القائمة الرئيسية
الصفحة الرئيسية الصفحة الرئيسية
القران الكريم القران الكريم
أهل البيت ع أهل البيت ع
المجالس    المحاضرات
المجالس   اللطــــميات
المجالس  الموالــــــيد
الفيديو   الفــــــيديو
الشعر القصائد الشعرية
مفاهيم اسلامية
اسال الفقـــيه
المقالات المقـــــالات
القصص الاسلامية قصص وعبر
القصص الاسلامية
الادعية الادعيةوالزيارات
المكتبة العامة المكتبة العامة
مكتبة الصور   مكتبة الصور
مفاتيح الجنان مفاتيح الجنان
نهج البلاغة   نهج البلاغة
الصحيفة السجادية الصحيفة السجادية
اوقات الصلاة   اوقات الصلاة
 من نحــــــن
سجل الزوار  سجل الزوار
اتصل بنا  اتصــــل بنا
  مواقع اسلامية
خدمات لزوار الموقع
ويفات منوعة ويفات منوعة
ويفات ملا باسم الكلابلائي ويفات ملا باسم
ويفات ملا جليل الكربلائي ويفات ملا جليل
فلاشات منوعة فلاشات مواليد
فلاشات منوعة فلاشات منوعة
فلاشات منوعة فلاشات احزان
ثيمات اسلامية ثيمات اسلامية
منسق الشعر
فنون اسلامية
مكارم الاخلاق
كتب قيمة
برامج لكل جهاز


قليل من وقتك رشحنا لافضل المواقع الشيعية ان احببت شكر لكم

 

 

 

 

 

  العباس (عليه السلام) عالم غير معلم

  رمز الإيثار أبو الفضل العباس (عليه السلام)

  شجاعة العباس (عليه السلام)

  علم العباس (عليه السلام) بالعرفانيات

  ملف العباس عليه السلام

بعض الشخصيات العظيمة قد يجتمع فيها صفات وخلال متعددة، فهي عالم بوحدها وموج متلاطم من المواهب والإفاضات الربانية، غير أن صفة ما قد تطغى عن أخواتها وتبرز كعنوان كبير يكون لصيقاً بتلك الشخصية ومفتاحاً للدخول إلى عالمها.

ومن هذه الشخصيات التي وجدت في حياتها هذه الظاهرة وبرزت على مسرح الوجود بشكل لافت وقوي.. شخصية بطل العلقمي وفارس الشريعة أبو الفضل العباس بن علي بن أبي طالب (عليه السلام). إذ تمتع هذا الرجل العظيم بمنح ربانية ومواهب سنية ممالا يتفق لأحد من البشر أن يجتمع لديه مثيلها ولكن صفة الشجاعة كانت هي الأبرز دائماً ثم الوفاء والإيثار ومن ثم العلم وهو موضوع مقالنا هذا.

ولا أحسب أحداً أعرف بحقائق الأديان ولا أعلم بنواميس الشريعة الإسلامية وأحكام الدين المقدس من رجل ذهبت حياته في خدمة الأئمة سادات العلماء في أقطار الأرض ومرجعهم في سائر الفنون كأبيه أمير المؤمنين - علي بن أبي طالب - وأخويه - الحسن والحسين - عليهم السلام حتى أنه (عليه السلام) لم يفارق تلك الأعتاب المقدسة لحظة واحدة ولم يبتعد عن تلك الأبواب المحترمة خطوة فليله ونهاره ملازم لخدمتهم ملازمة الظل الذي الظل مع حرصهم على تثقيف الأباعد وتعليم الغرباء فكيف لا يثقفون الأقارب ولا يعلمون الأرحام ومن المعلوم أن بالملازمة يحصل العلم سماعا وتعليما وقد قيل ولد الفقيه نصف فقيه (والمشاؤون) من الفلاسفة مشوا في ركاب - أر سطو - كما أن الرواقيين منهم لازموا رواقه فامتاز الفريقان في فن الفلسفة واشتهر الجمعان بالحكمة.

فكيف لا يمتاز - العباس (عليه السلام) وهو خريج كلية الحقائق وتلميذ أساتذة الحق وجهابذة الملة وفطاحل علماء الشريعة المقدسة ومن تخرج من تلك المدارس الروحانية العرفانية وجعل في الصف المقدم من صفوف تلك الكليات الراقية فبالحري أن يفوز بالنجاح وأن يحصل له الامتياز على من عدى أساتذته العظماء وأساتذة علماء الأمة قاطبة ومعلمي علماء الإسلام عامة الفنون.

وقد أقام - عمر بن الخطاب - علي بن أبي طالب - مقام الأستاذ وأقام نفسه مقام التلميذ وهو السلطان والخليفة ورجع إلى قوله رجوع أصاغر الطلاب إلى رأي المعلم الأكبر ورأس المدرسين وقد صرح مرارا عديدة في مقالات شتى تختلف لفظا وتتفق معنى فمرة يقول لا عشت لزمان لا أراك فيه يا أبا الحسن ومرة يقول أطال الله بقاءك ومرة يقول معضلة ولا أبو حسن لها ومرة يقول لولا علي لهلك عمر ومرة يقول لمن أنكر حكم علي (عليه السلام) وقعت عليك عين الله في حرم الله ومرة يقول أقضانا علي هذه المقالات تكررت من - الخليفة - عمر بن الخطاب - كما شاع قول عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) العلماء ثلاثة عالم بالشام وعالم بالعراق وعالم بالمدينة يعني نفسه وأبا الدرداء وعليا (عليه السلام) وهو عالم المدينة ثم يقول وعالم الشام والعراق محتاجان إلى عالم المدينة وهو مستغن عنهما وكما شاع قول - عبد الله بن عباس - حبر الأمة علمي وعلم جميع أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) في جنب علم علي (عليه السلام) كالقرارة في المثعنجر والعباس أبوه الأنزع البطين الذي قال فيه ابن الأثير في النهاية الأنزع من الشرك البطين من العلم وقد قال فيه (رسول الله صلى الله عليه وآله) أنا مدينة العلم وعلي بابها وقال هو (عليه السلام) عن نفسه هذا سفط العلم هذا لعاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعني صدره الشريف علمني رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف باب.

وكيف لا ينخرط في سلك العلماء من هذا أبوه وأخواه - الحسن والحسين (عليهم السلام) وأنهما أفاضا واحدا من علومهما على أخيهما - محمد الأكبر بن الحنفية - فأصبح من جهابذة العلماء ولم يلازمهما ملازمة العباس وأن ولازماهما أكثر من غيره عدى العباس الشهيد فأنه أكثر منه ملازمة لهما وأعظم مواظبة فلا شك أنه الوحيد في الفقاهة والعلم ولعل الجاهل بحقائق الأشياء يتطرقه التشكيك في أن العباس لو كان فقيها عالما لاشتهر بذلك شهرة أخيه.. محمد بن الحنفية - وعد في صف علماء الهاشميين وهذه تخيلات وأوهام، إذ لم يشتهر - محمد بن الحنفية - في حياة أبيه وأخويه الحسن والحسين (عليهم السلام).

ومن ورد البحر أستقل السواقيا

كلا لا ترد الناس السواقي والبحار طامية ولا تحتسي ألا وشال والأنهار طافحة فلما جفت تلك الأنهار ونضبت تلك البحار وبقي الجدول جاريا ورده الوارد واستقى منه الظمآن.

فمحمد والعباس في حياة أبيهما وأخويهما سواء في عدم الشهرة العلمية ولو بقي العباس بقاء محمد بن الحنفية لرزق في العلم صيتا ونال شهرة ولسارت بمعارفه الركبان لكن:

عجل الخسوف عليه قبل أوانه         فمحاه قبل مظنة الأبدار

وقد كان أبو الفضل العباس (عليه السلام) معروفا بالعلم فهذا (الحافظ العسقلاني) الشافعي يصرح (في كتاب الإصابة) فيمن روى عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) من أعلام الصحابة وأعيان التابعين ثم يقول ومن بقية التابعين عدد كثير من أجلهم أولاده محمد وعمر والعباس الخ... ومحمد هو بن الحنفية.

على أن العباس (عليه السلام) قد صدرت منه أمور يوم الطف دلت على وفور علمه كنفضه الماء من يده تأسيا بالإمام - الحسين (عليه السلام)- وإيثاره له وهذه مسألة فقهية وهي أن الإيثار راجح شرعا لورود الأدلة السمعية من الآيات والروايات وما دلت عليه الأدلة السمعية فهو راجح شرعا فهذه من مسائل الفقه وما صدرت منه تلك الفعلة الحميدة على جهة الفطرة والبداهة بل على جهة الاختيار للمحبوب المطلوب شرعا.

وكقوله (عليه السلام) في خطاباته الموجهة تجاه أخيه الحسين (عليه السلام) كما يجئ في آدابه نحو قوله سيدي يابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يخاطبه بأخي لعلمه أن مرتبة الإمامة فوق كل مرتبة ومهما كان الأخ فلا ينبغي أن ينزل نفسه للإمام إلا منزلة العبد فيخاطبه خطاب المملوك للمولى بسيدي والمخاطبة بالإخوة دليل المكافأة ولا يكافئ الإمامة شيء كالنبوة وهذا من الفقه في الدين والأدب الراقي وتفخيم ذي الشان مستحب شرعا ومطلوب عقلا قال - أبو حاتم السجستاني - في (كتاب المعمرين) قال معاوية إني لأحب أن ألقى رجلا قد أتت عليه سن وقد رأى الناس يخبرنا عما رأى فقال بعض جلسائه ذاك رجل بحضرموت فأرسل إليه فأتي به فقال له ما اسمك قال أمد قال ابن من قال أبن ابد فقال ما أتى عليك من السن قال 360 سنة قال كذبت ثم تشاغل عنه ثم أقبل عليه فقال ما اسمك قال أمد قال ابن من قال أبد قال كم أتى عليك من السن قال 360 سنة قال فأخبرنا عما رأيت من الأزمان أين زماننا هذا من ذاك فقال كيف تسأل من تكذب قال ما كذبت ولكن أحببت أن أعلم كيف عقلك قال يوم شبيه بيوم وليلة شبيهة بليلة يموت ميت ويولد مولود فلولا من يموت لم تسعهم الأرض ولولا من يولد لم يبق أحد على وجه الأرض قال فأخبرني هل رأيت هاشماً قال نعم رأيته طوالا حسن الوجه يقال أن في عينيه برلة أو غرة بركة قال فهل رأيت أمية قال نعم رأيته رجلا قصيراً أعمى يقال أن في وجهه لشراً أو شؤماً قال فهل رأيت - محمداً - قال ومن محمد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال ويحك هلا فخمت كما فخمه الله فقلت رسول الله الخ وليس - أبو الفضل العباس (عليه السلام) ممن يجهل واجب تفخيم الإمام عقلا واحترامه تدينا.

وكقوله (عليه السلام) لإخوته الأشقاء الذين هم من أمه أم البنين تقدموا يا بني أمي لاحتسبكم فأنه لا ولد لكم وهذا القول منه (عليه السلام) مشهور رواه عامة أرباب المقاتل وجهة الفقاهة في هذا أنه (عليه السلام) قد علم أن أفضل الجهاد ما كان بالنفس والنفيس أما نفسه فعازم على بذلها لأخيه الحسين (عليه السلام) وهو واثق بذلك من نفسه وأما النفيس وليس لديه هناك أنفس من أخوته الأشقاء فأحب أن يقدمهم ويكون قد بذل في الجهاد نفسه ونفيسه ولا شك يتضاعف الأجر على ذلك.

ويتفرع على مسألة تقديم العباس (عليه السلام) لأخوته من الفروع الفقهية ما خفي على كثير من مهرة الفن وأساتذة الصنعة مثل مسألة الشكر على النعمة. والعباس (عليه السلام) يرى من أتم نعم الله عليه وأفضلها عنده الشهادة في سبيله ومن إتمامها أن يرزقها الله تعالى لإخوته الذين هم أعز ما لديه من حاضري أخوته بعد الحسين (عليه السلام) فإذا تفضل الله عليهم بالشهادة ورزقهم إياها فقد أسعدهم وأنالهم كرامته فوجب عليه الشكر الذي يجب عقلا وشرعا عند تجدد كل نعمة إذ شكر المنعم واجب بالأدلة العقلية والنقلية.

