القائمة الرئيسية
الصفحة الرئيسية الصفحة الرئيسية
القران الكريم القران الكريم
أهل البيت ع أهل البيت ع
المجالس    المحاضرات
المجالس   اللطــــميات
المجالس  الموالــــــيد
الفيديو   الفــــــيديو
الشعر القصائد الشعرية
مفاهيم اسلامية
اسال الفقـــيه
المقالات المقـــــالات
القصص الاسلامية قصص وعبر
القصص الاسلامية
الادعية الادعيةوالزيارات
المكتبة العامة المكتبة العامة
مكتبة الصور   مكتبة الصور
مفاتيح الجنان مفاتيح الجنان
نهج البلاغة   نهج البلاغة
الصحيفة السجادية الصحيفة السجادية
اوقات الصلاة   اوقات الصلاة
 من نحــــــن
سجل الزوار  سجل الزوار
اتصل بنا  اتصــــل بنا
  مواقع اسلامية
خدمات لزوار الموقع
ويفات منوعة ويفات منوعة
ويفات ملا باسم الكلابلائي ويفات ملا باسم
ويفات ملا جليل الكربلائي ويفات ملا جليل
فلاشات منوعة فلاشات مواليد
فلاشات منوعة فلاشات منوعة
فلاشات منوعة فلاشات احزان
ثيمات اسلامية ثيمات اسلامية
منسق الشعر
فنون اسلامية
مكارم الاخلاق
كتب قيمة
برامج لكل جهاز


قليل من وقتك رشحنا لافضل المواقع الشيعية ان احببت شكر لكم

 

 

‏وتوهجت قناديل الهداية في الشام

أنفاس عمر المرء خطاه إلى أجله، فإذا كانت هذه المعادلة القهرية تحكمنا رغماً عنّا - شئنا أم أبينا - فيا حبذا أن يتجلبب الإنسان جلباب المفاهيم الجلية الواضحة التي تأخذ بأيدينا إلى سفن النجاة، خصوصاً إذا أذعنّا بأن الأجل هو البوابة المشرفة على حياة جديدة، لا يدركها إلاّ من اختمر قلبه بالإيمان، واختزل أساطين الشهوة والسطوة، وعبّأ أجندة طاقاته باتجاه الصحوة والعطوة، ولا يستطيع المرء كبح جماح أواره الملتهب إلاّ بعد أن يطوي صفحات عمره ويجتازها بكل ثقة وجدارة، لاسيما إذا استيقن أن صفحات عمره قد تنطوي في أية لحظة من لحظات حياته!

ربما يشعر المرء بأن ثمة تواطئاً خفيّاً ضده، من غريمه أو زميله أو نظيره أو حتى نفسه التي هي بين جنبيه، ولكن الرغبة العارمة التي تنتابه بالانتقام من عوالم الضباب والأقبية المنسابة من تلك العوامل، هي الكفيلة بإشاعة ياسمين المحبة والإيمان، وبالتالي القفز بنجاح، والعبور من خلال الترع العكرة إلى مضان صفاء النفس، ليحيى بأجوائها كل نظير أو زميل أو غريم، قد يجد فيها ضالته المنشودة التي كان يبحث عنها.

ويمكن رؤية تلك المضان جلية واضحة في الموقف الخالد للشيخ الشامي، والحبر اليهودي، ورسول قيصر ملك الروم، وغيرهم - إزاء المعطيات التي أعقبت وصول سبايا الرسول إلى الشام، نعم أن هذه الصفوة قد وجدت ضالتها في قناديل الإمام السجاد والعقيلة زينب المتوهجة في قافلة النور والهداية والرشاد. بينما أصرّ يزيد وأعوانه البقاء في تلك الترع العكرة العفنة، وبقيت قلوبهم منكوسة مظلمة لا يجد الضوء إليها مدخلاً وسبيلاً، بل أنها تبتعد عنه كابتعاد الخفاش، إذ أن ديدنه العمل في الظلام.

