خَتَلْتُكُمْ عَنْ أَمْرِكُمْ، وَلاَ لبَّسْتُهُ(4) عَلَيْكُمْ، إِنَّمَا اجْتَمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ عَلَى اخْتِيَارِ رَجُلَيْنِ، أَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَلاَّ يَتَعَدَّيَا الْقُرْآنَ، فَتَاهَا عَنْهُ، وَتَرَكَا الْحَقَّ وَهُمَا يُبْصِرَانِهِ، وَكَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا فَمَضَيَا عَليْهِ، وَقَدْ سَبَقَ استِثْنَاؤُنَا عَلَيْهِمَا ـ فِي الْحُكُومَةِ بِالْعَدْلِ، وَالصَّمْدِ(5)لِلْحَقِّ ـ سُوءَ رَأْيِهِمَا، وَجَوْرَ حُكْمِهِمَا.
____________
     1. ضرَبَ به تيهَهُ: سلك به في بادية ضلالته.
     2. الشِّعار: علامة القوم في الحرب والسفر، وهو ما يتنادون به ليعرف بعضهم بعضاً.
     3. البُجْر ـ بضم الباء ـ : الشر والامر العظيم.
     4. خَتَلْتُكم: خدعتكم. والتلبيس: خلط الامر وتشبيهه حتى لا يعرف.
     5. الصّمْد: القصد.


( 288 )

[ 128 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
وهو ممّا كان يخبر به عن الملاحم(1) بالبصرة


     يَا أَحْنَفُ، كَأَنِّي بِهِ وَقَدْ سَارَ بِالْجَيْشِ الَّذِي لاَ يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ وَلاَ لَجَبٌ(2)، وَلاَ قَعْقَعَةُ لُجُم(3)، وَلاَ حَمْحَمَةُ خَيْل(4)، يُثِيرُونَ الاَْرْضَ بِأَقْدَامِهِمْ كَأَنَّهَا أَقْدَامُ النَّعَامِ.

      يومىء بذلك(عليه السلام) إلى صاحب الزّنْج.

     ثمّ قال(عليه السلام):
    
____________
     1. الملاحم: جمع مَلْحمة، وهي الوقعة العظيمة.
     2. اللّجَب: الصياح.
     3. اللّجُم: جمع لجام. وقَعْقَعَتها: ما يسمع من صوت اضطرابها بين أسنان الخيل.
     4. الحَمْحَمَة: صوت البِرْذَوْن عند الشعير.


( 289 )


وَيْلٌ لِسِكَكِكُمُ(1) الْعَامِرَةِ، وَدُورِكُمُ الْمُزَخْرَفَةِ الَّتِي لَهَا أَجْنِحَةٌ(2) كَأَجْنَحَةِ النُّسُورِ، وَخَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ(3) الْفِيَلَةِ، مِنْ أُولئِكَ الَّذِينَ لاَ يُنْدَبُ قَتِيلُهُمْ، وَلاَ يُفْقَدُ غَائِبُهُمْ.
     أَنَا كَابُّ الدُّنْيَا لِوَجْهِهَا، وَقَادِرُهَا بِقَدْرِهَا، وَنَاظِرُهَا بِعَيْنِهَا.

منه: ويومئ به إلى وصف الاتراك


     كَأَنِّي أَرَاهُمْ قَوْماً كَأَنَّ وَجُوهَهُمُ الْـمَجَانُّ الْمُطَرَّقَةُ(4)، يَلْبَسُونَ السَّرَقَ(5) وَالدِّيبَاجَ، وَيَعْتَقِبُونَ الْخَيْلَ الْعِتَاقَ(6)، وَيَكُونُ هُنَاكَ اسْتِحْرَارُ قَتْل(7)،حَتَّى يَمْشِيَ الْـمَجْرُوحُ عَلَى الْمَقْتُولِ، وَيَكُونَ الْمُفْلِتُ أَقَلَّ مِنَ المَأْسُورِ!
    
