ليس في دنيا الأنساب نسب أسمى
ولا أرفع من نسب أبي الفضل العباس فهو من صحيح الأسرة العلوية التي هي من أجل
وأشرف الأسر التي عرفتها الإنسانية في جميع أدوارها تلك الأسرة العريقة في
أعجب والشرف التي أحدث العالم الإسلامي بعناصر الفضيلة والتضحية في سبيل
الخير وأضاءت الحياة العامة بروح التقوى والإيمان.
فأبو الفضل سليل هذه الأسرة
المباركة هو ابن عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) وكفى به فخراً أما أمه فهي
السيدة الزكية فاطمة بنت حزام بن خالد، التي ولدتها الفحول - كما وصفها علي
(عليه السلام) فهي تتحدر من أسرة ذائعة الصيت بين العرب بالنبل والشهامة
والشجاعة والكرام وقد عرفت بالنجدة، وليس في العرب من هو أشجع من أهلها ولا
أفرس، ومن قولها ملاعب الأسنة أبو براء الذي لم بعرف الناس مثله في الشجاعة.
وأبو الفضل الذي ولد سنة (26)
هو في اليوم الرابع من شهر شعبان بالمدينة وسماه والده أمير المؤمنين (عليه
السلام) عباساً ولا ريب أنه أستشف ما وراء الغيب أنه سيكون بطلا من أبطال
الإسلام وسيكون عبوساً في وجه المنكر والباطل ومنطلق البسمات في وجه الخير
كان الساعد الأيمن لأخيه الإمام الحسين (عليه السلام) في ثورته المباركة في
كربلاء، كما أراد له أبوه تماماً.
فقد حمل اللواء منذ خروج
الحسين (عليه السلام) من يثرب حتى انتهى إلى كربلاء بقبضة من حديد فلم يسقط
منه حتى قطعت يداه وهوى صريعاً بجنب العلقمي .. ذلك النهر الذي سمي العباس
بطله بعد أن هزم الجيش الذي كان يحوطه بقوى مكثفة وجندل الأبطال من حوله
واحتل ماءه عدة مرات فعرف لأجل ذلك بالسقاء لقيامه بسقاية عطاشى أهل البيت
(عليه السلام) حينما فرض ابن مرجانه الحصار على الماء وأقام جيوشه على الفرات
ليموت الحسين وأصحابه عطشاً مما دفع العباس إلى أن يستحيل قوة مدمرة وصاعقة
مرعبة تدحر الجيوش العادية وتحامي عن كتائب جيش الحق بحسن التدبير وقوة البأس
حتى لقب بكبش الكتيبة وهو وسام رفيع لا يمنح آنذاك إلا للقائد الأعلى في
الجيش مثله مثل لقب العميد الذي قلد به أبو الفضل أيضاً فكان بحق عميد جيش
الحسين وقائد قواته المسلحة وحامي ظعينته كذلك فقد كان الراعي والحارس
والكافل لمخدرات النبوة وعقائل الوحي وقد بذل قصارى جهوده في حمايتهن
وحراستهن وخدمتهن فهو الذي كان يقوم بترحيلهن وإنزالهن من المحامل طيلة
الطريق من يثرب إلى كربلاء.
وكان إلى جانب ذلك القمر في
روعة بهائه وجميل صورته ولذا لقب بقمر بني هاشم ومثلما كان قمراً لأسرته
العلوية فقد كان قمراً في دنيا الإسلام إذا أضاء الطريق للفوز بإحدى الحسنيين
النصر أو الشهادة في سبيل المبدأ.
وكان أبو الفضل نعم الأخ
المواسي لأخيه والناصح الأمين له في كل حياته وما تقدم عليه في حركة أو سكون
و لا تخلف عنه كذلك بل كان طوع أمره ورهن إشارته.
ولأجل ذلك كله استحق العباس
هذه المكانة المرموقة والجاه العظيم عند الله ورسوله والأئمة والناس أجمعين
حتى أصبح باباً للحوائج ما دعا الله طالب حاجة وقدّمه بين يدي حاجته وتوسل به
إلا قضاها الله له إكراما لهذا المولى المعظم والعبد الصالح المكرم في الأرض
والسماء، وما قصده مكروب إلا كشف الله ما به من محن الأيام وكوارث الزمان
تبياناً لعظمة منزلة أبي الفضل العباس (عليه السلام).
ولا يسع المرء إلا أن يقف
إجلالاً وإكبارا لموقف بطل العلقمي العظيم يوم آثر آخاه على نفسه فضرب أروع
مثال في التضحية والإيثار، ومن يتصور العباس وهو يرمي الماء من كفه مع شدة
عطشه إذ يتذكر عطش أخيه الحسين وعياله فيخاطب نفسه قائلاً:
يا نفس من بعد الحسين
هوني وبعــــده لا كــــنت أو تكــــــــوني
هـــذا حــسين وارد
المنـــــــــون وتــــشربين بارد المــــــــــعيـــــن
من يتصور هذا المشهد الرائع من
الإيثار وشرف النفس والغيرة على الأخوة، فلا يقف على رؤوس أصابعه محاولاً
استشراف هذه القمة العالية والسنام الشامخ من المجد وعلو الكعب في الأخلاق
الفاضلة والخصال الطيبة أملاً أن يصيبه وابلٌ من صيبّها أو أن يغرف غرفة من
بحرها اللجيّ تنفعه في رحلته نحو الكمال المنشود.