وليس الذي ينهل من الشمس ويعمل في النهار كمن يقبع في ظلمات نفسه ويرتكس في وحل الجريمة والآثام، فالذي يغتال وديعة الرسول وينتهك حرمه، لا يلومنّ إلاّ نفسه إذا بشر بالخزي والندامة غداً أثناء جمع الناس ليوم القيامة، ذلك اليوم الفصل الذي كل امرئ فيه بما كسب رهين، وهو مرآة عاكسة لأنفاس عمر الإنسان في الدنيا.

 

كيف حمل بقية أهل البيت إلى الشام ؟!

وأما يزيد فلما قرأ كتاب ابن زياد أرسل إليه يأمره بحمل رأس الحسين (عليه السلام) ورؤوس أصحابه ومن قتل معه، وأمره بحمل أثقاله ونسائه وعياله وأطفاله، فاستدعى ابن زياد محفر بن ثعلبة العائذي، وسلم إليه الرؤوس والأسارى والنساء ومعهم علي بن الحسين وأخواته وعماته وجميع نسائه، فسار بهم محفر حتى دخل الشام كما يسار بسبايا الكفار، ويتصفح وجوههم أهل الأقطار. حتى وردوا بها على يزيد بدمشق(1).

وروى سيدنا فخر العترة وجمال الأسرة علي بن موسى بن جعفر بن طاووس الحسني (رضي الله عنه) عن ابن لهيعة وغيره حديثاً أخذنا منه موضع الحاجة، قال: كنت أطوف بالبيت وإذا أنا برجل يقول: اللهم اغفر لي وما أراك فاعلاً.

فقلت: يا عبد الله، اتق الله ولا تقل مثل هذا، فلو أن ذنوبك مثل قطر الأمطار، وورق الأشجار واستغفرت الله لغفر لك، فإنه غفور رحيم.

فقال: تعال حتى أخبرك بقصتي فأتيته، فقال: اعلم إنّا كنا خمسين نفراً ممن سار برأس الحسين إلى الشام، وكنا إذا أمسينا وضعنا الرأس في تابوت وشربنا الخمر حوله، فشرب أصحابي ليلة حتى إذا سكروا ولم أشرب معهم وجن علينا الليل سمعت رعداً أو رأيت برقاً وإذا بأبواب السماء قد فتحت، ونزل آدم ونوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ونبينا محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ومعهم جبرائيل وخلق كثير من الملائكة، فدنا جبرائيل من التابوت، فأخرج الرأس فضمه إلى نفسه وبكى وقبله، ثم فعل الأنبياء كذلك والملائكة كلهم، وبكى النبي (صلى الله عليه واله وسلم) على رأس الحسين (عليه السلام) وعزاه الأنبياء.

وقال جبرائيل للنبي: يا محمد، إن الله تعالى أمرني أن أطيعك في أمتك، فإن أمرتني زلزلت بهم الأرض، وجعلت عاليها سافلها كما فعلت بقوم لوط.

فقال النبي: لا يا جبرائيل، فإن لي معهم موقفاً بين يدي الله يوم القيامة، ثم جاءت الملائكة نحونا ليقتلونا، فقلت: الأمان يا رسول الله، فقال: اذهب لا غفر الله لك(2).

وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: قال لي أبو محمد بن علي: سألتُ والدي علي بن الحسين عن حمل يزيد له، فقال: حملني على بعير بغير وطاء! ورأس الحسين (عليه السلام) على عَلم! ونسوتنا خلفي على بغال... إن دمعت من أحدنا عين قُرع رأسه بالرمح! حتى إذا دخلنا دمشق صاح صائح: يا أهل الشام هؤلاء سبايا أهل البيت المعلون!(3).

منازل الطريق من الكوفة إلى دمشق‏

هناك طريقان يصلان بين الكوفة ودمشق:

الطريق السلطاني: وهذا الطريق مع طوله وكثرة منازله لا يمكن لسالك أن يجدّ السير فيه ولا يلوي على أحد ولا يتوقف في منزل أن يسلكه في أقل من عشرة أيام، ولو أردنا أن نقبل بأن مسير الركب الحسيني كان على هذا الطريق، ونقبل جميع ما حدث لهم في منازله لاستغرق ذلك أكثر من شهر على قول بعض المحققين، أهم منازل هذه الطريق: حران، حصاصة، تكريت، وادي النخلة، برصا باد، الموصل، عين الوردة، قنسرين، معرّة النعمان، كفر طاب، الشيرز، الحمى (حماة)، حمص، بعلبك.