وقوله (عليه السلام) تقدموا لاحتسبكم ففي هذا الاحتساب يتضاعف الأجر لعلمه أنه إذا شاهد مصارع أخوته الأشقاء واحداً بعد واحد فقد تضاعف له العناء والأسف ولو أنهم قتلوا قتلة واحدة كان لها حكم المصيبة الواحدة ولكن المصائب تتعدد بقتل الواحد تلو الواحد فتتضاعف لذلك الأحزان ومن فروع هذه المسألة الفقهية مسألة الصبر فأن الذي يبتلي بفقد الأعزاء وأنفس الأشياء وأغلاها عنده ثم يصبر ويحتسب يكون له الأجر المضاعف ويجزيه الله تعالى أفضل جزاء الصابرين وقد حصل لأبي الفضل العباس (عليه السلام) في هذه القتلة ثلاثة أشياء توجب الكرامة ومزيد الحباء عند الله تعالى الشهادة والشكر والصبر وهذا من عجيب الفقه الذي يتحراه الفقيه العليم في مثل ذلك الموقف الحرج والمقام الصعب ذي الأهوال والتهاويل الذي طارت منه الأذهان واندهشت فيه الفكر وحارث الألباب.

أما المسألة الفرضية الميراثية المشهورة عند الفقهاء فهي مسألة فقهية مقترنة بفكر ثاقب يجري مجرى الإعجاز في التكهن بالحوادث المستقبلة وذلك أن فقه هذه المسألة على مذهب أهل البيت عليهم السلام والعباس (عليه السلام) منهم أن ألام هي الوارثة لبنيها المفقودين والأخ منها أو من غيرها محجوب عن الميراث بها ولا يرثون مع الأم إلا بشروط أعتبرها الفقهاء وأن فقدت الأم فأبن الأخ الشقيق يحجب الأخ لأحد الأبوين هذا مذهب العباس وأهل بيته فهو (عليه السلام) يعرفه ويعلمه وعند القضاة من أهل السنة أهل التعصيب أن الأخ يحجب ألام هكذا كانت الحال في الدور الأموي طيلة حكومتها الجائرة فنظر العباس (عليه السلام) وأصاب بفكرته الثاقبة أن الأمر في ميراث أخوته أن قتلوا بعده سينزع من يد أمه قهراً ولا ينظر إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وإنما يؤخذ بفتوى قضاة العامة فرأى من الحزم أن يقدم أخوته أمامه فيقتلوا فإذا قتلوا ورثهم هو لأنه الأكبر وأولى من (عمر الأطرف) لتقربه إليهم بالأبوين فإذا حاز ميراثهم حياً ورثه ابنه عبيد الله بعد قتله فتضعف حجة المخاصم لابنه عبد الله حتى على مذهب فقهاء السنة.

وقد وقع الأمر على مقتضى حدس العباس (عليه السلام) فأن (عمر الأطرف) نازع (عبيد الله بن العباس) إلى قضاة العامة وأعانته السلطة الأموية الجبارة ثم صولح على شيء يسير رضي به وهذا جور في الحقيقة وتحامل لم يعضده مذهب من جميع فرق المسلمين أما على مذهب أهل البيت (عليهم السلام) فواضح أن الميراث لأم البنين وعلى مذهب السنة أيضا لا يجوز أن يعطى (لعمر) الأطرف شيء (ومحمد بن الحنفية) أكبر منه وهو حي وعبيد الله بن النهشلية حي أيضا ونسبتهما إلى ولد علي (عليه السلام) كنسبة عمر الأطراف ولكن تلك العصور مات فيها الحق والعدل وأحي الجور والعدوان وقد عرفت صحة فراسة العباس (عليه السلام) في النزاع على ميراث الأخوة الشهداء.

وقد رأى بعض من يدعي الفقاهة كذب القضية لأنه يزعم أن قدر العباس (عليه السلام) أجل من أن يلحظ أمر الدنيا فيطلب من أخوته الميراث وأنكر أن يكون قال ذلك وقال إنما قال أحتسبكم فقط وغفل في ذلك غفلة عظيمة من حيث ظن أن كلما تعلق بأمور الدنيا بعيد عن طلبه الصلحاء الأخيار وأهل الفضل من الأتقياء البررة فليس لهم غرض بكل شؤونها ومطالبها.

ولم يدر أن بعض الأمور الدنيوية هي أمور أخروية لأن بر الصلحاء وأهل الفضل والديانة من أفضل الطاعات وأجل القربات وهي إنما تقع بالأموال فتكون المسألة دنيوية دينية فهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو سيد الأتقياء وقدوة الصلحاء ومن لا تساوي عنده الدنيا ذرة من الذر كيف أهتم في أمر فدك وبقية أملاكه في وادي القرى وغيره حتى جعلها طعمة لابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام) ولم يترك ذلك سائراً على ما يقتضيه حق الوراثة الشرعية لعلمه (صلى الله عليه وآله) أنها ستدفع عن الميراث وتمنع منه فاحتاط لها بإعطائها ذلك نحلة وجعله لها طعمة لكي تنقطع عنه أطماع الطامعين ويتوفر على أبنته الكريمة حقها ولا تكون عالة على أحد من الناس ومع ذلك فقد حدث ما حدث.

وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ازهد أهل الدنيا قاطبة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبعدهم من حطام الدنيا وهو الذي كان يكنس بيوت الأموال ويصلي فيها ويختم على جراب قوته لئلا ينخل وقد انتهت إليه عامة طرق الزهاد وأخباره متواترة في العزوف عن الدنيا حتى طلقها ثلاثا وقد أهتم في أمر البغيبغة وعين أبي نيزر حتى جعلهما وقفا لنوائب الحسن والحسين (عليه السلام) دون سائر بنيه هذه سنة الصلحاء وسيرة الأتقياء.

فأبو الفضل العباس (عليه السلام) أعلم بتكليفه الشرعي فأنه (عليه السلام) قد سار سيرتهما واقتفى أثرهما فأهتم بأمر ولده الطفل وأحتاط في مدافعة خصمه وهو عمه الشحيح الطامع بغير حق حتى أنه ترك مذهب أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) فسعى في حرمان ورثة أخيه الطفل الصغير والمرأة الضعيفة التي بقيت بلا كاسب اعتداء منه عليهما وبغيا بعلة أنه الابن وأنه العم ويتعصب له الأمويون أهل الجور والعدوان في حرمان ذرية من حاربهم وقام بالسيف عليهم حتى تصبح ورثة العباس (عليه السلام) عالة يتكففون.

فاحتاط العباس (عليه السلام) لهم بهذا ولولا ما فعله (عليه السلام) ما قبل - عمر بن علي - المصالحة على اليسير ويترك ما تشبث به في الحكم الجائر وليس هذا مما ينافي الإخلاص أو بخل بالتقوى والورع حتى لا ينبغي أن ينسب إليه فقد كان الزهاد والأتقياء يعملون في مصالح صالحي الورثة بأن يوصوا لهم بحصة معينة من أموالهم لتقويتهم على طاعة الله تعالى فنعم العون على طاعة الله المال وقد عرفت ما صنعه أمير المؤمنين (عليه السلام) في تخصيص الحسن والحسين (عليهم السلام) وقد نقلها علماء الفريقين الشيعة والسنة وإذا كانت هذه سيرة - رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وبقية الأتقياء وأرباب الديانة فأي غضاضة في هذا الأمر الذي أراده العباس (عليه السلام) والحق يشهد أنه (عليه السلام) قد قصد السنن الثلاثة المؤكدة في الشريعة الإسلامية وهي الشكر والصبر وصلة الأرحام لقوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) وقد جاء في المثل (ولد الفقيه نصف فقيه) وأنا أقول الفقه كله مجتمع عنده ومنسوب إليه لأنه ابن أعلم الناس وأخواه هما أعلم الناس أفقههم. 

 

ليس في دنيا الأنساب نسب أسمى ولا أرفع من نسب أبي الفضل العباس فهو من صحيح الأسرة العلوية التي هي من أجل وأشرف الأسر التي عرفتها الإنسانية في جميع أدوارها تلك الأسرة العريقة في أعجب والشرف التي أحدث العالم الإسلامي بعناصر الفضيلة والتضحية في سبيل الخير وأضاءت الحياة العامة بروح التقوى والإيمان.

فأبو الفضل سليل هذه الأسرة المباركة هو ابن عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) وكفى به فخراً أما أمه فهي السيدة الزكية فاطمة بنت حزام بن خالد، التي ولدتها الفحول - كما وصفها علي (عليه السلام) فهي تتحدر من أسرة ذائعة الصيت بين العرب بالنبل والشهامة والشجاعة والكرام وقد عرفت بالنجدة، وليس في العرب من هو أشجع من أهلها ولا أفرس، ومن قولها ملاعب الأسنة أبو براء الذي لم بعرف الناس مثله في الشجاعة.

وأبو الفضل الذي ولد سنة (26) هو في اليوم الرابع من شهر شعبان بالمدينة وسماه والده أمير المؤمنين (عليه السلام) عباساً ولا ريب أنه أستشف ما وراء الغيب أنه سيكون بطلا من أبطال الإسلام وسيكون عبوساً في وجه المنكر والباطل ومنطلق البسمات في وجه الخير كان الساعد الأيمن لأخيه الإمام الحسين (عليه السلام) في ثورته المباركة في كربلاء، كما أراد له أبوه تماماً.

فقد حمل اللواء منذ خروج الحسين (عليه السلام) من يثرب حتى انتهى إلى كربلاء بقبضة من حديد فلم يسقط منه حتى قطعت يداه وهوى صريعاً بجنب العلقمي .. ذلك النهر الذي سمي العباس بطله بعد أن هزم الجيش الذي كان يحوطه بقوى مكثفة وجندل الأبطال من حوله واحتل ماءه عدة مرات فعرف لأجل ذلك بالسقاء لقيامه بسقاية عطاشى أهل البيت (عليه السلام) حينما فرض ابن مرجانه الحصار على الماء وأقام جيوشه على الفرات ليموت الحسين وأصحابه عطشاً مما دفع العباس إلى أن يستحيل قوة مدمرة وصاعقة مرعبة تدحر الجيوش العادية وتحامي عن كتائب جيش الحق بحسن التدبير وقوة البأس حتى لقب بكبش الكتيبة وهو وسام رفيع لا يمنح آنذاك إلا للقائد الأعلى في الجيش مثله مثل لقب العميد الذي قلد به أبو الفضل أيضاً فكان بحق عميد جيش الحسين وقائد قواته المسلحة وحامي ظعينته كذلك فقد كان الراعي والحارس والكافل لمخدرات النبوة وعقائل الوحي وقد بذل قصارى جهوده في حمايتهن وحراستهن وخدمتهن فهو الذي كان يقوم بترحيلهن وإنزالهن من المحامل طيلة الطريق من يثرب إلى كربلاء.

وكان إلى جانب ذلك القمر في روعة بهائه وجميل صورته ولذا لقب بقمر بني هاشم ومثلما كان قمراً لأسرته العلوية فقد كان قمراً في دنيا الإسلام إذا أضاء الطريق للفوز بإحدى الحسنيين النصر أو الشهادة في سبيل المبدأ.

وكان أبو الفضل نعم الأخ المواسي لأخيه والناصح الأمين له في كل حياته وما تقدم عليه في حركة أو سكون و لا تخلف عنه كذلك بل كان طوع أمره ورهن إشارته.

ولأجل ذلك كله استحق العباس هذه المكانة المرموقة والجاه العظيم عند الله ورسوله والأئمة والناس أجمعين حتى أصبح باباً للحوائج ما دعا الله طالب حاجة وقدّمه بين يدي حاجته وتوسل به إلا قضاها الله له إكراما لهذا المولى المعظم والعبد الصالح المكرم في الأرض والسماء، وما قصده مكروب إلا كشف الله ما به من محن الأيام وكوارث الزمان تبياناً لعظمة منزلة أبي الفضل العباس (عليه السلام).

ولا يسع المرء إلا أن يقف إجلالاً وإكبارا لموقف بطل العلقمي العظيم يوم آثر آخاه على نفسه فضرب أروع مثال في التضحية والإيثار، ومن يتصور العباس وهو يرمي الماء من كفه مع شدة عطشه إذ يتذكر عطش أخيه الحسين وعياله فيخاطب نفسه قائلاً:

يا نفس من بعد الحسين هوني         وبعــــده لا كــــنت أو تكــــــــوني

هـــذا حــسين وارد المنـــــــــون         وتــــشربين بارد المــــــــــعيـــــن

من يتصور هذا المشهد الرائع من الإيثار وشرف النفس والغيرة على الأخوة، فلا يقف على رؤوس أصابعه محاولاً استشراف هذه القمة العالية والسنام الشامخ من المجد وعلو الكعب في الأخلاق الفاضلة والخصال الطيبة أملاً أن يصيبه وابلٌ من صيبّها أو أن يغرف غرفة من بحرها اللجيّ تنفعه في رحلته نحو الكمال المنشود.