والشيء الذي يدعو إلى الاعتزاز
بتضحية أبي الفضل ونصرته لأخيه الحسين (عليه السلام) أنها لم تكن بدافع
الأخوة والرحم الماسة وغير ذلك من الاعتبارات السائدة بين الناس وإنما كانت
بدافع الإيمان الخالص بالله تعالى ذلك أن الإيمان هو الذي تفاعل مع عواطف
العباس وصار عنصراً من عناصره ومقوماً من مقوماته وقد أدلى بذلك في رجزه عند
ما قطعوا يمينه التي كانت تقيض براً وعطاءاً للناس قائلاً:
والله أن قطعتم يميني إني
أحامي أبداً عن ديني وعن إمام صادق اليقين
إن الرجز في تلك العصور كان
يمثل الأهداف والمبادئ والقيم التي من أجلها يخوض الإنسان المعارك ويقاتل حتى
يستشهد في سبيلها ورجز أبي الفضل (عليه السلام) واضح وصريح في أنه إنما يقاتل
دفاعاً عن الدين وعن المبادئ الإسلامية الأصيلة التي تعرضت إلى الخطر أيام
الحكم الأموي الأسود كما أنه يقاتل دفاعاً عن إمام الحق المفترض الطاعة على
المسلمين سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله) وريحانته الإمام الحسين (عليه
السلام) المدافع الأول عن كرامة إلى الإسلام. فهذه هي العوامل التي دفعته إلى
التضحية وليس هناك أي دافع آخر وهذا هو السر في جلال تضحيته وخلودها على مرّ
العصور وتتابع الأجيال.
لقد حمل أبو الفضل والمروءة
العباس بن علي (عليه السلام) مشعل الحرية والكرامة وقاد قوافل الشهداء إلى
ساحات الشرف وميادين العزة والنصر للشعوب الإسلامية التي كانت ترزح تحت وطأة
الظلم والجور، وانطلق إلى ميادين الجهاد من أجل أن ترتفع كلمة لا إله إلا
الله عالية في الأرض تلكم الكلمة التي هي منهج حياة كريمة أرادها الله لعباده
من البشر الصالحين.
وقد استشهد سبع القنطرة من أجل
أن يعيد للإنسان المسلم حريته المسلوبة وكرامته المهدورة وينشر بين أبناء
الأمة رحمة الإسلام ونعمته الكبرى الهادفة لاستئصال الظلم والجور وبناء مجتمع
لا ظلّ فيه لأي لون من ألوان الفزع والخوف والاضطراب واستشهد أبو الفضل من
أجل أن يقوم حكم القرآن وينشر العدل بين الناس ويوزع عليهم خيرات الأرض فليست
هي لقوم دون آخرين... فسلام على أبي الفضل يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث
حياً.
ويؤثرون على أنفسهم
الإيثار لغة:
قال الفيومي في المصباح المنير
آثرته بالمد فضلته وقال فخر الدين الطريحى في مجمع البحرين (ويؤثرون على
أنفسهم) أي يقدمون على أنفسهم من قولهم آثره على نفسه أي قدمه وفضله وقال ابن
الأثير في النهاية ويستأثر عليكم أي يفضل عليكم غيركم في الفئ.
الفرق بين الإيثار والمواساة:
قال الشريف الجرجاني في
(التعريفات) المواساة أن ينزل غيره منزلة نفسه في النفع له والدفع عنه
والإيثار أن يقدم غيره على نفسه فيهما وهو النهاية في الإخوة ، والإيثار
نتيجة العفة التي هي من فضائل النفس الأربعة الكمالية وشعبة من شعب الجود
الذي هو أفضل خلق وسجية وأجل غريزة من الغرائز الإنسانية ومن أحسن ما تحلى به
هذا النوع البشرى المتسلطن على عامة الأنواع قال أحمد بن أبي الربيع في (سلوك
المالك) والإيثار هو كف الإنسان عن بعض حوائجه وبذلها لمستحقها ، وأن يحدث من
تركيب السخاء مع العفة الإيثار على النفس وقال ابن مسكويه الخازن في (تهذيب
الأخلاق) الفضائل التي تحت السخاء، الكرم، الإيثار، النبل، المواساة،
السماحة، المسامحة.