الطريق المستقيم (طريق عرب عقيل): وهو طريق يمكن قطعه في مدة أسبوع لكونه مستقيماً، وهي الطريق التي يسلكها البريد. يبدو في ضوء النصوص أن هناك طريقاً مستقيماً بين الشام والعراق يمكن أن يقطعه المسافر عادة خلال مدة أسبوع، وكان عرب عقيل يسلكون هذا الطريق، كما أن عرب صليب يذهبون من حوران للنجف في نحو ثمانية أيام. وإذا افترضنا أن ابن زياد كتب إلى يزيد بخبر واقعة الطف مباشرة بعد انتهائها، وان البريد تحرك برسالته في ليلة الحادي عشر أو في اليوم الحادي عشر، فإنه يمكن الاحتمال، على فرض أن مدة البريد أسبوع، أن البريد وصل إلى دمشق حوالي اليوم السابع عشر من المحرم.

وإذا افترضنا أيضاً أن البريد تحرك من دمشق إلى الكوفة بجواب يزيد في نفس اليوم، فإنه من المحتمل أيضاً أنه يصلها حوالي اليوم الرابع والعشرين من المحرم. وبذلك تكون مدة بقاء الركب الحسيني في الكوفة اثني عشر يوماً.

ولعل أعداء الله ورسوله (صلى الله عليه واله وسلم) كانوا قد سلكوا ببقية الركب الحسيني في سفرهم من الكوفة إلى الشام أقصر الطرق مسافة، ذلك لأن من الطبيعي يومذاك أن يحرص كل من يزيد وابن زياد وأتباعهما الموكلين ببقية الركب الحسيني على وصول الركب في أسرع وقت ممكن، فيزيد يتلهف ليروي ظمأه إلى التشفي من أهل البيت (عليهم السلام)، أما ابن زياد فرغبة منه ليري يزيد كيف نفذ أوامره كما يحب ويرضى! أما من رافق الركب الحسيني فهم أشد لهفة للوصول إلى الشام لينالوا الجوائز.

وتجدر الإشارة أن جلاوزة ابن زياد حينما خرجوا برأس الحسين (عليه السلام) من الكوفة، كانوا يخافون من قبائل العرب أن تثور فيهم الغيرة والحميّة، فكانوا يشيعون بين القبائل أنهم يحملون رأس خارجي.

وهناك رأي آخر يفيد بأن من الأرجح أنهم تعمدوا سلوك الطريق الذي يمر بأكبر عدد ممكن من المدن والقبائل، لأن النظام في مثل هذه الحالة يستعمل الترهيب وسيلة لفرض هيبته، وهو ما يؤيده أصل الإقدام على حمل الرؤوس من بلد إلى بلد(4).

على مقربة من دمشق‏

وكان اليوم الذي أدخل فيه رأس الإمام الحسين (عليه السلام) مدينة دمشق الأول من شهر صفر.

وروى سيدنا السند علي بن طاووس (رضي الله عنه)، قال: لما قرب القوم بالرؤوس والأسارى من دمشق دنت أم كلثوم من شمر لعنه الله، وكان في جملتهم، فقالت: لي إليك حاجة، قال: وما حاجتك؟

قالت: إذا دخلت البلد فأدخلنا في درب قليل النظارة، وتقدم إلى أصحابك أن يخرجوا الرؤوس من بين المحامل وينحوها عنا فقد خزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذا الحال، فأمر في جواب سؤالها أن يجعلوا الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل بغياً منه وكفراً، وسلك بهم على تلك الحال بين النظارة حتى أتى بهم باب دمشق، فأقاموا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام السبي، فروي أن بعض الفضلاء التابعين لما شهد رأس الحسين (عليه السلام) أخفى نفسه شهراً من جميع أصحابه، فلما وجدوه بعد أن فقدوه سألوه عن سبب ذلك، فقال: أما ترون ما نزل بنا؟ ثم أنشأ يقول:

جاءوا برأسك يا ابن بنــت محمد            مترملاً بـــدمائــــه تـرمـــيلا

فكأنما بـك يا ابن بنت محـــمد            قتلوا جهـــاراً عـامــدين رســولا

قـتـلوك عطشاناً ولما يــرقبوا            في قــتـلك التـــأويل والتــنـزيلا

ويكبرون بأن قتلت وإنـــــما            قــتلوا بــك التكبــير والتهـــليلا

يا من إذا حسن العزاء عن امرئٍ            كـــان البكــــاء حسناً عليه جميلا

فبكتـك أرواح السحائــب غدوة            وبكتـــك أرواح الرياح أصيلا(5)

في ذكر ما جرى على الركب الحسيني في الشام

قال: ولم يزل القوم سائرين بحرم رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) من الكوفة إلى الشام على محامل بغير وطاء من بلد إلى بلد، ومن منزل إلى منزل كما تساق أسارى الترك والد يلم(6).

روي عن سهل بن سعد الساعدي، قال: خرجت إلى بيت المقدس حتى أتيت دمشق فرأيت أهلها قد علقوا الستور والحجب والديباج، وهم فرحون مستبشرون، وعندهم نساء يلعبن بالدفوف، فقلت في نفسي: أ لأهل الشام عيد لا نعرفه؟ فرأيت قوماً يتحدثون، فقلت: يا قوم، ألكم في الشام عيد لا نعرفه؟

قالوا: يا شيخ، نراك غريباً؟

قلت: أنا سهل بن سعد، رأيت رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وحملت حديثه، قالوا: يا سهل، ما أعجب السماء لا تمطر دماً، والأرض لم تنخسف بأهلها؟

قلت: ولم ذاك؟

قالوا: هذا رأس الحسين عترة محمد (صلى الله عليه واله وسلم) يهدى من العراق.

فقلت: وا عجباً ! يهدى رأس الحسين والناس يفرحون! قلت: من أي باب يدخل؟ فأشاروا إلى باب يقال له باب الساعات.

قال سهل: فبينا أنا كذلك إذ أقبلت الرايات يتلو بعضها بعضاً، وإذا بفارس بيده رمح منزع السنان،عليه رأس من أشبه الناس وجهاً برسول الله، وإذا من ورائه نسوة على جمال بغير وطاء، فدنوت من أولاهن فقلت لجارية منهن: من أنت؟

قالت: أنا سكينة بنت الحسين (عليه السلام).

فقلت: ألك حاجة، فأنا سهل بن سعد الساعدي، وقد رأيت جدك وسمعت حديثه؟

قالت: يا سهل، قل لصاحب الرأس أن يقدم الرأس أمامنا حتى يشتغل الناس بالنظر إليه، ولا ينظروا إلى حرم رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم).

قال سهل: فدنوت من صاحب الرأس: فقلت: هل لك أن تقضي لي حاجة وتأخذ مني أربعمائة درهم

قال: ما هي؟

قلت: تقدم الرأس أمام الحرم، ففعل ذلك فسلمت إليه الدراهم، ووضع الرأس في طشت وادخل على يزيد، فدخلت مع الناس، وكان يزيد جالساً على السرير، وعلى رأسه تاج مكلل، وحوله كثير من مشايخ قريش، فلما دخل صاحب الرأس جعل يقول:

أوقر ركابي فضة وذهبــــا            أنا قـتـلت السيد المهذبـا

قتلت خير النـــاس أماً وأبا            وخيـرهم إذ ينسبون النسبا

فقال يزيد: إذا علمت أنه خير الناس فلم قتلته؟

قال: رجوت الجائزة.

فقيل: إن يزيد أمر بقتله(7).

ما قصة الشيخ الشامي!