____________
     1. سكك ـ جمع سكّة ـ : الطريق المستوي.
     2. أجنحة الدّور: رواشنها. وقيل: إن الجناح والرّوْشَنَ يشتر كان في إخراج الخشب من حائط الدار إلى الطريق بحيث لا يصل إلى جدار آخر يقابله، وإلاّ فهو الساباط، ويختلفان في أنّ الجناح توضع له أعمدة من الطريق بخلاف الرّوْشن.
     3. الخراطيم: الميازيب تطلى بالقار.
     4. المَجَانّ المُطَرّقة: النعال التي أُلْزِقَ بها الطِّرَاق ـ ككتاب ـ وهو جلد يُقَوّر على مقدار الترس ثم يُلْزَق به.
     5. السَرَق ـ بالتحريك ـ : شقق الحرير الابيض. 6. يَعْتَقِبون الخليلَ العِتاقَ: يحبسون كرائم الخليل ويمنعونها غيرهم.
     7. استحرار القتل: اشتداده.


( 290 )


فقال له بعض أصحابه: لقد أَعطيت يا أميرالمؤمنين علم الغيب!
     فضحك(عليه السلام)، وقال للرجل ـ وكان كلبياً ـ :


     يَا أَخَا كَلْب، لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْب، وَإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْم، وَإِنَّمَا عِلْمُ الْغَيْبِ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَمَا عَدَّدَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ:
(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ... )الاية، فَيَعْلَمُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الاَْرْحَامِ مِنْ ذَكَر أَوْ أُنْثَى، وَقَبِيح أَوْ جَمِيل، وَسَخِيٍّ أَوْ بَخِيل، وَشَقيّ أَوْ سَعِيد، وَمَنْ يَكُونُ فِي النَّارِ حَطَباً، أَوْ فِي الْجِنَانِ لِلنَّبِيِّينَ مُرَافِقاً; فَهذَا عَلْمُ الْغَيْبِ الَّذِي لاَ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلاَّ اللهُ، وَمَا سِوَى ذلِكَ فَعِلْمٌ عَلَّمَهُ اللهُ نَبِيَّهُ(صلى الله عليه وآله) فَعَلَّمَنِيهِ، وَدَعَا لِي بِأَنْ يَعِيَهُ صَدْرِي، وَتَضْطَمَّ عَلَيْهِ جَوَانِحِي(1).

[ 129 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
في ذكر المكاييل والموازين


     عِبَادَ اللهِ، إِنَّكُمْ ـ وَمَا تَأْمُلُونَ مِنْ هذِهِ الدُّنْيَا ـ أَثْوِيَاءُ(2) مُؤَجَّلُونَ، وَمَدِينُونَ مُقْتَضَوْنَ: أَجَلٌ مَنْقُوصٌ، وَعَمَلٌ مَحْفُوظٌ، فَرُبَّ دَائِب(3) مُضَيَّعٌ، وَرُبَّ
____________
     1. تَضْطَمّ: هو افتعال من الضمّ، أي وتنضمّ عليه جوانحي. والجوانح: الاضلاع تحت الترائب مما يلي الصدر. وانضمامها عليه: اشتمالها على قلب يعيها.
     2. أثْوِياء: جمع ثَوِيّ ـ كَغَنيّ ـ : وهو الضيف.
     3. الدائب: المداوم في العمل.


( 291 )