أما الإيثار فهو فضيلة للنفس
بها يكف الإنسان عن بعض حاجاته التي تخصه حتى يبذله لمن يستحقه وقال الغزال
الشافعي في (الإحياء) أعلم أن السخاء والبخل كل منهما ينقسم إلى درجات فارفع
درجات السخاء الإيثار وهو أن يجود بالمال مع الحاجة إليه وإنما السخاء عبارة
عن بذل ما يحتاج إليه المحتاج أو لغير المحتاج والبذل له مع الحاجة أشد وكما
أن السخاوة قد تنتهي إلى أن يسخو الإنسان على غيره مع الحاجة فالبخل قد ينتهي
إلى أن يبخل على نفسه مع الحاجة فكم من بخيل يمسك المال فيمرض فلا يتداوى
ويشتهى الشهوة فلا يمنعه منها إلا البخل بالثمن ولو وجدها مجانا أكلها فهذا
بخل على نفسه مع الحاجة وذلك يؤثر على نفسه غيره مع أنه محتاج إليه فانظر
مابين الرجلين فأن الأخلاق عطايا يضعها الله حيث يشاء وليس بعد الإيثار درجة
في السخاء إلى آخر كلامه المطول وقال رشيد الوطواط في (غرر النصائح الواضحة)
ويقال مراتب العطاء ثلاثة سخاء وجود وإيثار والسخاء إعطاء الأقل وإمساك
الأكثر والجود إعطاء الأكثر وإمساك الأقل والإيثار إعطاء الكل من غير تمساك
لشيء وهذه أشرف المراتب وأعلاها وأحقها بالمدح فان إيثار المرء غيره على نفسه
أفضل من إيثار نفسه على غيره وكفى بهذه الخلة شرفا مدح الله تعالى أفضل من
إيثار نفسه على غيره وكفى بهذه الخلة شرفا مدح الله تعالى أهلها بقوله
(ويؤثرون على أنفسهم) الخ.
(فالإيثار) مرتبة هي أعلا
مرتبة في السخاء ودرجة هي أرقى درجة في الجود وإذا كان كذلك فمراتب الإيثار
لا تضبط لأنها نسبية وتختلف باختلاف الأحوال والأشخاص ويتميز منها (مرتبتان)
بالإضافة إلى ما آثر به وبذله لغيره وهي (مرتبة بذل النفس) والإيثار بها وهي
أعلا مراتب الإيثار ولا نعرفها في عرب الجاهلية إلا لكعب بن إمامة الأيادي
وحاتم بن عبد الله الطائي وفي عرب الإسلام لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب
(عليه السلام) فأنه آثر النبي (صلى الله عليه وآله) بنفسه حين بات على فراشه
ليلة الهجرة وبذل نفسه له في الحروب الطاحنة التي فرت فيها أبطال الصحابة.
ولولده العباس (عليه السلام)
حين آثر أخاه الحسين (عليه السلام) بنفسه وفداه بروحه وعلى سبيله سلك شهداء
كربلاء فأن الجميع آثروا الحسين (عليه السلام) بنفوسهم وباقي الشهداء في سائر
الحروب الدينية ليسوا كذلك لأن الشهداء مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم
يظهر منهم ما ظهر من أولئك من الإقدام على المنية والاقتحام على الموت مع
علمهم أنهم لو تركوا لكانوا في مأمن ومنعة وموقفهم في صف الحسين (عليه
السلام) لا يمنيهم بالسلامة ولا يبشرهم بالحيات أبدا وأصحاب النبي (صلى الله
عليه وآله) دلائل الظفر عندهم لائحة وأمارات الغلب لهم واضحة والقرآن يخبرهم
بذلك كما في بدر وخيبر (وإذ يعد كم إحدى الطائفتين أنها تكون لكم) ووعدكم
(مغانم كثيرة تأخذونها) والنبي (صلى الله عليه وآله) يخبرهم بحسن العاقبة
وسلامة النفس والظفر ومع ذلك يقولون (ما وعدنا الله ورسوله إلا غرروا) فأين
هؤلاء ممن أذن لهم الحسين (عليه السلام) فالانصراف وأخبرهم أنهم يقتلون جميعا
فيقولون لو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين لآثرنا النهوض معك على
الإقامة فيها هؤلاء وأبيك جوهر الرجال ولباب الفضيلة (المرتبة الثانية)
الإيثار بالقوت وهذا كثير جاهلية وإسلاما فقد آثر حاتم الطائي بقوته وبات
طاويا وصنع غيره مثل صنعه من عرب الجاهلية.
أما في الإسلام فقد آثر أهل
بيت الرسول بأقواتهم وباتوا طاوين ثلاثا فنزلت سورة هل أتى مدحا لهم وآية
(ويؤثرون) وآثر أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه مرارا عديدة كالمقداد
وعمار وغيرهما وآثر ابوذر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالماء العذب مع
شدة عطشه وآثر جماعة من الصحابة بعضهم بعضا وهم صرعى بالماء مع شدة العطش حتى
ماتوا كلهم عطاشى وحديث صاع التمر مشهور عند المحدثين فأنه طاف أربعين بيتا
ورجع إلى صاحبه كل واحد يؤثر به صديقه.
وآثر أبو الفضل العباس بن أمير
المؤمنين أخاه الحسين (عليه السلام) بالماء فلم يشربه منع كونه شديد الظمأ
فمات عطشانا.