وروي أنهم لما دخلوا دمشق وأقاموا على درج المسجد منتظرين الإذن من يزيد حيث يقام السبي، أقبل شيخ من أهل الشام حتى دنا منهم، فقال: الحمد لله الذي قتلكم وأهلكم، وأراح العباد من رجالكم، وأمكن أمير المؤمنين منكم.

فقال له علي بن الحسين (عليه السلام): يا شيخ، هل قرأت القرآن؟

قال: نعم.

قال: قرأت هذه الآية (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)(8).

قال الشيخ: قرأت ذلك.

فقال علي بن الحسين (عليه السلام): فنحن الـقربى، يا شيخ، هل قرأت (واعلموا أنما غنمتم من شيء فــأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى((9).

قال: نعم.

قال: فنحن القربى، يا شيخ، هل قرأت (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً((10).

قال: نعم.

قال: فنحن أهل البيت الذي خصصنا به.

قال: فبقي الشيخ مبهوتاً ساعة ساكتاً نادما على ما تكلم به، ثم رفع رأسه إلى السماء، فقال: اللهم إني أتوب إليك من بغض هؤلاء القوم، ثم التفت إلى علي بن الحسين، فقال: بالله أنتم هم؟

فقال علي بن الحسين (عليه السلام): تالله إنا لنحن هم من غير شك، وحق جدنا رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم).

قال: فبكى الشيخ ورمى عمامته، ثم رفع رأسه إلى السماء، فقال: اللهم إني أبرأ إليك من عدو آل محمد من جن أو إنس، ثم قال: هل من توبة، يا ابن رسول الله؟

قال: نعم، إن تبت تاب الله عليك، وأنت معنا.

فقال: وأنا تائب، فبلغ يزيد مقالته، فأمر بقتله.

دخول السبايا على يزيد

قال: ثم ادخلوا على يزيد وهم مقرنون بالحبال، وكان أول من دخل شمر بن ذي الجو شن على يزيد بعلي بن الحسين (عليه السلام) مغلولة يده إلى عنقه، فلما وقفوا بين يديه على تلك الحال، قال له علي بن الحسين (عليه السلام): أنشدك بالله يا يزيد، ما ظنك برسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) لو رآنا على هذا الحال ما كان يصنع؟ فأمر يزيد بالحبال فقطعت، ثم وضع رأس الحسين في طشت بين يديه، وأجلس النساء خلفه كيلا ينظرون إليه، وأما زينب فإنها لما رأته نادت بصوت حزين يقرح القلوب: يا حسيناه، يا حبيب رسول الله، يا ابن مكة ومنى، ويا ابن فاطمة الزهراء سيدة النساء، يا ابن بنت المصطفى.

قال: فو الله لقد أبكت كل من في المجلس ويزيد ساكت.

ثم جعلت امرأة من بني هاشم كانت في دار يزيد تندب الحسين (عليه السلام) وتنادي: واحسيناه، واسيداه، يا ابن محمداه، يا ربيع الأرامل واليتامى، يا قتيل أولاد الأدعياء.

قال: فأبكت كل من سمعها(11).

قال: وقام من أهل الشام أحمر، فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه الجارية تعنيني.

قالت: فارتعدت وفرقت وظننت أنه يفعل ذلك، فأخذت بثياب أختي زينب، فقالت: كذبت والله ولؤمت ما ذلك لك ولا له.

فغضب يزيد، فقال: بل أنت كذبت إن ذلك لي، ولو شئت فعلته.

فقالت: كلا والله ما جعل الله ذلك لك إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا.

فقال يزيد: إياي تستقبلين بهذا؟ إنما خرج من الدين أبوك وأخوك.

فقالت: بدين الله ودين أبي وجدي اهتديت.

قال: كذبت يا عدوة الله.

قالت زينب: أمير متسلط يشتم ظلماً، ويقهر بسلطانه، اللهم إليك أشكو دون غيرك، فاستحيا يزيد وندم وسكت مطرقاً.

وأعاد الشامي فقال: يا أمير المؤمنين! هب لي هذه الجارية.