كَادِح(1) خَاسِرٌ.
     قَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي زَمَن لاَ يَزْدَادُ الْخَيْرُ فِيهِ إِلاَّ إِدْبَاراً، وَالشَّرُّ إِلاَّ إِقْبَالاً، وَالشَّيْطَانُ فِي هَلاَكِ النَّاسِ إِلاَّ طَمَعاً، فَهذا أَوَانٌ قَوِيَتْ عُدَّتُهُ، وَعَمَّتْ مَكِيدَتُهُ، وَأَمْكَنَتْ فَرِيسَتُهُ(2)
.
     اضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاسِ، فَهَلْ تُبْصِرُ إِلاَّ فَقِيراً يُكَابِدُ فَقْراً، أَوْ غَنِيّاً بَدَّلَ نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً، أَوْ بَخِيلاً اتَّخَذَ الْبُخْلَ بِحَقِّ اللهِ وَفْراً، أَوْ مُتَمَرِّداً كَأَنَّ بِأُذُنِهِ عَنْ سَمْعِ الْموَاعِظِ وَقْراً!
     أَيْنَ خِيارُكُمْ وَصُلَحَاؤُكُمْ؟! وَأَيْنَ أَحْرَارُكُمْ وَسُمَحَاؤُكُمْ؟! وَأَيْنَ الْمُتَوَرِّعُونَ في مَكَاسِبِهِمْ، والْمُتَنَزِّهُونَ فِي مَذَاهِبِهمْ؟! أَلَيْسَ قَدْ ظَعَنُوا جَمِيعاً عَنْ هذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ، وَالْعَاجِلَةِ المُنَغِّصَةِ، وَهَلْ خُلِّفْتُمْ إِلاَّ فِي حُثَالَة(3) لاَ تَلْتَقِي بِذَمِّهِمْ الشَّفَتَانِ، اسْتِصْغَاراً لِقَدْرِهِمْ، وَذَهَاباً عَنْ ذِكْرِهِمْ؟! فَـ
(إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، (ظَهَرَ الْفَسَادُ) فَلاَ مُنْكِرٌ مُغَيِّرٌ، وَلاَ زَاجرٌ مُزْدَجِرٌ.
    
____________
     1. الكادح: الساعي لنفسه بجهد ومشقة. والمراد: من يقصر سعيه على جمع حطام الدنيا.
     2. أمكنت الفريسة: أي سهلت وتيسرت.
     3. الحُثالة ـ بالضم ـ : الرديء من كل شيء. والمراد قَزَم الناس وصغراء النفوس.


( 292 )


أَفَبِهذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُجَاوِرُوا اللهَ فِي دَارِ قُدْسِهِ، وَتَكُونُوا أَعَزَّ أَوْلِيَائِهِ عِنْدَهُ؟ هَيْهَاتَ! لاَ يُخْدَعُ اللهُ عَنْ جَنَّتِهِ، وَلاَ تُنَالُ مَرْضَاتُهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ.
     لَعَنَ اللهُ الاْمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ التَّارِكِينَ لَهُ، وَالنَّاهِينَ عَنِ المُنكَرِ الْعَامِلِينَ بِهِ!

[ 130 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
لابي ذر(رحمه الله) لمّا أخرج إلى الربذة(1)


     يَاأَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ غَضِبْتَ للهِِ، فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ، إِنَّ الْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُمْ، وَخِفْتَهُمْ عَلَى دِينِكَ، فَاتْرُكْ فِي أَيْدِيهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَيْهِ، وَاهْرُبْ مِنهُمْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَيْهِ; فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَى مَا مَنَعْتَهُمْ، وأَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ! وَسَتَعْلَمُ مَنِ الرَّابحُ غَداً، وَالاَْكْثَرُ حُسَّداً. وَلَوْ أَنَّ السَّماَوَاتِ وَالاَْرَضِينَ كَانَتَا عَلَى عَبْد رَتْقاً، ثُمَّ اتَّقَى اللهَ، لَجَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْهُمَا مَخْرَجاً! لاَ يُؤْنِسَنَّكَ إِلاَّ الْحَقُّ، وَلاَ يُوحِشَنَّكَ إِلاَّ الْبَاطِلُ، فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْيَاهُمْ لاََحَبُّوكَ، وَلَوْ قَرَضْتَ مِنْهَا(2) لاََمَّنُوكَ.
    
____________
     1. الرّبَذة ـ بالتحريك ـ : موضع على قرب من المدينة المنورة فيه قبر أبي ذَرّ الغفاري(رضي الله عنه) والذي أخرجه اليه عثمان بن عفان.
     2. قرضت منها: قطعت منها جزءاً واختصصت به نفسك.