ولكل إنسان دليلان هاديان
يرشدانه إلى الفضائل ويدلانه على المحاسن والكمالات و(هما العلم والعقل) (أما
العلم) فدليل إلى كل ما ثبت في الشريعة الإسلامية حسنه وحث الشارع المقدس على
فعله ورغب على الإتيان به ترغيباً مؤكدا ودل عليه دلالة واضحة وهذا ما تسميه
المتشرعة بالمستحب المؤكد (وأما العقل) فدليله إلى ما استحسنه العقلاء وترجح
عند النبلاء ارتكابه وفضل العقل الإتيان به على الترك تفضيلا محسوسا يدركه كل
عاقل بأدنى التفات واقل فكرة وروية لما يراه من تمادح العقلاء وتنويههم فيه
وإطراء المتصف به إطراء بليغا وبالغا أقصى درجة الاستحسان وهذا من الشعور
العربي والإحساس المختص بأهل اللسان الفصيح دون سائر الأمم والشعوب وأن لم
ينكروا فضيلته ولم يشكوا في رجحانه وقد عبر الأصوليين عنه بالحسن العقلي وحيث
تكامل لأبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين عليهما السلام دليلاه وتوافق عنده
مرشداه هجما به على الفضيلة النبيلة وأرشداه إلى اختيار الفعلة الحميدة وهي
الإيثار بنفسه وعلى نفسه وهذه الفضيلة المعروفة في فضائل أسلافه السادات
الأماجد الذين آثروا بنفوسهم وعلى نفوسهم مرارا عديدة وقد نزل القرآن المجيد
في مدحهم آيات وسور تتلى في المحاريب وعلى الأعواد وتذاع في المسارح والأندية
والمجتمعات.
رجحان الإيثار:
لاشك في رجحانه الشرعي لقوله
تعالى في معرض المدح للمؤثرين (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق
شح نفسه فأولئك هم المفلحون) فأثبت سبحانه الإيثار مع الخصاصة وهي شدة الحاجة
ثم قرن الفلاح بترك الشح الذي هو ضد الإيثار ومعلوم أن النفس تشح فيما لا
تحتاج إليه كثيرا فكيف لا تشح بما تشتد حاجتها إليه ومن توقى هذا الشح في
الخصاصة وهو الإيثار فقد أفلح عند الله وهذه الآية نزلت في أهل البيت عليهم
السلام وهم أهل الكساء علي وفاطمة والحسن والحسين رغم ما زعمه بعض أهل الحديث
أنها نزلت في الأنصار فآل محمد (صلى الله عليه وآله) نزل بهم ضيف وليس عندهم
غير ما يكفيه فقدموه له وأطفؤا السراج لئلا يراهم ولا شيء عندهم وباتوا طاوين
وقال تعالى (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) إلى آخر السورة
وهي مع اتفاق المفسرين أنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم
السلام)، ظاهرة في مدح الإيثار لاتفاقهم أنهم بانوا ثلاثا طاوين وأطعموا هذه
الأصناف الثلاثة وذلك في نذر الحسن والحسين (عليهما السلام) لما مرضا (أما
الأحاديث فكثيرة) جدا منها من طريق الشيعة ما رواه الصدوق في الفقيه قال: قال
(الصادق عليه السلام) (خياركم سماؤكم وشرارتكم بخلاؤكم ومن خالص الإيمان البر
بالإخوان والسعي في حوائجهم وأن البار بالإخوان ليحبه الرحمن وفي ذلك مرغمة
للشيطان وتزحزح عن النيران ودخول الجنان) ثم قال لجميل يا جميل (أخبر بهذا
غرر أصحابك) قلت جعلت فداك من غرر أصحابي قال (هم البارون بالإخوان في العسر
واليسر) ثم قال يا جميل أمان أن صاحب الكثير يهون عليه ذلك وقد مدح الله عز
وجل في كتابه صاحب القليل فقال (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن
يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) ومن (طرق أهل السنة) ما رواه الغزال الشافعي
(في أحياء العلوم) قال النبي (صلى الله عليه وآله) (أيما امرئ اشتهى شهوة فرد
شهوته وآثر على نفسه غفر الله له)
القسم الأول من الإيثار
وهو الإيثار بالنفس وهو أفضل
قسمي الإيثار وقال أبو تمام الطائي
يجود بالنفس إذ ظن الجواد
بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود
فمن الذين آثروا بأنفسهم (حاتم
بن عبد الله الطائي) وذلك أنه مر في بلاد عنزة وهو لا يعرف فعرفه أسير في
أيديهم فناداه يا أبا سفانة قتلني الأسر والقمل فتصدق علي فقال ويحك قد أسأت
إلى إذ نوهت بي في غير بلاد قومي ثم جاء إلى العنزيين فقال ضعوا رجلي مكان
رجله في القيد وأطلقوه ففعلوا فبقى حاتم مدة أسيرا في أيديهم حتى بلغ قومه
الخبر فبعثوا بفدائه إلى العنزيين فأطلقوه وقصته مشهورة في التاريخ وهى فعلة
كريمة لها عظمتها في عالم الإنسانية إلا أنها دون بذل النفس كما فعل غيره من
العرب.