فقال يزيد: أعزب لعنك الله، ووهب لك حتفاً قاضياً، ويلك لا تقل ذلك، فهذه بنت علي وفاطمة، وهم أهل بيت لم يزالوا مبغضين لنا منذ كانوا.

قال الشامي: الحسين بن فاطمة وابن علي بن أبي طالب!!

قال: نعم.

فقال الشامي: لعنك الله يا يزيد، تقتل عترة نبيك وتسبي ذريته، والله ما توهمت إلا أنهم سبي الروم.

فقال يزيد: والله لألحقنك بهم، ثم أمر به فضربت عنقه(12).

جادلة الحق مع الباطل

قال: ثم تقدم علي بن الحسين بين يدي يزيد وقال:

لا تطمعوا أن تهينونا نكرمكم وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا، الله يعلم إنا لا نحبكم ولا نلومكم إذ لم تحبونا.

فقال يزيد: صدقت ولكن أراد أبوك وجدك أن يكونا أميرين، فالحمد لله الذي قتلهما، وسفك دمهما، ثم قال: يا علي، إن أباك قطع رحمي، وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت.

فقال علي بن الحسين (عليه السلام): (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير)(13).

فقال يزيد لابنه (خالد): اردد عليه، فلم يدر ما يقول، فقال يزيد: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير)(14).

ثم قال علي بن الحسين (عليه السلام): يا ابن معاوية وهند وصخر، إن النبوة والإمرة لم تزل لآبائي وأجدادي من قبل أن تولد، ولقد كان جدي علي بن أبي طالب يوم بدر واحد والأحزاب في يده راية رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، وأبوك وجدك في أيديهما رايات الكفار. ثم جعل صلوات الله عليه يقول:

ماذا تقولون إذ قال النبي لكم ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم

ثم قال علي بن الحسين (عليه السلام): ويلك يا يزيد لو تدري ما صنعت، وما الذي ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي إذاً لهربت في الجبال، وافترشت الرماد، ودعوت بالويل والثبور أن يكون رأس الحسين بن فاطمة وعلي ولده منصوبين على باب مدينتكم، وهو وديعة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) فيكم، فابشر بالخزي والندامة غداً إذا جمع الناس ليوم القيامة(15).

خطبة زينب (عليها السلام) في مجلس يزيد

وهناك رواية نوردها بحذف الأسانيد، قال: لما ادخل رأس الحسين (عليه السلام) وحرمه على يزيد، وكان رأس الحسين بين يديه في طشت جعل ينكت ثناياه بمخصرة في يده يقول:

ليــــت أشياخي ببدر شــهدوا            جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلـــوا واســـتهلوا فــــرحاً            ثــم قـالوا يــا يزيد لا تشـــــل

لسـت من خنــدف إن لم أنتقم            من بني أحمـــد مــا كـان فعل

فقامت زينب بنت علي فقالت: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين صدق الله كذلك يقول: (ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوء أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون)(16) أظننت يا يزيد حين أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسرى أن بنا هواناً على الله، وبك عليه كرامة؟ وان ذلك لعظيم خطرك عنده، وشمخت بأنفك، ونظرت إلى عطفك جذلان سروراً حين رأيت الدنيا مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً أنسيت قول الله سبحانه: (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين)(17) أمن العدل - يا ابن الطلقاء - تخديرك حرائرك وإمائك، وسوقك بنات المصطفى رسول الله كسبايا قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن من بلد إلى بلد يستشرفهن أهل المناهل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، وليس معهن من رجالهن ولي، ولا من حماتهن حمي، وكيف ترتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد السعداء، ونبت لحمه بدماء الشهداء؟!

وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن والأضغان، ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم.

لأهـــلوا واستــــهلوا فــــرحاً            ثــم قـــالوا يــا يـــزيد لا تشـل

منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك.

وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة، بإراقتك دماء آل محمد، وتهتف بأشياخك زعمت تناديهم؟ ولتردن وشيكاً موردهم، ولتودّنّ أنك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت.