والشيء الذي يدعو إلى الاعتزاز بتضحية أبي الفضل ونصرته لأخيه الحسين (عليه السلام) أنها لم تكن بدافع الأخوة والرحم الماسة وغير ذلك من الاعتبارات السائدة بين الناس وإنما كانت بدافع الإيمان الخالص بالله تعالى ذلك أن الإيمان هو الذي تفاعل مع عواطف العباس وصار عنصراً من عناصره ومقوماً من مقوماته وقد أدلى بذلك في رجزه عند ما قطعوا يمينه التي كانت تقيض براً وعطاءاً للناس قائلاً:

والله أن قطعتم يميني إني أحامي أبداً عن ديني وعن إمام صادق اليقين

إن الرجز في تلك العصور كان يمثل الأهداف والمبادئ والقيم التي من أجلها يخوض الإنسان المعارك ويقاتل حتى يستشهد في سبيلها ورجز أبي الفضل (عليه السلام) واضح وصريح في أنه إنما يقاتل دفاعاً عن الدين وعن المبادئ الإسلامية الأصيلة التي تعرضت إلى الخطر أيام الحكم الأموي الأسود كما أنه يقاتل دفاعاً عن إمام الحق المفترض الطاعة على المسلمين سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله) وريحانته الإمام الحسين (عليه السلام) المدافع الأول عن كرامة إلى الإسلام. فهذه هي العوامل التي دفعته إلى التضحية وليس هناك أي دافع آخر وهذا هو السر في جلال تضحيته وخلودها على مرّ العصور وتتابع الأجيال.

لقد حمل أبو الفضل والمروءة العباس بن علي (عليه السلام) مشعل الحرية والكرامة وقاد قوافل الشهداء إلى ساحات الشرف وميادين العزة والنصر للشعوب الإسلامية التي كانت ترزح تحت وطأة الظلم والجور، وانطلق إلى ميادين الجهاد من أجل أن ترتفع كلمة لا إله إلا الله عالية في الأرض تلكم الكلمة التي هي منهج حياة كريمة أرادها الله لعباده من البشر الصالحين.

وقد استشهد سبع القنطرة من أجل أن يعيد للإنسان المسلم حريته المسلوبة وكرامته المهدورة وينشر بين أبناء الأمة رحمة الإسلام ونعمته الكبرى الهادفة لاستئصال الظلم والجور وبناء مجتمع لا ظلّ فيه لأي لون من ألوان الفزع والخوف والاضطراب واستشهد أبو الفضل من أجل أن يقوم حكم القرآن وينشر العدل بين الناس ويوزع عليهم خيرات الأرض فليست هي لقوم دون آخرين... فسلام على أبي الفضل يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.

 

ويؤثرون على أنفسهم

الإيثار لغة:

قال الفيومي في المصباح المنير آثرته بالمد فضلته وقال فخر الدين الطريحى في مجمع البحرين (ويؤثرون على أنفسهم) أي يقدمون على أنفسهم من قولهم آثره على نفسه أي قدمه وفضله وقال ابن الأثير في النهاية ويستأثر عليكم أي يفضل عليكم غيركم في الفئ.

 

الفرق بين الإيثار والمواساة:

قال الشريف الجرجاني في (التعريفات) المواساة أن ينزل غيره منزلة نفسه في النفع له والدفع عنه والإيثار أن يقدم غيره على نفسه فيهما وهو النهاية في الإخوة ، والإيثار نتيجة العفة التي هي من فضائل النفس الأربعة الكمالية وشعبة من شعب الجود الذي هو أفضل خلق وسجية وأجل غريزة من الغرائز الإنسانية ومن أحسن ما تحلى به هذا النوع البشرى المتسلطن على عامة الأنواع قال أحمد بن أبي الربيع في (سلوك المالك) والإيثار هو كف الإنسان عن بعض حوائجه وبذلها لمستحقها ، وأن يحدث من تركيب السخاء مع العفة الإيثار على النفس وقال ابن مسكويه الخازن في (تهذيب الأخلاق) الفضائل التي تحت السخاء، الكرم، الإيثار، النبل، المواساة، السماحة، المسامحة.

أما الإيثار فهو فضيلة للنفس بها يكف الإنسان عن بعض حاجاته التي تخصه حتى يبذله لمن يستحقه وقال الغزال الشافعي في (الإحياء) أعلم أن السخاء والبخل كل منهما ينقسم إلى درجات فارفع درجات السخاء الإيثار وهو أن يجود بالمال مع الحاجة إليه وإنما السخاء عبارة عن بذل ما يحتاج إليه المحتاج أو لغير المحتاج والبذل له مع الحاجة أشد وكما أن السخاوة قد تنتهي إلى أن يسخو الإنسان على غيره مع الحاجة فالبخل قد ينتهي إلى أن يبخل على نفسه مع الحاجة فكم من بخيل يمسك المال فيمرض فلا يتداوى ويشتهى الشهوة فلا يمنعه منها إلا البخل بالثمن ولو وجدها مجانا أكلها فهذا بخل على نفسه مع الحاجة وذلك يؤثر على نفسه غيره مع أنه محتاج إليه فانظر مابين الرجلين فأن الأخلاق عطايا يضعها الله حيث يشاء وليس بعد الإيثار درجة في السخاء إلى آخر كلامه المطول وقال رشيد الوطواط في (غرر النصائح الواضحة) ويقال مراتب العطاء ثلاثة سخاء وجود وإيثار والسخاء إعطاء الأقل وإمساك الأكثر والجود إعطاء الأكثر وإمساك الأقل والإيثار إعطاء الكل من غير تمساك لشيء وهذه أشرف المراتب وأعلاها وأحقها بالمدح فان إيثار المرء غيره على نفسه أفضل من إيثار نفسه على غيره وكفى بهذه الخلة شرفا مدح الله تعالى أفضل من إيثار نفسه على غيره وكفى بهذه الخلة شرفا مدح الله تعالى أهلها بقوله (ويؤثرون على أنفسهم) الخ.

(فالإيثار) مرتبة هي أعلا مرتبة في السخاء ودرجة هي أرقى درجة في الجود وإذا كان كذلك فمراتب الإيثار لا تضبط لأنها نسبية وتختلف باختلاف الأحوال والأشخاص ويتميز منها (مرتبتان) بالإضافة إلى ما آثر به وبذله لغيره وهي (مرتبة بذل النفس) والإيثار بها وهي أعلا مراتب الإيثار ولا نعرفها في عرب الجاهلية إلا لكعب بن إمامة الأيادي وحاتم بن عبد الله الطائي وفي عرب الإسلام لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأنه آثر النبي (صلى الله عليه وآله) بنفسه حين بات على فراشه ليلة الهجرة وبذل نفسه له في الحروب الطاحنة التي فرت فيها أبطال الصحابة.

ولولده العباس (عليه السلام) حين آثر أخاه الحسين (عليه السلام) بنفسه وفداه بروحه وعلى سبيله سلك شهداء كربلاء فأن الجميع آثروا الحسين (عليه السلام) بنفوسهم وباقي الشهداء في سائر الحروب الدينية ليسوا كذلك لأن الشهداء مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يظهر منهم ما ظهر من أولئك من الإقدام على المنية والاقتحام على الموت مع علمهم أنهم لو تركوا لكانوا في مأمن ومنعة وموقفهم في صف الحسين (عليه السلام) لا يمنيهم بالسلامة ولا يبشرهم بالحيات أبدا وأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) دلائل الظفر عندهم لائحة وأمارات الغلب لهم واضحة والقرآن يخبرهم بذلك كما في بدر وخيبر (وإذ يعد كم إحدى الطائفتين أنها تكون لكم) ووعدكم (مغانم كثيرة تأخذونها) والنبي (صلى الله عليه وآله) يخبرهم بحسن العاقبة وسلامة النفس والظفر ومع ذلك يقولون (ما وعدنا الله ورسوله إلا غرروا) فأين هؤلاء ممن أذن لهم الحسين (عليه السلام) فالانصراف وأخبرهم أنهم يقتلون جميعا فيقولون لو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها هؤلاء وأبيك جوهر الرجال ولباب الفضيلة (المرتبة الثانية) الإيثار بالقوت وهذا كثير جاهلية وإسلاما فقد آثر حاتم الطائي بقوته وبات طاويا وصنع غيره مثل صنعه من عرب الجاهلية.

أما في الإسلام فقد آثر أهل بيت الرسول بأقواتهم وباتوا طاوين ثلاثا فنزلت سورة هل أتى مدحا لهم وآية (ويؤثرون) وآثر أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه مرارا عديدة كالمقداد وعمار وغيرهما وآثر ابوذر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالماء العذب مع شدة عطشه وآثر جماعة من الصحابة بعضهم بعضا وهم صرعى بالماء مع شدة العطش حتى ماتوا كلهم عطاشى وحديث صاع التمر مشهور عند المحدثين فأنه طاف أربعين بيتا ورجع إلى صاحبه كل واحد يؤثر به صديقه.

وآثر أبو الفضل العباس بن أمير المؤمنين أخاه الحسين (عليه السلام) بالماء فلم يشربه منع كونه شديد الظمأ فمات عطشانا.

ولكل إنسان دليلان هاديان يرشدانه إلى الفضائل ويدلانه على المحاسن والكمالات و(هما العلم والعقل) (أما العلم) فدليل إلى كل ما ثبت في الشريعة الإسلامية حسنه وحث الشارع المقدس على فعله ورغب على الإتيان به ترغيباً مؤكدا ودل عليه دلالة واضحة وهذا ما تسميه المتشرعة بالمستحب المؤكد (وأما العقل) فدليله إلى ما استحسنه العقلاء وترجح عند النبلاء ارتكابه وفضل العقل الإتيان به على الترك تفضيلا محسوسا يدركه كل عاقل بأدنى التفات واقل فكرة وروية لما يراه من تمادح العقلاء وتنويههم فيه وإطراء المتصف به إطراء بليغا وبالغا أقصى درجة الاستحسان وهذا من الشعور العربي والإحساس المختص بأهل اللسان الفصيح دون سائر الأمم والشعوب وأن لم ينكروا فضيلته ولم يشكوا في رجحانه وقد عبر الأصوليين عنه بالحسن العقلي وحيث تكامل لأبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين عليهما السلام دليلاه وتوافق عنده مرشداه هجما به على الفضيلة النبيلة وأرشداه إلى اختيار الفعلة الحميدة وهي الإيثار بنفسه وعلى نفسه وهذه الفضيلة المعروفة في فضائل أسلافه السادات الأماجد الذين آثروا بنفوسهم وعلى نفوسهم مرارا عديدة وقد نزل القرآن المجيد في مدحهم آيات وسور تتلى في المحاريب وعلى الأعواد وتذاع في المسارح والأندية والمجتمعات.