( 293 )


[ 131 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
[وفيه يبيّن سبب طلبه الحكم ويصف الامام الحقّ]


     أَيَّتُهَا النُّفُوسُ الُْمخْتَلِفَةُ، وَالْقُلُوبُ الْمُتَشَتِّتَةُ، الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ، وَالْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ، أَظْأَرُكُمْ(1) عَلَى الْحَقِّ وَأَنْتُمْ تَنْفِرُونَ عَنْهُ نُفُورَ الْمِعْزَى مِنْ وَعْوَعَةِ الاَْسَدِ! هَيْهَاتَ أَنْ أَطْلَعَ بِكُمْ سَرَارَ(2) الْعَدْلِ، أَوْ أُقِيمَ اعْوِجَاجِ الْحَقِّ.
     اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَان، وَلاَ الِْتمَاسَ شِيء مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ، وَلكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ، وَنُظْهِرَ الاِْصْلاَحَ فِي بِلاَدِكَ، فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ، وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ.
     اللَّهُمْ إِنّي أَوَّلُ مَنْ أَنابَ، وَسَمِعَ وَأَجَابَ، لَمْ يَسْبِقْنِي إِلاَّ رَسُولُ اللهِ(صلى الله عليه وآله)بِالصَّلاَةِ.
     وقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالمَغَانِمِ وَالاَحْكَامِ وَإِمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْبَخِيلُ، فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ(3)، وَلاَ الْجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ، وَلاَ الْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ، وَلاَ الجَائِفُ لِلدُّوَلِ(4)فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْم، وَلاَ الْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ وَيَقِفَ بِهَا دُونَ المَقَاطِعِ(5)، وَلاَ الْمَعطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الاُمَّةَ.
____________
     1. أظْأرَكم: أعْطفكم.
     2. السَرار ـ كسحاب وتكسر أيضاً في الاصل ـ : آخر ليلة من الشهر. والمراد الظّلْمة.
     3. النّهْمة ـ بفتح النون وسكون الهاء ـ : إفراط الشهوة والمبالغة في الحرص.
     4. الدُوَل ـ جمع دُولة بالضم ـ : هي المال، لانه يُتَدَاول أي ينقل من يدليد.
     5. المقَاطع: الحدود التي عينها الله لها.


( 294 )


[ 132 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[يعظ فيها ويزهد في الدنيا]


[حمد الله]


     نَحْمَدُهُ عَلَى مَا أَخَذَ وَأَعْطَى، وَعَلَى مَا أَبْلَى وَابْتَلَى(1)، الْبَاطِنُ لِكُلِّ خَفِيَّة، الْحَاضِرُ لِكُلِّ سَرِيرَة، العَالِمُ بِمَا تُكِنُّ الصُّدُورُ، وَمَا تَخُونُ الْعُيُونُ.
     وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ غَيْرُهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً نَجِيبُهُ وَبَعِيثُهُ(2)، شَهَادَةً يُوَافِقُ فِيهَا السِّرُّ الاِْعْلاَنَ، وَالْقَلْبُ اللِّسَانَ.

منها: [في عظة الناس]


     فَإِنَّهُ وَاللهِ الْجِدُّ لاَ اللَّعِبُ، وَالْحَقُّ لاَ الْكَذِبُ، وَمَا هُوَ إِلاَّ الْمَوْتُ أَسْمَعَ دَاعِيهِ(3)، وَأَعْجَلَ حَادِيهِ(4)، فَلاَ يَغُرَّنَّكَ سَوَادُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ، فَقَدْ رَأَيْتَ
____________
     1. الابلاء: الاحسان والانعام. والابتلاء: الامتحان.
     2. بَعِيثه: مصطفاه ومبعوثه.
     3. الموت أسمعَ داعِيهِ: أي إن الداعي إلى الموت قد أسمع بصوته كلّ حيّ، فلا حيّ إلاّ وهو يعلم أنه يموت.
     4. أعْجَلَ حَادِيه: أي إنّ الحادي قد أعجَلَ المدبّرين عن تدبيرهم، وأخذهم قبل الاستعداد لرحيلهم.