وقالت: اللهم خذ بحقنا، وانتقم ممن ظلمنا، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا، فو الله ما فريت إلا جلدك، ولا حززت إلا لحمك، وسترد على رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) بما تحملت من سفك دماء ذريته، وانتهكت من عترته وحرمته ولحمته، وليخاصمنك حيث يجمع الله تعالى شملهم، ويلم شعثهم ويأخذ لهم بحقهم، (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون)(18).

وحسبك بالله حاكماً، وبمحمد (صلى الله عليه واله وسلم) خصيماً، وبجبرائيل ظهيراً، وسيعلم من سول لك هذا ومكنك من رقاب المسلمين أن بئس للظالمين بدلاً، وأيكم شر مكاناً وأضعف جنداً.

ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك، أني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرّى. ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنضح من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفوها أمهات الفراعل، ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدنا وشيكاً مغرماً، حين لا تجدر إلا ما قدمت يداك (وما ربك بظلام للعبيد) (19) فإلى الله المشتكى وعليه المعول.

فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فو الله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلاّ عدد، وجمعك إلاّ بدد؟ ويوم ينادي المناد: ألا لعنة الله على الظالمين.

والحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلف، إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

فقال يزيد لعنه الله: يا صيحة تعلن من صوائح ما أهون الحزن على النوائح(20).

 

خطبة الإمام السجاد في مجلس يزيد

قال: ودعا يزيد الخاطب وأمره أن يصعد المنبر ويذم الحسين وأباه (عليهما السلام)، فصعد وبالغ في سب أمير المؤمنين والحسين (عليهما السلام) والمدح لمعاوية ويزيد.

فصاح به علي بن الحسين (عليه السلام): ويلك أيها الخاطب، اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوئ مقعدك من النار.

ولقد أحسن من قال:

أعلى المنابر تعلنون بسبه وبسيفه نصبت لكم أعوادها؟

وروي: أن علي بن الحسين (عليه السلام) لما سمع ما سمع من الخاطب لعنه الله قال ليزيد: أريد لي أن اصعد المنبر فأتكلم بكلمات فيهن لله رضاً ولهؤلاء الجلساء أجر، فأبى يزيد:

فقال الناس: يا أمير المؤمنين ائذن فليصعد، فلعلنا نسمع منه شيئاً.

فقال: إنه إن صعد لم ينزل إلا بفضيحتي وبفضيحة آل أبي سفيان.

فقيل له: وما قدر ما يحسن هذا؟

فقال: إنه من أهل بيت قد زقوا العلم زقاً.

قال: فلم يزالوا به حتى أذن له، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم خطب خبطة أبكى بها العيون، وأوجل منها القلوب، ثم قال: أيها الناس، أعطينا ستاً، وفضلنا بسبع، أعطينا: العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين، وفضلنا بأن منا النبي المختار محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ومنا الصديق، ومنا الطيار، ومنا أسد الله وأسد رسوله، ومنا خيرة نساء العالمين، ومنا سبطا هذه الأمة وسيدا شباب أهل الجنة، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي.

أيها الناس، أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الرداء، أنا ابن خير من اتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا ابن خير من حج ولبى، أنا ابن من حمل على البراق في الهواء، أنا ابن من اسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابن من بلغ به جبرائيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنا فتدلى فكان من ربه قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلى بملائكة السماء، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن علي المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا: لا إله إلا الله، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) بسيفين، وطعن برمحين، وهاجر الهجرتين، وبايع البيعتين، وقاتل ببدر وحنين، ولم يكفر بالله طرفة عين.