 

رجحان الإيثار:

لاشك في رجحانه الشرعي لقوله تعالى في معرض المدح للمؤثرين (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) فأثبت سبحانه الإيثار مع الخصاصة وهي شدة الحاجة ثم قرن الفلاح بترك الشح الذي هو ضد الإيثار ومعلوم أن النفس تشح فيما لا تحتاج إليه كثيرا فكيف لا تشح بما تشتد حاجتها إليه ومن توقى هذا الشح في الخصاصة وهو الإيثار فقد أفلح عند الله وهذه الآية نزلت في أهل البيت عليهم السلام وهم أهل الكساء علي وفاطمة والحسن والحسين رغم ما زعمه بعض أهل الحديث أنها نزلت في الأنصار فآل محمد (صلى الله عليه وآله) نزل بهم ضيف وليس عندهم غير ما يكفيه فقدموه له وأطفؤا السراج لئلا يراهم ولا شيء عندهم وباتوا طاوين وقال تعالى (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) إلى آخر السورة وهي مع اتفاق المفسرين أنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، ظاهرة في مدح الإيثار لاتفاقهم أنهم بانوا ثلاثا طاوين وأطعموا هذه الأصناف الثلاثة وذلك في نذر الحسن والحسين (عليهما السلام) لما مرضا (أما الأحاديث فكثيرة) جدا منها من طريق الشيعة ما رواه الصدوق في الفقيه قال: قال (الصادق عليه السلام) (خياركم سماؤكم وشرارتكم بخلاؤكم ومن خالص الإيمان البر بالإخوان والسعي في حوائجهم وأن البار بالإخوان ليحبه الرحمن وفي ذلك مرغمة للشيطان وتزحزح عن النيران ودخول الجنان) ثم قال لجميل يا جميل (أخبر بهذا غرر أصحابك) قلت جعلت فداك من غرر أصحابي قال (هم البارون بالإخوان في العسر واليسر) ثم قال يا جميل أمان أن صاحب الكثير يهون عليه ذلك وقد مدح الله عز وجل في كتابه صاحب القليل فقال (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) ومن (طرق أهل السنة) ما رواه الغزال الشافعي (في أحياء العلوم) قال النبي (صلى الله عليه وآله) (أيما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر على نفسه غفر الله له)

 

القسم الأول من الإيثار

وهو الإيثار بالنفس وهو أفضل قسمي الإيثار وقال أبو تمام الطائي

يجود بالنفس إذ ظن الجواد بها         والجود بالنفس أقصى غاية الجود

فمن الذين آثروا بأنفسهم (حاتم بن عبد الله الطائي) وذلك أنه مر في بلاد عنزة وهو لا يعرف فعرفه أسير في أيديهم فناداه يا أبا سفانة قتلني الأسر والقمل فتصدق علي فقال ويحك قد أسأت إلى إذ نوهت بي في غير بلاد قومي ثم جاء إلى العنزيين فقال ضعوا رجلي مكان رجله في القيد وأطلقوه ففعلوا فبقى حاتم مدة أسيرا في أيديهم حتى بلغ قومه الخبر فبعثوا بفدائه إلى العنزيين فأطلقوه وقصته مشهورة في التاريخ وهى فعلة كريمة لها عظمتها في عالم الإنسانية إلا أنها دون بذل النفس كما فعل غيره من العرب.

 

المؤثرون بأنفسهم في الإسلام

سيدهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأنه آثر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحياته وفداه بنفسه وإيثاره أفضل كل إيثار في الدنيا فلا كعب ولا غيره نظيره أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) باهي الله به ملائكته وانزل فيه قرآنا يتلى في المحاريب قوله تعالى (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) وقصة مبيت أمير المؤمنين (عليه السلام) على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليلة الهجرة مشهورة عند علماء التاريخ فقد رواها من علماء أهل السنة (مفتى الشافعية دخلان في سيرته على هامش الحلبية ص 355 ج1 والبرهان الحلبي الشافعي في (سيرته إنسان العيون) ص 29 ج 2 وأبو جعفر الطبري أحد أئمة المذاهب في التاريخ ص 243 ج 2 وعبد الملك بن هشام المالكي (في سيرته) ص 76 ج 2 والسمهودي الشافعي في (وفاء الوفاء) تاريخ المدينة النبوية ص 168 ج 1 وابن الصباغ المالكي (في الفصول المهمة) ص 32 وابن طلحة الشافعي في (مطالب السؤل) ص 35 وسبط بن الجوزي الحنفي في (تذكرة خواص الأمة ص 21 وأبو حامد الغزالي الشافعي الملقب بحجة الإسلام وغيرهم كثير ولفظ الغزالي (في أحياء علوم الدين) ص 223 ج 2 وبات علي على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة فأوحى الله إلى جبرائيل وميكائيل (عليهما السلام) أني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحد كما أطول من عمر الآخر فأيكما يؤثر صاحبة بالحياة فاختار كلاهما الحياة أحباها فأوحى اليهما أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب (عليه السلام) آخيت بينه وبين نبي محمد (صلى الله عليه وآله) فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فكان جبرائيل (عليه السلام) عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبرائيل (عليه السلام) يقول بخ بخ بخ من مثلك ياابن أبي طالب والله تعالى يباهي بك الملائكة فانزل الله تعالى (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد) قال سبط بعد أن نقل مثل هذا بعينه عن تفسير الثعلبي عن ابن عباس قال أول من شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال ابن عباس وأنشدني أمير المؤمنين (عليه السلام) شعراً قاله تلك الليلة:

وقيت بنفسي خير من وطأ الثرى         ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجــر

وبات رسول الله في الغار آمنــــا         فنجاه ذو الطول العلي من المكـــــر

وبت أراعيهم وما يثبتونـــــــــــي         وقد وطنت نفسي على القتل والاسر

 

إيثار أنصار الحسين بن علي (عليه السلام):

هو الإيثار المحمود وكل واحد منهم قد آثر الحسين (عليه السلام) بنفسه وفداه بروحه لو نفع الإيثار وقبلت الفدية فهذا سعيد بن عبد الله الحنفي وقف هدفاً للسلاح دونه وهو يصلى ببقية أصحابه صلاة الخوف والحنفي وقف هدفا للسلاح دونه وهو يصلى ببقية أصحابه صلاة الخوف والحنفي يتلقى كل طعنة بصدره وكل ضربة بنحره حتى قتل قال أبو جعفر الطبري: ثم صلوا الظهر صلى بهم الحسين صلاة الخوف ثم اقتتلوا بعد الظهر فاشتد قتالهم ووصل إلى الحسين فاستقدم الحنفي إمامه فاستهدف لهم وهم يرمونه بالنبل يمينا وشمالا قائما بين يديه فما زال يرمى حتى سقط الخ وقال السيد بن طاووس (في الملهوف) وجد فيه ثلاثة عشر سهما سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح الخ قال أبو جعفر الطبرى فلما رأى أصحاب الحسين أنهم قد كثروا وأنهم لا يقدرون أن يمنعوا حسينا ولا أنفسهم تنافسوا في أن يقتلوا بين يديه فجاء عبد الله وعبد الرحمن ابنا عزرة الغفاريان فقالا يا أبا عبد الله عليك السلام جازنا العدو إليك فأحببنا أن نقتل بين يديك نمنعك وندفع عنك فقال مرحبا بكما ادنوا مني فدنوا منه فجعلا يقاتلان قريبا منه واحد هما يقول:

قد علمت حقا بنوا غفــــــــــار         وخندق بعد بني نـــــزار

لنضر بن معشر الفجــــــــــــار         بكل عضب صارم بتـــار

يا قوم ذو دواعن بني الاحـرار         بالمشرفى والقنا الخطار

قال وجاء الفتيان الجابريان سيف بن الحارث بن سريع ومالك بن عبد بن سريع وهما ابنا عم وأخوان لأم فأتيا حسينا فدنوا منه وهما يبكيان فقال إي أبني أخي ما يبكيكما فو الله إني لأرجو أن تكونا بعد ساعة قريري عين فقالا جعلنا الله فداك لا والله ما أنفسنا نبكي ولكن نبكي عليك نراك قد أحيط بك ولا نقدر على أن نمنعك فقال جزا كما الله أحسن جزاء المتقين وقال: عابس بن أبي شبيب الشاكري يا أبا عبد الله أما والله ما أمسى على ظهر الأرض قريب أو بعيد أعز علي ولا أحب إلي منك ولو قدرت أن ادفع عنك الضيم والقتل بشيء اعز علي من نفسي ودمي لفعلته السلام عليك يا أبا عبد الله أشهدك أني على هداك وهدى أبيك ثم مشى بالسيف مصلتا نحوهم وبه ضربة على جبينه الخ.

 

القسم الثاني من الإيثار

وهو من آثر على نفسه لا بنفسه وهذا كثير في عرب الجاهلية وهو من شعار سمحائهم وكانوا يمتدحون به ويفتخرون كما قال عروة الصعاليك وهو عروة بن الورد العبسى قاله المبرد وفي قول ابن عبد ربه أن رجلا من عبس خاطبه بهذا الشعر ولعله أثبت.

لا تشتمني يابــــــن ورد فاننــــــي         تعود على مالي الحقوق العوائد

ومن يؤثر الحق الدؤب تكـــن لــــــه         خصاصة جسم وهو طيان ماجد

وأني أمرء عافي أنــــائي شــــركــة         وأنت امـــرؤ عافي انائك واحــــد

أقسم نفسي في نفوس كثيـــــرة         واحسو زلال المـــاء والماء بارد

ويعنى بتقسيم نفسه في النفوس الكثيرة تقسيم زاده على الناس ويبيت طاويا لإيثاره لهم بزاده ويستطعم الماء البارد وقال حبال الكليي وذكره الآمدي في المؤتلف والمختلف.

لا تعذليني في نفضى وفي فرشي         أن تعذليني تشكينى وتؤذينـــــــي

فساهميني في مالي ولا تدعـــــي         خلقا يريبك أن الله يغنبنــــــــــــي

حسبي إذا أحتملوا أن يحملوا ثقلي         وملؤ كفي عند الجهد يكفينــــــي

أن مات هزلا عدى من سماحتــــه         أو خلد الغس في قومي فلوميني

قال الغس اللئيم وعدي في بني كلب كان يذبح كل يوم خمسين شاة يطعمها من يرد عليه وقال عنترة الفوارس العبسي في معلقته:

ولقد أبيت على الطوى واضله         حتى أنال به كريم المطعم

وقال آخر

لولا اتقاء الردى نزهت أنملتي         عن أن تهم بمطعوم ومشروب

 

حاتم بن عبد الله الطائي

ذكر الميداني في مجمع الأمثال بعد قصة الأسير عند العنزيين قال ومن حديثه أن ماوية امرأة حاتم حدثت أن الناس أصابتهم سنة أذهبت الخف والخلف فبتنا ليلة بأشد الجوع واخذ حاتم عديا وأخذت سفانة فعللنا هما حتى ناما فاخذ يعللني بالحديث لأنام فرقت له لما به من الجهد فأمسكت عن كلامه لينام ويظن أني نائمة فقال لي أنمت مرارا فلم أجبه فأمسكت ونظر من وراء الخباء فإذا شيء قد أقبل فرفع رأسه فإذا أمراة فقالت يا أبا سفانة أتيتك من عند صبية جياع فقال أحضر بني صبيانك فو الله لأشبعنهم قالت فقمت مسرعة فلت بما ذا يا حاتم فو الله ما نام صبيانك من الجوع إلا بالتعليل فقام إلى فرسه ثم أجج نارا ودفع إليها شفرة وقال أشتوي وكلي وأطعمي صبيانك وقال لي أيقظي صبييك فأيقظتهما ثم قال والله أن هذا للؤم وأن أهل الصرم حالهم كحالكم فجعل يأتي الصرم بيتا بيتا ويقول عليكم النار فاجتمعوا وأكلوا وتقنع بكسائه وقعد ناحية حتى لم يوجد من الفرس علي الأرض قليل ولا كثير ولم يذق منه شيئا انتهى وغير الميداني يقول هذه القصة عن النوار زوجة حاتم أم أبنيه عدي وسفانة وماوية بنت غفزر أم أبنه عبد الله وكانت كل واحدة منهن تلومه في الجود فيقول للنوار:

مهلا نوار أقلي اللوم والعـــذلا         ولا تقولي لشيء فات ما فعلا

يرى البخيل سبيل الجود واحدة         أن الكريم يرى في ماله سبلا

ويقول لماوية من قصيدة رنانة:

أماوى أن المنال غاد ورائح         ويبقى من المال الاحاديث والذكر

أماوي أما مانع فمبيــــــــــن         وأما عطاء لا ينهنهة الزجــــــــر

 

المؤثرون في الإسلام:

أن الإسلام استنارا فقه بكل فضيلة وأشرقت سماؤه بكل خلة كريمة وذلك أن عصر الجاهلية المظلم لم تكن العرب فيه تعرف ما تأتي وما تذر من محاسن الأخلاق ومساوئها إلا ما جذبها إليه الطبع وقادتها له الفطرة فهي طوع ما جبلت عليه نفوسها من السجايا وما أرتكز في طبائعها فهي تفعل ما تفعل وتذر ما تذر رضوخا للسجية وانقيادا للغريزة ولها من المعرفة مقدار ما دلتها عليه العقول النظري وليست لها ميزة العلم ولا معرفة الاستدلال وليس لها علم بما يترتب عليه الثواب من صالح الأعمال والعقوبة على مساوئها وكانت لا تدين بالجزء ولا تقر بالمعاد لأنها عاشت في فيا فيها العميقة ودرجت إرادة جبار السموات من الإصلاح لأهل الأرض وتفيضة من أفاضات رضوانه على العالم البشري من أنواع الوحي لا صلاح هذا النوع الإنساني وتشريعه مواد قوانينه المدنية وقضايا دستوره الاجتماعية الكافلة بصلاح المعاد والمعاش جميعا وهم كانوا أيضا بمعزل عن كافة العلوم العقلية التي بها سعادة البشر في الحياة الاجتماعية لاهين بحديث الغول والسعلاة مشغولين بذبح الضب واليربوع والعضاة همتهم شن الغارات والظعن والتنقل في فيافي الفلوات فلذلك تجد أكثرهم بعيدا عن الرحمة أهل جنسه شديد التعدي عليهم فالقسوة والغلظة مرتكزة في طباعهم فيتبجح قائلهم بقوله

يبكى علينا ولا نبك على أحد         لنحن أغلظ الباداً من الابل

فذبح إنسان عندهم وذبح يربوع سواء إلا القليل من عقلائهم الناطقين بالحكمة من أهل التمييز والمعرفة أمثال قيس بن ساعدة وعامر ابن الضرب وأكثم بن صيفي وغيرهم فلم يزالوا كذلك ونفوسهم الحرة ترشدهم إلى الخصال الحميدة وعقولهم السليمة تدلهم على اختيار محاسن الشيم والأخلاق.