المؤثرون بأنفسهم في الإسلام
سيدهم أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب (عليه السلام) فأنه آثر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحياته
وفداه بنفسه وإيثاره أفضل كل إيثار في الدنيا فلا كعب ولا غيره نظيره أن أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) باهي الله به ملائكته وانزل فيه
قرآنا يتلى في المحاريب قوله تعالى (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة
الله) وقصة مبيت أمير المؤمنين (عليه السلام) على فراش رسول الله (صلى الله
عليه وآله) ليلة الهجرة مشهورة عند علماء التاريخ فقد رواها من علماء أهل
السنة (مفتى الشافعية دخلان في سيرته على هامش الحلبية ص 355 ج1 والبرهان
الحلبي الشافعي في (سيرته إنسان العيون) ص 29 ج 2 وأبو جعفر الطبري أحد أئمة
المذاهب في التاريخ ص 243 ج 2 وعبد الملك بن هشام المالكي (في سيرته) ص 76 ج
2 والسمهودي الشافعي في (وفاء الوفاء) تاريخ المدينة النبوية ص 168 ج 1 وابن
الصباغ المالكي (في الفصول المهمة) ص 32 وابن طلحة الشافعي في (مطالب السؤل)
ص 35 وسبط بن الجوزي الحنفي في (تذكرة خواص الأمة ص 21 وأبو حامد الغزالي
الشافعي الملقب بحجة الإسلام وغيرهم كثير ولفظ الغزالي (في أحياء علوم الدين)
ص 223 ج 2 وبات علي على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفديه بنفسه
ويؤثره بالحياة فأوحى الله إلى جبرائيل وميكائيل (عليهما السلام) أني قد آخيت
بينكما وجعلت عمر أحد كما أطول من عمر الآخر فأيكما يؤثر صاحبة بالحياة
فاختار كلاهما الحياة أحباها فأوحى اليهما أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب
(عليه السلام) آخيت بينه وبين نبي محمد (صلى الله عليه وآله) فبات على فراشه
يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فكان جبرائيل
(عليه السلام) عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبرائيل (عليه السلام) يقول بخ
بخ بخ من مثلك ياابن أبي طالب والله تعالى يباهي بك الملائكة فانزل الله
تعالى (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد) قال
سبط بعد أن نقل مثل هذا بعينه عن تفسير الثعلبي عن ابن عباس قال أول من شرى
نفسه ابتغاء مرضاة الله علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال ابن عباس وأنشدني
أمير المؤمنين (عليه السلام) شعراً قاله تلك الليلة:
وقيت بنفسي خير من وطأ
الثرى ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجــر
وبات رسول الله في الغار
آمنــــا فنجاه ذو الطول العلي من المكـــــر
وبت أراعيهم وما
يثبتونـــــــــــي وقد وطنت نفسي على القتل والاسر
إيثار أنصار الحسين بن علي
(عليه السلام):
هو الإيثار المحمود وكل واحد
منهم قد آثر الحسين (عليه السلام) بنفسه وفداه بروحه لو نفع الإيثار وقبلت
الفدية فهذا سعيد بن عبد الله الحنفي وقف هدفاً للسلاح دونه وهو يصلى ببقية
أصحابه صلاة الخوف والحنفي وقف هدفا للسلاح دونه وهو يصلى ببقية أصحابه صلاة
الخوف والحنفي يتلقى كل طعنة بصدره وكل ضربة بنحره حتى قتل قال أبو جعفر
الطبري: ثم صلوا الظهر صلى بهم الحسين صلاة الخوف ثم اقتتلوا بعد الظهر فاشتد
قتالهم ووصل إلى الحسين فاستقدم الحنفي إمامه فاستهدف لهم وهم يرمونه بالنبل
يمينا وشمالا قائما بين يديه فما زال يرمى حتى سقط الخ وقال السيد بن طاووس
(في الملهوف) وجد فيه ثلاثة عشر سهما سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح
الخ قال أبو جعفر الطبرى فلما رأى أصحاب الحسين أنهم قد كثروا وأنهم لا
يقدرون أن يمنعوا حسينا ولا أنفسهم تنافسوا في أن يقتلوا بين يديه فجاء عبد
الله وعبد الرحمن ابنا عزرة الغفاريان فقالا يا أبا عبد الله عليك السلام
جازنا العدو إليك فأحببنا أن نقتل بين يديك نمنعك وندفع عنك فقال مرحبا بكما
ادنوا مني فدنوا منه فجعلا يقاتلان قريبا منه واحد هما يقول:
قد علمت حقا بنوا
غفــــــــــار وخندق بعد بني نـــــزار
لنضر بن معشر
الفجــــــــــــار بكل عضب صارم بتـــار
يا قوم ذو دواعن بني
الاحـرار بالمشرفى والقنا الخطار
قال وجاء الفتيان الجابريان
سيف بن الحارث بن سريع ومالك بن عبد بن سريع وهما ابنا عم وأخوان لأم فأتيا
حسينا فدنوا منه وهما يبكيان فقال إي أبني أخي ما يبكيكما فو الله إني لأرجو
أن تكونا بعد ساعة قريري عين فقالا جعلنا الله فداك لا والله ما أنفسنا نبكي
ولكن نبكي عليك نراك قد أحيط بك ولا نقدر على أن نمنعك فقال جزا كما الله
أحسن جزاء المتقين وقال: عابس بن أبي شبيب الشاكري يا أبا عبد الله أما والله
ما أمسى على ظهر الأرض قريب أو بعيد أعز علي ولا أحب إلي منك ولو قدرت أن
ادفع عنك الضيم والقتل بشيء اعز علي من نفسي ودمي لفعلته السلام عليك يا أبا
عبد الله أشهدك أني على هداك وهدى أبيك ثم مشى بالسيف مصلتا نحوهم وبه ضربة
على جبينه الخ.
القسم الثاني من الإيثار
وهو من آثر على نفسه لا بنفسه
وهذا كثير في عرب الجاهلية وهو من شعار سمحائهم وكانوا يمتدحون به ويفتخرون
كما قال عروة الصعاليك وهو عروة بن الورد العبسى قاله المبرد وفي قول ابن عبد
ربه أن رجلا من عبس خاطبه بهذا الشعر ولعله أثبت.