( 295 )


مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِمَّنْ جَمَعَ الْمَالَ وَحَذِرَ الاِْقْلاَلَ، وَأَمِنَ الْعَوَاقِبَ ـ طُولَ أَمَل وَاسْتِبْعَادَ أَجَل ـ كَيْفَ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَأَزْعَجَهُ عَنْ وَطَنِهِ، وَأَخَذَهُ مِنْ مَأْمَنِهِ، مَحْمُولاً عَلَى أَعْوَادِ الْمَنَايَا يَتَعَاطَى بِهِ الرِّجَالُ الرِّجَالَ، حَمْلاً عَلَى المَنَاكِبِ وَإِمْسَاكاً بِالاَْنَامِلِ.
     أَمَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَأْمُلُونَ بَعِيداً، وَيَبْنُونَ مَشِيداً، وَيَجْمَعُونَ كَثِيراً! أَصْبَحَتْ بُيُوتُهُمْ قُبُوراً، وَمَا جَمَعُوا بُوراً، وَصَارَتْ أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِينَ، وَأَزْوَاجُهُمْ لِقَوْم آخَرِينَ، لاَ فِي حَسَنَة يَزِيدُونَ، وَلاَ مِنْ سَيِّئَة يَسْتَعْتِبُونَ! فَمَنْ أَشْعَرَ التَّقْوَى قَلْبَهُ بَرَّزَ مَهَلُهُ(1)، وَفَازَ عَمَلُهُ.
     فَاهْتَبِلُوا(2) هَبَلَهَا، وَاعْمَلُوا لِلْجَنَّةِ عَمَلَهَا، فَإِنَّ الدُّنْيَا لَمْ تُخْلَقْ لَكُمْ دَارَ مُقَام، بَلْ خُلِقَتْ لَكُمْ مَجَازاً لِتَزَوَّدُوا مِنْهَا الاَعْمَالَ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ; فَكُونُوا مِنْهَا عَلى أَوْفَاز(3)، وَقَرِّبُوا الظُّهُورَ(4) لِلزِّيَالِ(5)
.
    
____________
     1. بَرّزَ الرجل على أقرانه: أي فاقهم. والمَهَل: التقدم في الخير، أي فاق تقدمه إلى الخير على تقدم غيره.
     2. اهْتَبَلَ الصيد: طلبه. والضمير في «هَبَلَها» للتقوى لا للدنيا. أي: اغنموا خيرَ التقوى.
     3. الوَفْز ـ بتسكين الفاء وفتحها ـ : العَجَلَة، وجمعه أوْفاز، أي: كونوا منها على استعجال.
     4. الظهور: يراد بها هنا ظهور المطايا.
     5. الزِّيال: الفراق.


( 296 )


[ 133 ]
ومن خطبة له(عليه السلام)
[يعظّم الله سبحانه ويذكر القرآن والنبي ويعظ الناس]



[عظمة الله تعالى]


     وَانْقَادَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَالاخِرَةُ بِأَزِمَّتِهَا، وَقَذَفَتْ إِلَيْهِ السَّماَوَاتُ وَالاَرَضُونَ مَقَالِيدَهَا(1)، وَسَجَدَتْ لَهُ بِالْغُدُوِّ وَالاْصَالِ الاَْشْجَارُ النَّاضِرَةُ، وَقَدَحَتْ(2) لَهُ مِنْ قُضْبَانِهَا النِّيرَانَ الْمُضِيئَةَ، وَآتَتْ أُكُلَهَا بِكَلِمَاتِهِ الِّثمَارُ الْيَانِعَةُ.

منها: [في القرآن]


     وَكِتَابُ اللهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، نَاطقٌ لاَ يَعْيَا لِسَانُهُ، وَبَيْتٌ لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ، وَعِزٌّ لاَ تُهْزَمُ أَعْوَانُهُ.