إلى أن أشرق نور الملة المحمدية وأضاء فجر الشريعة الاحمدية اللماع وملئت أشعته المتألقة أفاق الجزيرة العربية بل آفاق العالم كله وطبق نوره الكون بأسره فسبق نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) أنظمة التهذيب وشرع قوانين التأديب النفسي الحي وقرر التعاليم الحرة التي هي أسس المدنية المختارة في هذه العصور والأزمنة عصور الثقافة والتهذيب الملقبة بعصور النور.

ولا يجهل فضيلة الإسلام وفضله على المدنية الحديثة وحقه العظيم على الإنسانية إلا معاند عظيم التمرد شديد التعنت أو أعوج السليقة أولا معرفة عنده بما شرعه شارع الإسلام فكان مع نص (القرآن) على مدح (الإيثار) أول من ندب إليه قولا وفعلا ورغب فيه سيدنا ونبينا محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته أما القول فما حررناه سابقا يكفيك (وإما الفعل) فقد اتفق العلماء أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقسم ما عنده من الاقوات بين الفقراء من أهل الصفة وأهل الخصاصة من غيرهم ويبيت طاويا وكثيرا ما كان يربط حجر المجاعة على بطنه وقد نعت في الكتب السماوية المنزلة على غيره بالإيثار قال الغزالي (في الإحياء) قال سهل بن عبد الله قال موسى (عليه السلام) يا رب ارني بعض درجات محمد وأمته فقال يا موسى أنك لا تطيق ولكن أريك منزلة من منازله جليلة عظيمة فضلته بها عليك وعلى جميع خلقي قال فكشف له عن ملكوت السموات فنظر إلى منزلة كادت أن تتلف نفسه من أنوارها وقربها من الله تعالى فقال يا رب بما ذا بلغت به إلى هذه الكرامة فقال بخلق اختصصته به من بينهم وهو الإيثار يا موسى لا يأتيني أحد منهم قد عمل به وقتا من عمره إلا استحييت من محاسبته وبوأته من جنتي حيث يشاء.

 

إيثار أهل البيت (عليه السلام):

ومنه ما كان سببا لنزول سورة هل أتى روى الحافظ الكنجي الشافعي في (كفاية الطالب) والشبلنجي الشافعي في (نور الأبصار) نقلا عن مسامرات الشيخ الأكبر وهي كذلك عند الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي في محاضرات الأبرار ومسامرات الأخيار وسبط بن الجوزي الحنفي في تذكرة خواص الأمة وغيرهم من أهل السنة ورواها الشيعة أيضا والألفاظ وأن تقاربت لكنها لسبط بن الجوزي لاشتماله على فائدة وهي الرد على من زعم أن الحديث موضوع قال بعد أن ذكر له طريقين عن أبي صالح عن ابن عباس وعن مجاهد عن ابن عباس قال في قوله تعالى (يوفون بالنذر) الآية قال مرض الحسن والحسين (عليه السلام) فعادهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومعه أبو بكر وعمر وعادهما عامة العرب فقالوا يأبا الحسن لو نذرت على ولديك نذرا فكل نذر لا يكون له وفاء فليس بشيء فقال علي (عليه السلام) لله علي أن برء والداي مما بهما صمت لله ثلاثة أيام وقالت فاطمة (عليه السلام) كذلك وقالت جارية يقال لها فضة كذلك فالبس الله الغلامين العافية وليس عند آل محمد (صلى الله عليه وآله) قليل ولا كثير فانطلق علي (عليه السلام) إلى شمعون بن حانا اليهودي فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير فجاء بها إلى فاطمة عليها السلام فقامت إلى صاع فطحنته وخبزته خمسة أقراص لكل واحد منهم قرص وصلى علي (عليه السلام) المغرب مع النبي (صلى الله عليه وآله) ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين أيديهم فجاء سائل أو مسكين فوقف على الباب وقال السلام عليكم يا أهل بيت محمد مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فسمعه علي (عليه السلام) فقال:

فاطم فيك المجد واليقيـــــن         يابنت طاها وهو الأميــن

هذا الفقير البائس المسكين         قد قام بالباب له حنيــــن

يشكو إلى الله ويستكيــــــن         يشكو الينا الهائم الحزين

كل أمرء بكسبـــه رهيـــــن         وفاعل الخيرات يستبيــن

وللبخيل متوقف مهيــــــــن         تهوي به لقعرها سجيـن

فقالت فاطمة (عليها السلام)

أطعمه ولا أبالي الساعــــه         أرجو إذا أشبعت ذا مجاعه

أن الحق الأخيار والجماعه         واسكن الخلد ولي شفاعـه

قال فأعطوه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا إلا الماء القراح ولما كان اليوم الثاني طحنت فاطمة (عليه السلام) صاعا من الشعير وصنعت منه خمسة أقراص وصلى علي (عليه السلام) المغرب مع النبي (صلى الله عليه وآله) وجاء إلى المنزل فأتى يتيم فوقف على الباب فقال السلام عليكم يا أهل بيت محمد يتيم من أولاد المهاجرين استشهد والدي فأطعموني مما رزقكم الله أطعمكم الله من موائد الجنة فقال علي (عليه السلام):

فاطم بنت السيد الكريــــــــم          بنت نبي ماجد رحيــــــــــــم

قد جاءنا الله بذا اليتيـــــــــم          قد حرم الخلد على اللئيـــــم

يحمل في الحشر إلى الجحيم          يسقى من الصديد والحميــم

ومن يجود اليوم في نعيـــــم          يسقي من الرحيق والتسنيم

فقالت فاطمة (عليها السلام)

أني لأعطيه ولا أبالي          وأوثر الله على عيالي

فرفعوا الطعام وناولوه إياه ثم أصبحوا في الثالث كذلك فلما كان اليوم الثالث طحنت فاطمة (عليه السلام) باقي الشعير وصنعته وجاء علي (عليه السلام) فعد المغرب فجاء أسير فوقف على الباب وقال السلام عليكم يا أهل بيت محمد (صلى الله عليه وآله) أسير محتاج تأسرونا ولا تطعمونا أطعمونا من فضل ما رزقكم الله فسمعه علي (عليه السلام) فقال:

فاطم يا بنت النبي أحمـــد          بنت نبي سيد مســـــــــــــــود

مني على أسيرنا المقيـــد          من يطعم اليوم يجده في غـــد

عند العلي الماجد الممجد          من يزرع الخير فسوف يحصد

فقالت فاطمة (عليه السلام)

لم يبق عندي اليوم غير صاع          قد مجلت كفي مع الذراع

وأبناي والله من الجيــــــــــاع          أبوهما للخير ذو اصطناع

ثم رفعوا الطعام فأعطوه الأسير فلما كان اليوم الرابع دخل علي (عليه السلام) على النبي (صلى الله عليه وآله) يحمل ابنيه كالفرخين فلما رآهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال وأين ابنتي قال في محرابها فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) فدخل عليها فرآها قد لصق بطنها بظهرها وغارت عيناها من شدة الجوع فقال النبي (صلى الله عليه وآله) واغوثاه يا الله آل محمد (صلى الله عليه وآله) يموتون جوعا فهبط الأمين جبرائيل وهو يقول (يوفون بالنذر) الآية.

 

إيثار العباس أخاه الحسين على نفسه:

وذاك حين رمى الماء من يده وقال لا ذقت الماء وابن رسول الله عطشان مع كونه قد أشرف على التلف من الظمأ وقد نطقت بذلك أشعاره كقوله:

يا نفس من بعد الحسين هوني          وبعده لا كنت أن تكوني

هذا حسين شارب المنــــــــون          وتشربين بارد المعيــــن

قد صرح (عليه السلام) في هذا الشعر أنه آثر أخاه الحسين (عليه السلام) ليس على سبيل الارتكاز الجبلي ولا بداعي الطبع الفطري ولا طاوع فيه الخلق الغريزي وإنما كان ذلك عن فقه في الدين وعلم بما للمؤثر على نفسه من عظيم الأجر وبالأخص إذا كان الإيثار للإمام المفترض الطاعة وذلك حيث يقول فيه:

وليس هذا من شعار ديني          ولا فعال صادق اليقين

لأن شعائر هذا الدين المواساة والإيثار وقد مدح القرآن المؤثرين وورد من إيثار رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته وفضلاء الصحابة والصادق اليقين في أن الله يجزي بالعمل الصالح ويثيب على الإحسان فأنه يحصل له القطع بأن من آثر الحسين (عليه السلام) بنفسه أو على بنفسه كان كمن آثر رسول (صلى الله عليه وآله) وقد قال في الحديث المتفق عليه (حسين مني وأنا من حسين).

فالمواسي له ينال أعظم درجة الأجر عند الله فإذا حاد عن سنن الإيثار له وانحرف عن جادة المواساة فلا يشبه فعله فعل الصادق اليقين بأن إيثار العترة الطاهرة ومواساة السلالة المطهرة من أفضل الطاعات واجل المقربات عند الله بل هي مما أفترض الله تعالى على الأمة القيام بها بقوله تعالى (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) وقوله (صلى الله عليه وآله) في حديث الثقلين (أحفظوني في أهل بيتي) فأبو الفضل أدى هذه الفريضة كما قد أدى سائر الفرائض.

 

  

 

لا شك أن الشجاعة من الغرائز النفسية والطبائع المرتكزة في القوى الذاتية لكنها تقوى وتضعف بحسب الممارسة، فأشبهت الهيئات والملكات واستحق المتصف بها المدح والإطراء.

 

الشجاعة لغة:

العرب تسمي الحية الذكر وهو العربد (العربيد) بلسان العوام الشجاع فأطلقته على الرجل الجريء المقدام خواض الأهوال والغمرات وذلك لأن العربد (العربيد) في لعابه السم المتلف وكذلك الرجل الشجاع في سيفه التلف وفي ملاقاة كليهما المخاطرة ومظنة الهلاك والعطب قال ابن الأثير في (النهاية) الشجاع بالضم والكسر الحية الذكر وقيل الحية مطلقاً وقال (الفيومي في المصباح المنير) شجع بالضم شجاعة قوي قلبه واستهان بالحروب جرأة وإقداما فهو شجيع وشجاع وبنو عقيل تفتح الشين حملا له على نقيضه وهو جبان وبعضهم يكسر للتخفيف وقال الدميري في (حياة الحيوان) الشجاع بالضم والكسر الحية العظيمة التي تثب على الفارس والراجل وتقوم على ذنبها وربما بلغت رأس الفارس وتكون في الصحارى وذكر مثل هذا الطريحي في (مجمع البحرين) وقال الشجاع الأقرع حية قد تمعط فروة رأسها لكثرة سمها والشجاعة شدة القلب عند البأس وقد شجع الرجل شجاعة قوي قلبه واستهان بالخطوب جرأة وإقداما الخ.. وقد تبع صاحب (القاموس) في قوله الشجاع الشديد القلب عند البأس ويشهد لهذا التفسير ما حملته الأنباء التاريخية التي يعول عليها من آثار بعض الشجعان الذين قد شقّ عن قلوبهم فوجد في غاية الصلابة فقد حمل إلينا الأثر الصحيح قصة (حمزة بن عبد المطلب) سلام الله عليه فأنه لما استشهد في أحد وتشاغل عنه المسلمون لما دهمهم من الأمر المزعج بالهزيمة عمدت (هند بت عتبة) أم معاوية بن أبي سفيان إلى بطنه فشقتها واستخرجت قلبه وأرادت أكلها فلما لاكتها وجدتها مثل الصخرة الصماء فلفظتها من فمها فلما وصلت إلى الأرض نزت ووثبت إلى فوق ومن هنا قيل (لهند) آكلة الأكباد وسمي ابنها (معاوية، ابن آكلة الأكباد تغييرا له بذلك وذمًا وهكذا نقل المؤرخون في أخبار (شبيب بن يزيد) الشيباني رأس الخوارج الصفرية وهو الخارج على الحجاج الثقفي وصاحب الحروب المشهورة فإنه لما غرق في دجيل الأهواز شق عن بطنه واستخرج قلبه فكان إذا ضرب به الأرض نزا إلى فوق ووثب قدر قامة وعلى تفسير الدميري فهو غير العربيد بل أعظم منه وخاص بالفلوات لا يكون في غيرها.