لا تشتمني يابــــــن ورد
فاننــــــي تعود على مالي الحقوق العوائد
ومن يؤثر الحق الدؤب تكـــن
لــــــه خصاصة جسم وهو طيان ماجد
وأني أمرء عافي أنــــائي
شــــركــة وأنت امـــرؤ عافي انائك واحــــد
أقسم نفسي في نفوس
كثيـــــرة واحسو زلال المـــاء والماء بارد
ويعنى بتقسيم نفسه في النفوس
الكثيرة تقسيم زاده على الناس ويبيت طاويا لإيثاره لهم بزاده ويستطعم الماء
البارد وقال حبال الكليي وذكره الآمدي في المؤتلف والمختلف.
لا تعذليني في نفضى وفي
فرشي أن تعذليني تشكينى وتؤذينـــــــي
فساهميني في مالي ولا
تدعـــــي خلقا يريبك أن الله يغنبنــــــــــــي
حسبي إذا أحتملوا أن يحملوا
ثقلي وملؤ كفي عند الجهد يكفينــــــي
أن مات هزلا عدى من
سماحتــــه أو خلد الغس في قومي فلوميني
قال الغس اللئيم وعدي في بني
كلب كان يذبح كل يوم خمسين شاة يطعمها من يرد عليه وقال عنترة الفوارس العبسي
في معلقته:
ولقد أبيت على الطوى
واضله حتى أنال به كريم المطعم
وقال آخر
لولا اتقاء الردى نزهت
أنملتي عن أن تهم بمطعوم ومشروب
حاتم بن عبد الله الطائي
ذكر الميداني في مجمع الأمثال
بعد قصة الأسير عند العنزيين قال ومن حديثه أن ماوية امرأة حاتم حدثت أن
الناس أصابتهم سنة أذهبت الخف والخلف فبتنا ليلة بأشد الجوع واخذ حاتم عديا
وأخذت سفانة فعللنا هما حتى ناما فاخذ يعللني بالحديث لأنام فرقت له لما به
من الجهد فأمسكت عن كلامه لينام ويظن أني نائمة فقال لي أنمت مرارا فلم أجبه
فأمسكت ونظر من وراء الخباء فإذا شيء قد أقبل فرفع رأسه فإذا أمراة فقالت يا
أبا سفانة أتيتك من عند صبية جياع فقال أحضر بني صبيانك فو الله لأشبعنهم
قالت فقمت مسرعة فلت بما ذا يا حاتم فو الله ما نام صبيانك من الجوع إلا
بالتعليل فقام إلى فرسه ثم أجج نارا ودفع إليها شفرة وقال أشتوي وكلي وأطعمي
صبيانك وقال لي أيقظي صبييك فأيقظتهما ثم قال والله أن هذا للؤم وأن أهل
الصرم حالهم كحالكم فجعل يأتي الصرم بيتا بيتا ويقول عليكم النار فاجتمعوا
وأكلوا وتقنع بكسائه وقعد ناحية حتى لم يوجد من الفرس علي الأرض قليل ولا
كثير ولم يذق منه شيئا انتهى وغير الميداني يقول هذه القصة عن النوار زوجة
حاتم أم أبنيه عدي وسفانة وماوية بنت غفزر أم أبنه عبد الله وكانت كل واحدة
منهن تلومه في الجود فيقول للنوار:
مهلا نوار أقلي اللوم
والعـــذلا ولا تقولي لشيء فات ما فعلا
يرى البخيل سبيل الجود
واحدة أن الكريم يرى في ماله سبلا
ويقول لماوية من قصيدة رنانة:
أماوى أن المنال غاد
ورائح ويبقى من المال الاحاديث والذكر
أماوي أما مانع
فمبيــــــــــن وأما عطاء لا ينهنهة الزجــــــــر
المؤثرون في الإسلام:
أن الإسلام استنارا فقه بكل
فضيلة وأشرقت سماؤه بكل خلة كريمة وذلك أن عصر الجاهلية المظلم لم تكن العرب
فيه تعرف ما تأتي وما تذر من محاسن الأخلاق ومساوئها إلا ما جذبها إليه الطبع
وقادتها له الفطرة فهي طوع ما جبلت عليه نفوسها من السجايا وما أرتكز في
طبائعها فهي تفعل ما تفعل وتذر ما تذر رضوخا للسجية وانقيادا للغريزة ولها من
المعرفة مقدار ما دلتها عليه العقول النظري وليست لها ميزة العلم ولا معرفة
الاستدلال وليس لها علم بما يترتب عليه الثواب من صالح الأعمال والعقوبة على
مساوئها وكانت لا تدين بالجزء ولا تقر بالمعاد لأنها عاشت في فيا فيها
العميقة ودرجت إرادة جبار السموات من الإصلاح لأهل الأرض وتفيضة من أفاضات
رضوانه على العالم البشري من أنواع الوحي لا صلاح هذا النوع الإنساني وتشريعه
مواد قوانينه المدنية وقضايا دستوره الاجتماعية الكافلة بصلاح المعاد والمعاش
جميعا وهم كانوا أيضا بمعزل عن كافة العلوم العقلية التي بها سعادة البشر في
الحياة الاجتماعية لاهين بحديث الغول والسعلاة مشغولين بذبح الضب واليربوع
والعضاة همتهم شن الغارات والظعن والتنقل في فيافي الفلوات فلذلك تجد أكثرهم
بعيدا عن الرحمة أهل جنسه شديد التعدي عليهم فالقسوة والغلظة مرتكزة في
طباعهم فيتبجح قائلهم بقوله
يبكى علينا ولا نبك على
أحد لنحن أغلظ الباداً من الابل
فذبح إنسان عندهم وذبح يربوع
سواء إلا القليل من عقلائهم الناطقين بالحكمة من أهل التمييز والمعرفة أمثال
قيس بن ساعدة وعامر ابن الضرب وأكثم بن صيفي وغيرهم فلم يزالوا كذلك ونفوسهم
الحرة ترشدهم إلى الخصال الحميدة وعقولهم السليمة تدلهم على اختيار محاسن
الشيم والأخلاق.