منها: [في رسول الله]


     أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَة مِنَ الرُّسُلِ، وَتَنَازُع مِنَ الاَْلْسُنِ، فَقَفَّى بِهِ الرُّسُلَ، وَخَتَمَ بِهِ الْوَحْيَ، فَجَاهَدَ فِي اللهِ الْمُدْبِرِينَ عَنْهُ، وَالْعَادِلِينَ بِهِ.

منها: [في الدنيا]


     وَإِنَّمَا الدُّنْيَا مَنْتَهَى بَصَرِ الاَْعْمَى، لاَ يُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَيئاً، وَالْبَصِيرُ يَنْفُذُهَا
____________
     1. مقاليدها: جمع مِقْلاد، وهو المفتاح.
     2. قَدَحتْ: اشتعلت.
     أي: أنّ الاشجار أشعلت النيران المضيئة من قضبانها، أي: أغصانها.


( 297 )


بَصَرُهُ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا، فَالبَصِيرُ مِنْهَا شَاخِصٌ، وَالاَْعْمَى إِلَيْهَا شَاخِصٌ، وَالْبَصِيرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدٌ، وَالاَْعْمَى لَهَا مُتَزَوِّدٌ.

منها: [في عظة الناس]


     وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْء إِلاَّ وَيَكَادُ صَاحِبُهُ يَشْبَعُ مِنْهُ وَيَمَلُّهُ، إِلاَّ الْحَيَاةَ فَإِنَّهُ لاَ يَجِدُ لَهُ فِي الْمَوْتِ رَاحَةً، وَإِنَمَا ذلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحِكْمَةِ الَّتي هِيَ حَيَاةٌ لِلْقَلْبِ الْمَيِّتِ، وَبَصَرٌ لِلْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ، وَسَمْعٌ لَلاُْذُنِ الصَّمَّـاءِ، وَرِيٌّ لِلظَّمْآنِ، وَفِيهَا الْغِنَى كُلُّهُ وَالسَّلاَمَةُ.
     كِتَابُ اللهِ تُبْصِرُونَ بِهِ، وَتَنْطِقُونَ بِهِ، وَتَسْمَعُونَ بِهِ، وَيَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْض، وَيَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلى بَعْض، وَلاَ يَخْتَلِفُ فِي اللهِ، وَلاَ يُخَالِفُ بِصَاحِبِهِ عَنِ اللهِ.
     قَدِ اصْطَلَحْتُمْ عَلَى الْغِلِّ(1) فِيَما بَيْنَكُمْ، وَنَبَتَ الْمرْعَى عَلَى دِمَنِكُمْ(2)، وَتَصَافَيْتُمْ عَلى حُبِّ الاْمَالَ، وَتَعَادَيْتُمْ فِي كَسْبِ الاَْمْوَالِ. لَقَدِاسْتَهَامَ(3) بِكُمُ الْخَبِيثُ، وَتَاهَ بِكُمُ الْغُرُورُ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى نَفْسِي وَأَنْفُسِكُمْ.
    
____________
     1. الغِلّ: الحقد، والاصطلاح عليه: الاتفاق على تمكينه في النفوس.
     2. نَبَتَ المرعى على دِمَنِكم: تأكيد وتوضيح لمعنى الحقد. والدِّمَن ـ بكسر ففتح ـ : جمع دِمْنَة ـ بالكسر ـ وهي الحقد القديم. ونَبْتُ المرعى عليه استتارُهُ بظواهر النفاق. وأصل الدّمَن: السرقين وما يكون من أرواث الماشية وأبوالها. وسُمّيت بها الاحقاد لانّها أشبه شيء بها.
     3. استهام: أصله من هام على وجهه، إذا خرج لا يدري أين يذهب.