 

معنى الشجاعة وحقيقتها:

قال(الشريف الجرجاني في التعريفات) الشجاعة هيئة حاملة للقوة الغضبية بين التهور والجبن بها يقدم على أمور ينبغي أن يقدم عليها كالقتال مع الكفار ما لم يزيدوا على ضعف المسلمين وقال أحمد بن أبي الربيع في (سلوك المالك) ص 18 الشجاعة وهي علة الإقدام وأن لا ينهزم عند الشدائد والمخاوف وقوامها في القوة الغضبية وقال: القوة الغضبية وهى الحيوانية السبعية ومسكنها القلب ويشارك الإنسان بها الحيوان واحد قواها حب الغلبة والرياسة وبها يدفع ما لا يوافق بدنه ونفسه فان اعتدلت فصاحبها يوصف بالشجاعة والفروسية وقوة القلب وإن خرجت عنه فإما إلى الزيادة فإنه يوصف بالتهور وكثرة الغضب أو النقصان فأنه يوصف بالجبن وضعف القلب وقال ابن مسكويه الخازن في [تهذيب الأخلاق] بعد كلام: ثم أن صاحب الجود والشجاعة إذا عم غيره بفضله وتعدياه رجي بأحدهما واحتشم و هيب بالأخرى وذلك في الدنيا فقط لأنهما فضيلتان حيوانيتان ثم قال (إما) الشجاعة فهي فضيلة النفس الغضبية وتظهر في الإنسان بحسب انقيادها للنفس الناطقة المميزة واستعمال ما يوجبه الرأي في الأمور الهائلة بمعنى أن لا يخاف من الأمور المفزعة إذا كان فعلها جميلا والصبر عليها محموداّ الخ.. (أما العرب) فلا تستطيع أن تعرف الشجاعة بأكثر من أنها غريزة من غرائز النفس وطبيعة من طبائعها، أخبر المؤرخون في غزوة الخندق ويوم الأحزاب أن عمرو بن عبد ودّ العامري قائد جيش الأحزاب لما اقتحم الخندق على أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وطلب المبارزة منهم وجبنوا عن لقائه قال يسمعهم:

ولقد بححت من النــدا          ء بجمعكم هل من مبارز

ووقفت اذ جبن الشجا          ع مواقف القرن المناجز

أن الشجاعة في الفتى          والجود من خير الغرائز

فأجابه أمير المؤمنين مبارزة وإنشادا:ً

لا تعجلن فقد أتاك          مجيب صوتك غير عاجز

ذو نية وبصيرة            والصدق منجى كل فائز

إني كذلك لم أزل            متسرعا نحو الهزاهز

 

الصفات المندرجة تحت الشجاعة:

حيث أن حقيقة الشجاعة صبر وثبات وحمل النفس على مكروه وممقوت لأنها بالطبع تحب البقاء وتكره الفناء ومن لوازمها الجبلية الفطرية التعاظم والبذخ لأن من خاض الأهوال ولم يبالِ بالمعاطب يستشعر في نفسه عظمة ويعتريه تباذخ وشموخ وحيث أن للنفس الإنسانية حاكمية على الشجاعة فوجب أن تقهر تلك النخوة الغضبية وتكسر تلك السورة الشيطانية وقمعها وكسرها بما يسمى عند العقلاء حلما وعند المتشرعين عفواً فاندرجت تحت الشجاعة أمور هي كما نص عليها ابن مسكويه في (تهذيب الأخلاق) على هامش المبدأ والمعاد ولفظه الفضائل التي تحت الشجاعة - كبر النفس - النجدة - عظم الهمة - الثبات - الصبر - الحلم - عدم الطيش – الشهامة، والفرق بين هذا الصبر والصبر الذي في العفة أن هذا يكون في الأمور الهائلة وذلك يكون في الشهوات الهائجة (أما كبر النفس) فهو الاستهانة باليسير والاقتدار على حمل الكرامة فصاحبه أبداً يؤهل نفسه للأمور العظائم مع استخفافه لها (وأما النجدة) فهي ثقة النفس عند المخاوف حتى لا يخامرها جزع (وأما عظم الهمة) فهي فضيلة للنفس تحتمل بها سعادة الجد وضدها من الشدائد التي تكون عند الموت (وأما الثبات) فهو فضيلة للنفس تقوى بها على احتمال الآلام ومقاومة الأهوال خاصة (وأما الحلم) فهو فضيلة للنفس تكبر بها الطمأنينة فلا تكون شغبة ولا يحركها الغضب بسهولة وسرعة (وأما السكون) الذي نعني به عدم الطيش فهو إما عند الخصومات وإما في الحروب التي يذب بها عن الحريم أو عن الشريعة وهي قوة للنفس تقسر حركتها في هذه الأحوال لشدتها (وأما الشهامة) فهي الحرص على الأعمال العظام توفقاً للأحدوثة الجميلة .

 

الشجاعة بالتمرين والممارسة:

لم نجد في سير الشجعان منذ القدم إلى اليوم من حاز صفات الكمال في الشجاعة وانتفت عنه رذائلها أجمع إلا نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الكرام حسب المعروف من سيرهم في حروبهم الدينية وهو مشروح على تفاصيل تاريخية مذكورة في محلها وقد أخبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في خطبته عن أن الشجاعة بالممارسة والتمرين في بعض خطبه وكان يصحب أولاده معه يشهدهم الحرب وكل ذلك مشهور.

 

ثمرة الشجاعة وفوائدها:

هي نوعان دينية ودنيوية ولكل واحدة منهما ثمره وقائدة (فالدينية) ثمرتها إشادة الدين وإظهار الحق ونشر العدل وإبطال الجور والأضاليل التي تنتجها بدع المجرمين و(أما الدنيوية) ففائدتها حفظ شؤونه وبلوغ غاياته ونيل مقاصده وبهما معاً حماية الشرف والجاه وصيانة العرض.

 

مظاهر الشجاعة وأسبابها المثيرة لعواطف الفرسان:

أما مظاهرها فكثيرة: أشهرها الثبات عند انفضاض الجميع وتقوض الصف هزيمة وهربا والإقدام عند إحجام الباقين والإسراع إلى إجابة الداعي للمصاولة وتلبية طالب النزال والمبارزة قال الإ بشيهي في (المستطرف) والشجاعة عند اللقاء على ثلاثة أوجه (الأول) إذا التقى الصفان وتزاحف العسكران وتكالحت الأحداق بالأحداق برز من الصف إلى وسط المعترك يحمل ويكرّ وينادى هل من مبارز و(الثاني) إذا شب القوم واختلطوا ولم يدر أحدهم من أين يأتيه الموت يكون رابط الجأش ساكن القلب حاضر اللب لم يخالطه الدهشة ولا تأخذه الحيرة فيتقلب تقلب الملك لأموره القائم على نفسه (الثالث) إذا أنهزم أصحابه يلزم الساقة ويضرب في وجوه القوم يحول بينهم وبين عدوهم يقوي قلوب أصحابه ويرجي الضعيف ويمدهم بالكلام الجميل ويشجع نفوسهم فمن وقع أقامه ومن وقف حمله ومن كبا فرسه حماه حتى ييأس العدو منهم وهذا أحمدهم شجاعة.

بل هذا مفقود إلا أن يكون أمير المؤمنين - علي بن أبي طالب (عليه السلام) فإن أبا الحسن جمع هذه المزايا الثلاثة أما (في التقاء الجمعين) فقد شهدت به بدر وغيرها من غزوات رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإنه يتقدم الصف ويجيب الداعي فقد أباد قريشا وأفنى جماعتها يوم بدر وقتل أبطالها مثل - الوليد أبن عتبة - وحنظلة - بن أبي سفيان - والعاص - ابن سعيد - وطعيمة - ابن عدي - ونوفل - بن خويلد وهو ابن العدوية وهو من شياطين قريش وجبابرتها وهو الذي قرن بين أبي بكر بن أبي قحافة وابن عمه طلحة بن عبيد الله بحبل شدهما فيه معا وسحبهما ولذلك سميا بالقرينين وغير هؤلاء من الأبطال سل عنهم التاريخ وقتل يوم أحد أصحاب اللواء وهم ثلاثة عشر من آل عبد الدار فيهم (كبش الكتيبة) وقتل غيرهم من قريش وقتل - عمرو بن عبد ود العامري - بطل الأحزاب وفارس قريش وهو (فارس يليل) حمى أصحابه من ألف فارس من بني بكر وقتل - مرحبا - بطل اليهود وأبا جر ول فارس هو ازن يوم حنين كل ذلك مبارزة.

(أما المقام) الثاني فشواهده كثيرة طلب (عليه السلام) يوم البصرة شرابا فجاءه بعض ولد أخيه جعفر الطيار بعسل فذاقه فقال أن عسلك هذا طائفي فقال العجب منك يا عم في مثل هذا اليوم تعرف الطائفي من غيره فقال يا بن أخي ما ملأ صدر عمك من هذا الجمع شيء وقد ورد أنه (عليه السلام) إذا اشتد القتال ينام فقد ذكروا أن أصحابه يوم البصرة جاءوه بأحد أولاد - بديل بن ورقاء - الخز اعي قتيلا فوجدوه يخفق نعاسا ووجد في بعض أيام صفين يصلى وسط المعركة وذكروا أنه لما انهزمت ميمنته يوم صفين وانهزم القلب أيضا وثبتت الميسرة مشى إليها على تؤدة يستثبتهم ومعه أولاده وبعض أصحابه والسهام كأنها رش المطر عليهم فقال له قائل يا أمير المؤمنين لو أسرعت في مشيتك حتى تصل إلى من ثبت من أصحابك فقال لعلي يوم لن يعدوه وأمثال هذه الأمور مشهورة.

(أما المقام الثالث) فشاهده يوم أحد وحنين فر الناس عن رسول (صلى الله عليه وآله) فثبت يوم أحد يكافح الأعداء من الجهتين يحميهم من الطلب ويحامي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأن بعض المنهزمين وصل في هزيمته إلى المدينة وبعضهم ذهب على وجهه وهو -عثمان بن عفان - كما نص عليه الحلبي الشافعي وغيره أنه جاء بعد اليوم الثالث من الوقعة فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) ذهبت فيها عريضة وغيره ابن عوف بذلك كما رواه البخاري وغيره وتسلق - أبو بكر وعمر - وآخرون الجبل فاعتصموا به ويوم حنين أنهزم ذلك الجيش الضخم ولم يثبت إلا تسعة نفر كلهم من بني هاشم وتاسعهم من الأنصار فقتل الأنصاري وحف السبعة بالنبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) يحميهم جميعاً بسيفه يجالد الأعداء فرد هوازن على أعقابهم حتى تراجع المنهزمون من المسلمين.

 

الأسباب والدواعي للشجاعة:

أظهر أسباب الشجاعة نصرة الدين وحمية النفس تفاديا من المذلة وأنفة من عار الفرار وخوفا من وصمة الجبن وترفعاً عن هوان الأسر فالحياء من الناس والخوف من الله تعالى لما وعد المنهزم الفار من الزحف من العذاب الخالد أوجبا للشجاع الثبات في الحومة والصبر في هول المعترك وخوض الغمرات الطامية في المعارك الطاحنة قال - الراغب الاصبهاني - في المحاضرات ص 57 ج 2 الأسباب المشجعة قال - الجاحظ - الأسباب المشجعة قد تكون من الغضب والشراب والهوج والغيرة والحمية وقد تكون من قوة الدفاع وحب الإقدام وربما كان طبعاً كطبع الرحيم والسخي والبخيل والجز وع والصبور وربما كان للدين لكن لا بدافع الرجل للدين ما لم يشيعه بعض ما تقدم لأن الدين مجتلب مكتسب ولا يكاد يبلغ ما بالطبع وقيل لا يصدق القتال إلا ثلاث متدين وغير أن وممتعض من ذل.