إلى أن أشرق نور الملة
المحمدية وأضاء فجر الشريعة الاحمدية اللماع وملئت أشعته المتألقة أفاق
الجزيرة العربية بل آفاق العالم كله وطبق نوره الكون بأسره فسبق نبينا محمد
(صلى الله عليه وآله) أنظمة التهذيب وشرع قوانين التأديب النفسي الحي وقرر
التعاليم الحرة التي هي أسس المدنية المختارة في هذه العصور والأزمنة عصور
الثقافة والتهذيب الملقبة بعصور النور.
ولا يجهل فضيلة الإسلام وفضله
على المدنية الحديثة وحقه العظيم على الإنسانية إلا معاند عظيم التمرد شديد
التعنت أو أعوج السليقة أولا معرفة عنده بما شرعه شارع الإسلام فكان مع نص
(القرآن) على مدح (الإيثار) أول من ندب إليه قولا وفعلا ورغب فيه سيدنا
ونبينا محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته أما القول فما حررناه سابقا
يكفيك (وإما الفعل) فقد اتفق العلماء أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان
يقسم ما عنده من الاقوات بين الفقراء من أهل الصفة وأهل الخصاصة من غيرهم
ويبيت طاويا وكثيرا ما كان يربط حجر المجاعة على بطنه وقد نعت في الكتب
السماوية المنزلة على غيره بالإيثار قال الغزالي (في الإحياء) قال سهل بن عبد
الله قال موسى (عليه السلام) يا رب ارني بعض درجات محمد وأمته فقال يا موسى
أنك لا تطيق ولكن أريك منزلة من منازله جليلة عظيمة فضلته بها عليك وعلى جميع
خلقي قال فكشف له عن ملكوت السموات فنظر إلى منزلة كادت أن تتلف نفسه من
أنوارها وقربها من الله تعالى فقال يا رب بما ذا بلغت به إلى هذه الكرامة
فقال بخلق اختصصته به من بينهم وهو الإيثار يا موسى لا يأتيني أحد منهم قد
عمل به وقتا من عمره إلا استحييت من محاسبته وبوأته من جنتي حيث يشاء.
إيثار أهل البيت (عليه
السلام):
ومنه ما كان سببا لنزول سورة
هل أتى روى الحافظ الكنجي الشافعي في (كفاية الطالب) والشبلنجي الشافعي في
(نور الأبصار) نقلا عن مسامرات الشيخ الأكبر وهي كذلك عند الشيخ الأكبر محي
الدين بن العربي في محاضرات الأبرار ومسامرات الأخيار وسبط بن الجوزي الحنفي
في تذكرة خواص الأمة وغيرهم من أهل السنة ورواها الشيعة أيضا والألفاظ وأن
تقاربت لكنها لسبط بن الجوزي لاشتماله على فائدة وهي الرد على من زعم أن
الحديث موضوع قال بعد أن ذكر له طريقين عن أبي صالح عن ابن عباس وعن مجاهد عن
ابن عباس قال في قوله تعالى (يوفون بالنذر) الآية قال مرض الحسن والحسين
(عليه السلام) فعادهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومعه أبو بكر وعمر
وعادهما عامة العرب فقالوا يأبا الحسن لو نذرت على ولديك نذرا فكل نذر لا
يكون له وفاء فليس بشيء فقال علي (عليه السلام) لله علي أن برء والداي مما
بهما صمت لله ثلاثة أيام وقالت فاطمة (عليه السلام) كذلك وقالت جارية يقال
لها فضة كذلك فالبس الله الغلامين العافية وليس عند آل محمد (صلى الله عليه
وآله) قليل ولا كثير فانطلق علي (عليه السلام) إلى شمعون بن حانا اليهودي
فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير فجاء بها إلى فاطمة عليها السلام فقامت إلى
صاع فطحنته وخبزته خمسة أقراص لكل واحد منهم قرص وصلى علي (عليه السلام)
المغرب مع النبي (صلى الله عليه وآله) ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين أيديهم
فجاء سائل أو مسكين فوقف على الباب وقال السلام عليكم يا أهل بيت محمد مسكين
من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فسمعه علي (عليه
السلام) فقال:
فاطم فيك المجد
واليقيـــــن يابنت طاها وهو الأميــن
هذا الفقير البائس
المسكين قد قام بالباب له حنيــــن
يشكو إلى الله
ويستكيــــــن يشكو الينا الهائم الحزين
كل أمرء بكسبـــه
رهيـــــن وفاعل الخيرات يستبيــن
وللبخيل متوقف
مهيــــــــن تهوي به لقعرها سجيـن
فقالت فاطمة (عليها السلام)
أطعمه ولا أبالي
الساعــــه أرجو إذا أشبعت ذا مجاعه
أن الحق الأخيار