( 298 )


[ 134 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
وقد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزوالروم


     وَقَدْ تَوَكَّلَ اللهُ لاَِهْلِ هَذا الدِّينِ بِإِعْزَازِ الْحَوْزَةِ(1)، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَالَّذِي نَصَرَهُمْ وَهُمْ قَلِيلٌ لاَ يَنْتَصِرُونَ، وَمَنَعَهُمْ وَهُمْ قَلِيلٌ لاَ يَمتَنِعُونَ، حَيٌّ لاَ يَمُوتُ.
     إِنَّكَ مَتَى تَسِرْ إِلَى هذَا الْعَدُوِّ بِنَفْسِكَ، فَتَلْقَهُمْ بِشَخْصِكَ فَتُنْكَبْ، لاَ تَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ كَانِفَةٌ(2) دُونَ أَقْصَى بِلاَدِهِمْ، وَلَيْسَ بَعْدَكَ مَرْجِعٌ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ رَجُلاً مِحْرَباً، وَاحْفِزْ(3) مَعَهُ أَهْلَ الْبَلاَءِ(4) وَالنَّصِيحَةِ، فَإِنْ أَظْهَرَ اللهُ فَذَاكَ مَا تُحِبُّ، وَإِنْ تَكُنِ الاُْخْرَى، كُنْتَ رِدْءاً للنَّاسِ(5) وَمَثَابَةً(6) لِلْمُسْلِمِينَ.
    
____________
     1. الحَوْزَة: ما يَحُوزُه المالك ويتولى حفظه. وإعْزَازُ حَوْزة الدين: حمايتها من تغلّب أعدائه.
     2. كانفة: عاصمة يلجأون اليها، من «كنفه» إذا صانه وستره.
     3. احفِزْ: أمر من الحفز، وهو الدفع والسَوْق الشديد.
     4. أهل البَلاء: أهل المهارة في الحرب مع الصدق في القصد والجراءة في الاقدام. والبَلاء: هو الاجادة في العمل وإحسانه.
     5. الرِّدْء ـ بالكسر ـ : الملجأ. 6. المَثابة: المرجع.


( 299 )


[ 135 ]
ومن كلام له(عليه السلام)


وقد وقعت مشاجرة بينه وبين عثمان، فقال المغيرة بن الاخنس لعثمان: أنا أكِفيكَه، فقال أميرالمؤمنين صلوات الله عليه للمغيرة:


     يَابْنَ اللَّعِينِ الاَْبْتَرِ(1)، وَالشَّجَرَةِ الَّتي لاَ أَصْلَ لَهَا وَلاَ فَرْعَ، أَنْتَ تَكْفِينِي، فَوَاللهِ مَاأَعَزَّ اللهُ مَنْ أَنْتَ نَاصِرُهُ، وَلاَ قَامَ مَنْ أَنْتَ مُنْهِضُه، اخْرُجْ عَنَّا أَبْعَدَ اللهُ نَوَاكَ(2)، ثُمَّ ابْلُغْ جَهْدَك، فَلاَ أَبْقَى اللهُ عَلَيْكَ إِنْ أَبْقَيْتَ!

[ 136 ]
ومن كلام له(عليه السلام)
[في أمر البيعة]


     لَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً(3)، وَلَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً، إِنِّي أُرِيدُكُمْ للهِِ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لاَِنْفُسِكُمْ. أَيُّهَا النَّاسُ، أَعِينُوني عَلى أَنْفُسِكُمْ، وَايْمُ اللهِ لاَُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ، وَلاََقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهَ(4) حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً.
____________
     1. الابْتر: هو من لا عَقِب له.
     2. النّوَى: ها هنا بمعنى الدار.
     3. الفَلْتة: الامر يقع عن غير رويّة ولا تدبّر.
     4. الخِزامة ـ بالكسر ـ : حَلْقة من شعر تجعل في وترة أنف البعير ليشدّ فيها الزمام ويسهل قياده.

 

موقع يا زهراء سلام الله عليها لكل محبي الزهراء سلام الله عليها فلا تبخلوا علينا بآرائكم ومساهماتكم وترشيحكم كي يعلو اسمها سلام الله عليها ونعلو معه