 

الشجاعة مفخرة للعرب:

الشجاعة مفخرة من مفاخر العرب ورداء مجد من أردية الإسلام وقد ندب إليها الشارع المقدس وأكد عليها في سبيل نصرة الدين وإحياء الحق وفي آيات القرآن ما يغني عن إيراد متون الأحاديث الحاضة على الثبات والصبر في وجوه أعداء الدين والمحرضة على الإقدام والإقحام في لقاء المشركين فانه تعالى يقول (اصبروا وصابروا ورابطوا) ويقول (إذا لقيتم فئة فاثبتوا) ويقول (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة) أراد بالغلظة الشدة وقوة القلب لا شراسة الأخلاق وفظاظة الطباع لقوله تعالى في صفة المؤمنين (أشداء على الكفار رحماء بينهم) ثم نهي تعالى عن الفرار بقوله (وإذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله) ثم أنه تعالى أخبر عن محبته لأهل الثبات على مراكزهم مصطفين متراصين تراص البناء فقال (أن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص) فالشجعان في الجهاد إذا لزموا مراكزهم وتراصوا تراص البنيان ولم يتركوا فرجة يقتحمها العدو أدركوا من عدوهم ما طلبوا ولم يدرك منهم عدوهم ما طلب فلذلك كان الله تعالى يحبهم.

ما قيل في الشجاعة والشجعان:

عن (محاضرات) الراغب الأصفهاني قيل الشجاعة: صبر ساعة أحسب أن هذا القائل الذي حكى عنه الراغب أخذ كلامه هذا من قول (مالك الاشتر) يوم صفين لأهل العراق (أعيروني جماجمكم ساعة فقد بلغ الحق مقطعه) قال الراغب كتب زياد إلى ابن عباس صف لي الشجاعة والجبن والجود والبخل فقال الشجاع من يقاتل عمن لا يعرفه والجبان يفرّعن عرسه والجواد يعطي من لا يلومه حقه والبخيل يمنع من نفسه.

يفر جبان القوم عن أم نفسه          ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه

وسئل فيلسوف عن الشجاعة فقال جبلة نفس أبية وقيل الرجال ثلاثة فارس وشجاع وبطل فالفارس الذي يشد إذا شدوا والشجاع الداعي إلى البراز والمجيب إليه والبطل الحامي لظهورهم إذا انهزموا.. الخ وللشجاع مراتب عند العرب قال الجاحظ (في البيان والتبيين) قال أبو عبيدة يقال للفارس شجاع فإذا تقدم ذلك قيل بطل فإذا تقدم شيئاً قيل بهمة فإذا صار للغاية قيل ألَيس قال العجاج:

أليس عن حوبائه سخي

أشعار العرب في الشجاعة كثيرة منها قول بعضهم:

إذا استلب الخوف الرجال قلوبها          صبرن على الموت النفوس الغوا ليا

حذار الأحاديث التي غب يومها          عقدن بأعناق الرجــــــــــــال المخازيا

وقال الأعشى الأكبر:

جعل إلا له طعامنا في مالنا          رزقا تضمنه لنا لن ينفدا

ضمنت برزق عيالنا أرماحنا          ملأ المراجل والصريح الاجردا

وقال أبو فراس الحمداني:

صبور وأن لم تبق مني بقية          قؤول ولو أن السيوف جواب

وقور وأحداث الليالي تنوشني          وللموت حولي جيئة وذهاب

وقال السلامي:

إذا فاجأته الخيل لم ينتظر بها          لحوق رجال واجتماع مقانب

قد أنبأتنا الآثار التاريخية المعتمدة بصدور هذه الفعلة الكريمة لرجل ولقبيلة أما الرجل فهو مسلم بن عوسجة الأسدي الشهيد مع الحسين (عليه السلام)، وقد قال: شبث بن ربعي رأيته ونحن بسلق أذربيجان قتل ستة من المشركين قبل أن تلتئم خيول المسلمين.

و(أما القبيلة) فهم بنو تميم فقد فعلوا ذلك يوم الكلاب الثاني وهو يوم الصفقة وقصة هذا اليوم من أطول القصص وافضعها هو لا قتل فيها ملوك اليمن الأربعة وسائر قوادهم والشاهد من القصة برواية المبرد قال (ضمرة بن لبيد الحماسي) انظروا إذا سقتم النعم فأن أتتكم الخيل عصبا العصبة تنتظر الأخرى حتى تلحق بها فأن أمر القوم هين وان لحق بكم القوم ولم ينتظر بعضهم بعضا حتى يردوا وجوه النعم فان أمرهم شديد وتقدمت سعد والرباب في أوائل الخيل والتقوا بالقوم فلم يلتفتوا إليهم واستقبلوا النعم ولم ينتظر بعضهم بعضا ورئيس الرباب النعمان بن الحسحاس ورئيس بني سعد قيس بن عاصم وأجمع العلماء أن قيس بن عاصم رئيس بني تميم إلى آخر القصة أنظرها في العقد الفريد ص 363 ج 3.

 

غايات الشجعان ومقاصدهم:

لقد تبين من جميع ما ذكرنا أن لكل شجاع غاية ينحوها وهدف يرمي إليه أما قصد تأسيس مملكة وإشادة سلطنة أو دفاع عن وطن أو تخلص عن ذل واستعباد أو اكتساب رفعة ووجاهة أو نيل مرتبة سامية وما شاكل ذلك من المقاصد العقلائية وأنبلها المحاماة عن الأعراض والكفاح على الدين والمحاماة عن عظيم من العظماء الروحانيين كل هذه الغايات من مقاص الشرف ومناحي المجد والسؤدد وهي مقدرة عند جميع ذوي العقول ومحترمة لدى كافة النبلاء وأقربها للمحامد وأحراها بالتبجيل والاحترام من كان دفاعه نصرة للحق والعدل وتشييداً للدين ومكافحة للاستبداد الممقوت والجور الصارم والمدافعة عن نفس يجب حفظها بكل ما يمكن الوصول إليه (كنفس النبي والإمام المعصوم) المفترضة طاعتهما على الخلق أجمعين وجميع هذه الغايات النبيلة.

 

شجاعة أبي الفضل العباس(ع):

وهي المثل الأعلى ووصفها الأكمل ونعتها الأتم وهي عظيمة الأثر في صفوف أهل الكوفة شديدة النكاية فيهم وقد تفنن الشعراء في نعته بالشجاعة فنونا :

 

حضوره صفين:

قد شهد قبل كربلاء صفين وفي بعض الكتب الفارسية أنه كان محاربا ويشهد به ما ذكره الخطيب الخوارزمي الحنفي في كتاب المناقب أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) لبس ثياب أبنه العباس في بعض أيام صفين لما برز لقتال(كريب) فارس أهل الشام وحيث أن هذه القصة تشبه قصة - العباس بن ربيعة - بن الحارث بن عبد المطلب لزمنا نقل القصتين ليرتفع الإشكال ويزول الشك فأنه ذكرهما معاً لفظه ص 147 ثم خرج من عسكر معاوية - كريب ابن أبرهة - من آل ذي يزن وكان مهيباً قويا يأخذ الدرهم فيغمزه بإبهامه فتذهب كتابته فقال له معاوية أن علياً يبرز بنفسه وكل أحد لا يتجاسر على مبارزته وقتاله فقال كريب أنا أبرز إليه فخرج إلى صف أهل العراق ونادى ليبرز إلي علي فبرز إليه مرتفع بن وضاح الزبيدي فسأله من أنت فعرفه بنفسه فقال كفء كريم ثم تكافحا فسبقه كريب بالضربة فقتله ونادى ليبرز إلى أشجعكم أو علي فبرز إليه شرحبيل بن بكر وقال لكريب يا شقي إلا تفكر في لقاء الله ورسوله يوم الحساب من سفك الدم الحرام فقال (كريب) أن صاحب الباطل من أوى قتلة عثمان وهو صاحبكم ثم تكافحا ملياً فقتله (كريب) ثم برز إليه (الحارث بن اللجلاج) الشيباني وكان زاهداً صواما قواما وهو يقول:

هذا علي والهدى حقاً معه          نحن نصرناه على من نازعه

ثم تكافحا فقتله (كريب) فدعا (عليه السلام) ابنه العباس وكان تاما كاملا من الرجال فأمره أن ينزل عن فرسه وينزع ثيابه ففعل فليس علي (عليه السلام) ثيابه وركب فرسه ولبس أبنه العباس (عليه السلام) ثيابه وركب فرسه لئلا يجبن كريب عن مبارزته فلما هم على (عليه السلام) بذلك جاء عبد الله بن عدي الحارثي وقال يا أمير المؤمنين بحق إمامتك ائذن لي في مبارزته فان قتلته وإلا قتلت شهيداً بين يديك فأذن له علي (عليه السلام) فتقدم إلى كريب وهو يقول:

هذا علي والهدى يقوده          من خير عيدان قريش عوده

لا يسأل الدهر ولا يروده          وعلمــــــــــــه معاجز وجوده

فتصاولا ساعة ثم صرعه كريب ثم برزا ليه علي (عليه السلام) متنكراً وحذره الله وسخطه فقال كريب أترى سيفي هذا قتلت به كثيراً مثلك ثم حمل على علي (عليه السلام) بسيفه فاتقاه بجحفته ثم ضربه علي (عليه السلام) على رأسه فشقه حتى سقط نصفين وانشأ علي (عليه السلام) يقول:

النفس بالنفس والجروح قصاص          ليس للقرن بالضراب خلاص

إلى آخر القصة وفيها يذكر أن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) أمر ابنه محمد بن الحنفية بملازمة مصرع كريب لأجل منازلة من يثور طالبا بدمه وذكر أن محمداً قتل في هذا الموقف سبعة أبطال من الثائرين يطلبون بدم كريب.

ذكر قصة العباس بن ربيعة بما لفظه .. برز اليوم التاسع عشر من حرب صفين من أصحاب (معاوية) عثمان بن وائل الحميري (وسماه المسعودي وغيره غرار بن أدهم) وكان بعد بمائة فارس وله أخ يسمى حمزة يعدهما معاوية للشدائد فجعل عثمان يلعب برمحه وسيفه والعباس بن الحارث بن عبد المطلب ينظر إليه من ناحية مع سليمان بن صرد الخز اعي فقال له العباس أبرز إليه وقد نهاني أمير المؤمنين (عليه السلام) وفي نفسي أني أقتله فبرز إليه العباس وهو يقول:

بطل إذا غشي الحروب بنفسه          حصد الرؤوس كحصد زرع مثمر

فتكافحا مليا فلم يظفر أحدهما بصاحبه فقال سليمان للعباس الاتجد فرصة فقال فيه شجاعة ثم أثنى عليه فضربه فرمى رأسه ووقف مكانه فبرز إليه أخوه حمزة فأرسل إليه علي (عليه السلام) ونهاه عن مبارزته وقال له أنزع ثيابك وناولني سلاحك وقف مكاني وأنا أخرج إليه فتنكر علي (عليه السلام) وخرج إلى حمزة فظن حمزة أنه العباس الذي قتل أخاه فضربه علي (عليه السلام) فقطع إبطه وكتفه ونصف وجهه ورأسه فعجب اليمانيون وهابوا العباس وبرز إلى علي (عليه السلام) عمرو بن عبس الجمحي وكان شجاعا فجعل يلعب برمحه وسيفه فقال علي (عليه السلام) هلم للمكافحة فليس هذا وقت للعب فحمل عمرو على علي (عليه السلام) حملة منكرة فاتقاه علي (عليه السلام) بحفته ثم ضربه علي (عليه السلام) على وسطه فأبان نصفه وبقي نصفه على فرسه فقال عمرو بن العاص لمعاوية ما هذه إلا ضربة علي (عليه السلام) فكذبه معاوية قال قل للخيل تحمل عليه فإن ثبت مكانه فهو علي فحملوا عليه فثبت لهم ولم يتزعزع وجعل يقتل فيهم حتى قتل منهم ثلاثة وثلاثين رجلا الخ.