والجماعه واسكن الخلد ولي شفاعـه
قال فأعطوه الطعام ومكثوا
يومهم وليلتهم لم يذوقوا إلا الماء القراح ولما كان اليوم الثاني طحنت فاطمة
(عليه السلام) صاعا من الشعير وصنعت منه خمسة أقراص وصلى علي (عليه السلام)
المغرب مع النبي (صلى الله عليه وآله) وجاء إلى المنزل فأتى يتيم فوقف على
الباب فقال السلام عليكم يا أهل بيت محمد يتيم من أولاد المهاجرين استشهد
والدي فأطعموني مما رزقكم الله أطعمكم الله من موائد الجنة فقال علي (عليه
السلام):
فاطم بنت السيد
الكريــــــــم بنت نبي ماجد رحيــــــــــــم
قد جاءنا الله بذا
اليتيـــــــــم قد حرم الخلد على اللئيـــــم
يحمل في الحشر إلى
الجحيم يسقى من الصديد والحميــم
ومن يجود اليوم في
نعيـــــم يسقي من الرحيق والتسنيم
فقالت فاطمة (عليها السلام)
أني لأعطيه ولا أبالي
وأوثر الله على عيالي
فرفعوا الطعام وناولوه إياه ثم
أصبحوا في الثالث كذلك فلما كان اليوم الثالث طحنت فاطمة (عليه السلام) باقي
الشعير وصنعته وجاء علي (عليه السلام) فعد المغرب فجاء أسير فوقف على الباب
وقال السلام عليكم يا أهل بيت محمد (صلى الله عليه وآله) أسير محتاج تأسرونا
ولا تطعمونا أطعمونا من فضل ما رزقكم الله فسمعه علي (عليه السلام) فقال:
فاطم يا بنت النبي
أحمـــد بنت نبي سيد مســـــــــــــــود
مني على أسيرنا
المقيـــد من يطعم اليوم يجده في غـــد
عند العلي الماجد
الممجد من يزرع الخير فسوف يحصد
فقالت فاطمة (عليه السلام)
لم يبق عندي اليوم غير
صاع قد مجلت كفي مع الذراع
وأبناي والله من
الجيــــــــــاع أبوهما للخير ذو اصطناع
ثم رفعوا الطعام فأعطوه الأسير
فلما كان اليوم الرابع دخل علي (عليه السلام) على النبي (صلى الله عليه وآله)
يحمل ابنيه كالفرخين فلما رآهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال وأين
ابنتي قال في محرابها فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) فدخل عليها فرآها
قد لصق بطنها بظهرها وغارت عيناها من شدة الجوع فقال النبي (صلى الله عليه
وآله) واغوثاه يا الله آل محمد (صلى الله عليه وآله) يموتون جوعا فهبط الأمين
جبرائيل وهو يقول (يوفون بالنذر) الآية.
إيثار العباس أخاه الحسين على
نفسه:
وذاك حين رمى الماء من يده
وقال لا ذقت الماء وابن رسول الله عطشان مع كونه قد أشرف على التلف من الظمأ
وقد نطقت بذلك أشعاره كقوله:
يا نفس من بعد الحسين
هوني وبعده لا كنت أن تكوني
هذا حسين شارب
المنــــــــون وتشربين بارد المعيــــن
قد صرح (عليه السلام) في هذا
الشعر أنه آثر أخاه الحسين (عليه السلام) ليس على سبيل الارتكاز الجبلي ولا
بداعي الطبع الفطري ولا طاوع فيه الخلق الغريزي وإنما كان ذلك عن فقه في
الدين وعلم بما للمؤثر على نفسه من عظيم الأجر وبالأخص إذا كان الإيثار
للإمام المفترض الطاعة وذلك حيث يقول فيه:
وليس هذا من شعار
ديني ولا فعال صادق اليقين
لأن شعائر هذا الدين المواساة
والإيثار وقد مدح القرآن المؤثرين وورد من إيثار رسول الله (صلى الله عليه
وآله) وأهل بيته وفضلاء الصحابة والصادق اليقين في أن الله يجزي بالعمل
الصالح ويثيب على الإحسان فأنه يحصل له القطع بأن من آثر الحسين (عليه
السلام) بنفسه أو على بنفسه كان كمن آثر رسول (صلى الله عليه وآله) وقد قال
في الحديث المتفق عليه (حسين مني وأنا من حسين).
فالمواسي له ينال أعظم درجة
الأجر عند الله فإذا حاد عن سنن الإيثار له وانحرف عن جادة المواساة فلا يشبه
فعله فعل الصادق اليقين بأن إيثار العترة الطاهرة ومواساة السلالة المطهرة من
أفضل الطاعات واجل المقربات عند الله بل هي مما أفترض الله تعالى على الأمة
القيام بها بقوله تعالى (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) وقوله
(صلى الله عليه وآله) في حديث الثقلين (أحفظوني في أهل بيتي) فأبو الفضل أدى
هذه الفريضة كما قد أدى سائر الفرائض.
|