وهذا صريح أن العباس كان فارسا بصفين كامل الاهبة والعدة يقف في صف المجالدين فيستعير أمير المؤمنين (عليه السلام) آلته ولباسه فلا يفرق بينهما وقد صرح الكر بلائي في معالي السبطين بأنه كان محاربا، وقال: قال الطريحي أن العباس (عليه السلام) كان مع أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) في الحروب والغزوات ويحارب شجعان العرب ويجالدهم كالأسد الضاري حتى يجد لهم صرعى وفي يوم صفين كان (عليه السلام) عونا وعضداً لأخيه الحسين عليه السلام وأن الحسين (عليه السلام) في فتح الفرات واخذ الماء من أصحاب معاوية وهزم أبا الأعور عن الماء ثم قال قال الحاج شيخ محمد باقر البرجندي القائني في (كتابه المسمى الكبريت الأحمر) قال بعض من يوثق به بأن يوماً من أيام صفين خرج شاب من عسكر أمير المؤمنين (عليه السلام) وعليه لثام وقد ظهر منه من آثار الشجاعة والهيبة والسطوة بحيث أن أهل الشام قد تقاعدوا عن حربه وجلسوا ينظرون إليه وغلب عليهم الخوف والخشية فما برز إليه أحد فدعا معاوية برجل من أصحابه يقال له ابن شعثاء وكان يعد بعشرة آلاف فارس فقال له معاوية أخرج إلى هذا الشاب فبارزه فقال يا أمير أن الناس يعدونني بعشرة آلاف فارس فكيف تأمرني بمبارزة هذا الفتى فقال معاوية فما تصنع فقال يا أمير أن لي سبعة بنين أبعث إليه واحداً منهم ليقتله فقال له أفعل فبعث إليه بأحد أولاده فقتله الشاب ثم بعث إليه بآخر فقتله الشاب حتى بعث جميع أولاده فقتلهم الشاب ثم بعث إليه بآخر فقتله الشاب فعند ذلك خرج ابن شعثاء وهو يقول أيها الشاب قتلت جميع أولادي والله لأ ثكلنك أباك وأمك ثم حمل اللعين وحمل عليه الشاب فدارت بينهما ضربات فضربه الشاب ضربة قده نصفين فألحقه بأولاده فعجب الحاضرون من شجاعته فعند ذلك صاح أمير المؤمنين (عليه السلام) ودعاه وقال أرجع يا بني لئلا تصيبك عيون الأعداء فرجع وتقدم أمير المؤمنين (عليه السلام) وأرخى اللثام عنه وقبله بين عينيه فنظروا إليه فإذا هو قمر بني هاشم العباس بن أمير المؤمنين.

 

إثبات شجاعة العباس بن علي عليهما السلام:

ويكفي لإثبات شجاعته (عليه السلام) ما كان منه يوم كربلاء (أما عدد من قتلهم) فمختلف فيه (ففخر الدين الطريحي) رحمة الله ومن وافقه من العلماء رضوان الله عليهم فيقولون قتل ثمانين بطلا وصاحب (الكبريت الأحمر) وصاحب (أسرار الشهادة) وصاحب (نور العين) الشافعي فيقولون ثمانمائة فارس والجمع بين القولين سهل بحمل الثمانين على المشاهير من الأبطال وباقي العدد على ما دونهم وبين هذين القولين أقوال بالزيادة والنقصان.

لقد روي أن العباس بن علي (عليه السلام) كان حامل لواء أخيه الحسين (عليه السلام) فلما رأى جمع عسكر الحسين (عليه السلام) قتلوا وأخوته وبني عمه بكى وإلى لقاء ربه اشتاق وحنّ فحمل الراية وجاء نحو أخيه الحسين (عليه السلام) وقال يا أخي هل من رخصة فبكى الحسين (عليه السلام) بكاء شديداً حتى ابتلت لحيته بالدموع ثم قال يا أخي كنت العلامة من عسكري ومجمع عددي فإذا أنت قتلت يؤول جمعنا إلى الشتات وعمارتنا تنبعث إلى الخراب فقال العباس (عليه السلام) فداك روح أخيك يا سيدي قد ضاق صدري من حياة الدنيا وأريد أخذ الثأر من هؤلاء المنافقين فقال الحسين (عليه السلام) إذا غدوت إلى الجهاد فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلا من الماء فلما أجاز الحسين (عليه السلام) أخاه العباس برز كالجبل العظيم وقلبه كالطود الجسيم لأنه كان فارساً هماماً وبطلا ضرغاماً وكان جسوراً على الطعن والضرب في ميدان الكفاح والحرب فلما توسط الميدان وقف وقال:

يا عمر بن سعد هذا الحسين بن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول لكم قتلتم أصحابه وأخوته وبني عمه وبقي وحيداً فريداً مع أولاده وعياله وهم عطاشى قد أحرق الظمأ قلوبهم فاسقوه شربة من الماء فأن أطفاله وعياله وصلوا إلى الهلاك وهو يقول لكم دعوني أذهب إلى طرف الروم والهند وأخلي لكم الحجاز والعراق واشرط لكم أني غداً في القيامة لا أخاصمكم عند الله حتى يفعل الله بكم ما يريد.

فلما أوصل إليهم العباس (عليه السلام) الكلام عن أخيه الحسين (عليه السلام) فمنهم من سكت ولم يرد جوابا ومنهم من جعل يبكي فخرج الشمر وشبث بن ربعي لعنهما الله فجاءا نحو العباس (عليه السلام) وقالا يا ابن أبي تراب لو كان وجه الأرض ماء وهو تحت أيدينا ما سقيناكم منه قطرة إلا أن تدخلوا في بيعة يزيد فتبسم العباس ومضى إلى أخيه الحسين (عليه السلام) وعرض عليه ما قالوه فطأطأ رأسه إلى الأرض وبكى حتى بل أزيا قه فسمع الحسين (عليه السلام) الأطفال وهم ينادون العطش العطش فلما سمع العباس (عليه السلام) رمى بطرفه إلى السماء وقال إلهي وسيدي أريد أن أعتد بعدتي واملأ لهؤلاء الأطفال قربة من الماء فركب فرسه وأخذ رمحه والقربة في كتفه وكان قد جعل عمر بن سعد أربعة آلاف خارجي موكلين على الماء لا يدعون أحداً من أصحاب الحسين (عليه السلام) يشرب منه فلما رأوا العباس (عليه السلام) قاصداً إلى الفرات أحاطوا به من كل جانب ومكان فقال لهم (يا قوم أنتم كفرة أم مسلمون هل يجوز في مذهبكم ودينكم أن تمنعوا الحسين وعياله شرب الماء والكلاب والخنازير يشربون منه والحسين (عليه السلام) مع أطفاله وأهل بيته يموتون من العطش أما تذكرون عطش القيامة).

فلما سمعوا كلام العباس (عليه السلام) وقف خمسمائة رجل فرموه بالنبال والسهام فحمل عليهم فتفرقوا هاربين كما يتفرق عن الذئب الغنم وغاص في أوساطهم حتى قتل منهم على ما نقل ثمانين فارسا فهمز فرسه إلى الماء واراد أن يشرب فذكر عطش الحسين (عليه السلام) وعياله وأطفاله فرمى الماء من يده وقال والله لا أشربه وأخي الحسين (عليه السلام) وعياله وأطفاله عطاشى لا كان ذلك أبداً ثم ملأ القربة وحملها على كتفه الأيمن وهمز فرسه وأراد أن يوصل الماء إلى الخيمة فأجتمع عليه القوم فحمل عليهم فتفرقوا عنه وسار نحو الخيمة فقطعوا عليه الطريق فحاربهم محاربة عظيمة فصادفه نوفل الأزرق فضربه على يمينه فبراها فحمل العباس (عليه السلام) القربة على كتفه الأيسر فضربه نوفل على كتفه الأيسر فقطعها من الزند فحمل القربة بأسنانه فجاء سهم فأصاب القربة فانفرت وأريق الماء ثم جاء سهم آخر فوق في صدره فقلب عن فرسه إلى الأرض فصاح بأخيه الحسين (عليه السلام) أدركي فساق الريح كلامه إلى الخيمة فلما سمع كلامه أتاه فرآه طريحاً فصاح وا أخاه وا عباساه واقرة عيناه واقلة ناصراه ثم بكى بكاء شديداً وحمل العباس (عليه السلام) إلى الخيمة.

هذا مارواه في المنتخب، ولكنه يخالف المشهور من وجوه:

(أحدها) كون الذي قطع يديه نوفل الأزرق والمشهور عند المؤرخين أن الذي قطع يديه زيد بن رقاد الجنبي من مذحج وحكيم بن الطفيل السبنسي من طي.

(ثانيهما) أن الحسين (عليه السلام) حمله إلى الخيمة يعني خيمة الشهداء والمشهور أنه بقي في مكانه.

(ثالثهم) أن الحسين (عليه السلام) تنازل أهل الكوفة عن مخاصمتهم عند الله بدل سماحهم له بالانصراف حيث شاء وهذا لا يصح بعد أن قتل أصحابه وأهل بيته ولكن الطريحي فقيه معتمد وهو أعرف بمسلكه وعلينا نحن بيان العلل المانعة (وأما القائلون) بان العباس (عليه السلام) قتل ثمانمائة فارس فنص الدر بندي (في أسرار الشهادة) وفي رواية عبد الله الأهوازي عن جده قال قال إسحاق بن جيوة : لما أقبل العباس (عليه السلام) بالجواد فثرنا عليه كالجرد الطائر فصيرنا جلده كالقنفذ قال فحمل عليهم العباس فتفرقوا عنه هاربين كما يتفرق عن الذئب الغنم وغاص في أوسطهم فقتل على ما نقل ثمانمائة فارس الخ...

 

  

تقدم الحديث عن علم أبي الفضل بالعلوم النقلية، أما علمه بعلم المعقول فله يد في العرفانيات وقد دلنا منظومه على مقدرته العرفانية ومنزلته في علم المعقول وقد تحقق لدينا أن مرتبته في هذا الفن هي المرتبة الراقية والمنزلة السامية وذلك حيث يقول:

فليس هذا من فعال ديني          ولا فعال صادق اليقين

وهذا القول منه يدل دلالة قوية على كونه من علماء الفلسفة الماهرين وأساطين الحكمة القديرين لأن مراتب المعرفة بوجود الحق باري الخلق والسلوك إلى رب الأرباب له خمسة مراتب مترتبة طولا حسبما رتبها سيد ألمتألهين وإمام الحكماء الموحدين أبوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهي (1) اليقين (2) علم اليقين (3) عين اليقين (4) حق اليقين وهو صدق اليقين (5) الوصول وهذه المرتبة الخامسة لا يصل إليها خلق سوى محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل العزم وأوصياء محمد (صلى الله عليه وآله) فقد تكون لبعض العارفين الرتبة الأولى وهى اليقين ثم لا يتجاوزها وقد تحصل لبعضهم الرتبة الثانية وهي علم اليقين ثم لا يعدوها وقد تحصل لبعضهم الرتبة الثالثة وهي (عين اليقين) وقد تتكامل في بعضهم المعرفة فيصل إلى الدرجة الرابعة وهي (حق اليقين) أو صدق اليقين وهذا قليل والأوحدي الماهر من وصلها وقد انتهت معرفة أبي الفضل العباس (عليه السلام) لصفاء نفسه وإضاءة أنوار عقله إليها ومن جهة تحصيله العلمي من وجهتي النظر والتفكير وتقليداً (لأئمة الهدى) الذين لهم كمال المعرفة والعلم بما وراء الحقيقة كأنهم قد عاينوا معاينة وشاهدوا مشاهدة.

وأولئك هم أبوه سيد العارفين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخواه الحسن والحسين (عليهم السلام) (وحق اليقين) هو صدق اليقين فأن من لم يصب حق اليقين فليس بصادق اليقين فمن صفت نفسه الشفافة واستضاء بأنوار عقله الهادي المدرك للمحجباة واستند في إشاراته إلى مكاشفات المكاشفين من (أئمة الدين) الذين عصموا من الزلل واختصوا بوحي الله تعالى وإيحائه ومنحهم خاصة فضيلة الإلهام وفطرهم على إصابة الحقائق لما ركب فيهم من قوة الحدس فلا شك في وصول تابعهم والمقتدي بهم إلى درجة صدق اليقين.

  

 

 

 

موقع يا زهراء سلام الله عليها لكل محبي الزهراء سلام الله عليها فلا تبخلوا علينا بآرائكم ومساهماتكم وترشيحكم كي يعلو اسمها سلام الله عليها ونعلو معه