أنا ابن صالح المؤمنين، ووارث النبيين، وقامع الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكائين، وأصبر الصابرين، وأفضل العالمين، وأفضل القائمين، من آل طه وياسين، أنا ابن المؤيد بجبرائيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، والمجاهد أعداءه الناصبين، وأفضل من مشى من قريش أجمعين، وأول من استجاب لله ولرسوله من المؤمنين، وأول السابقين، وقاصم المعتدين، ومبيد المشركين، وسهم مرامي الله على المنافقين، ولسان حكمة العابدين، وناصر دين الله، وولي أمر الله، وبستان حكمة الله وعيبة علمه. سمح سخي، بهلول زكي، مقدم همام، صبار صوام، مهذب قوام، قاطع الأصلاب، ومفرق الأحزاب، أربطهم عناناً، وأثبتهم جناناً، وأمضاهم عزيمة، وأشدهم شكيمة، أسد باسل، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنة، وقويت الأعنة، طحن الرحى، ويذروهم فيها ذري الريح الهشيم.

ليث الحجاز، وكبش العراق، مكي مدني، أبطحي تهامي، خيفي عقبي، بدري احدي، شجري مهاجري، من العرب سيدها، وفي الوغى ليثها، وارث المشعرين، وأبو السبطين، الحسن والحسين مظهر العجائب، ومفرق الكتائب، والشهاب الثاقب، والنور العاقب، أسد الله الغالب، مطلوب كل طالب، ذاك جدي علي بن أبي طالب.

ثم قال: أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيدة النساء.

فلم يزل يقول أنا، أنا حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب والأنين، وخشي يزيد اللعين أن تكون فتنة فأمر المؤذن، فقال: اقطع عليه الكلام.

فلما قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، قال (عليه السلام): الله أكبر من كل شيء.

فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال علي بن الحسين (عليه السلام) شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي.

فلما قال المؤذن: أشهد أن محمداً رسول الله، التفت علي (عليه السلام) من فوق المنبر إلى يزيد، فقال: محمد هذا جدي أم جدك، يا يزيد؟ فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت وكفرت، وإن زعمت أنه جدي فلم قتلت عترته؟

قال: وفرغ المؤذن من الأذان والإقامة، وتقدم يزيد وصلى صلاة الظهر(21).

  الحبر: سوءة لكم من أمة

قال: وروي أنه كان في مجلس يزيد حبر من أحبار اليهود، فقال من هذا الغلام، يا أمير المؤمنين؟

قال: هو علي بن الحسين.

قال: فمن الحسين؟

قال: ابن علي بن أبي طالب.

قال: فمن أمه؟

قال: فاطمة بنت محمد.

فقال الحبر: يا سبحان الله! فهذا ابن بنت نبيكم قتلتموه في هذه السرعة، بئسما خلفتموه في ذريته، لو ترك فينا موسى بن عمران سبطاً من صلبه لظننا أنا كنا نعبده من دون ربنا، وأنتم فارقتم نبيكم بالأمس فوثبتم على ابنه فقلتموه، سوءة لكم من امة.

قال: فأمر به يزيد فوجئ في حلقه ثلاثاً، فقام وهو يقول: إن شئتم فاقتلوني، وإن شئتم فذروني، فإني أجد في التوراة أن من قتل ذرية نبي لا يزال ملعوناً أبداً ما بقي، فإذا مات أصلاه الله جهنم وساءت مصيراً(22).

رسول قيصر ليزيد: أف لك ولدينك!

وروى عن زيد بن علي، وعن محمد بن الحنفية (رضي الله عنه)، عن علي بن الحسين (عليه السلام) أنه لما أتي برأس الحسين إلى يزيد لعنه الله، كان يتخذ مجالس الشرب ويأتي برأس الحسين ويضعه بين يديه ويشرب عليه، فحضر ذات يوم في مجلس يزيد رسول ملك الروم وكان من عظمائهم، فقال: يا ملك العرب، هذا رأس من؟

فقال يزيد: مالك ولهذا الرأس؟

فقال: إني إذا رجعت إلى ملكنا يسألني عن كل شيء رأيته، فأحببت أن اخبره بقصة هذا الرأس وصاحبه حتى نشاركك في السرور والفرح.

قال يزيد لعنه الله: هذا رأس الحسين بن علي بن أبي طالب.

فقال: ومن كانت أمه؟

قال: فاطمة الزهراء.

قال: بنت من؟

قال: بنت رسول الله.

فقال النصراني: أف لك ولدينك، ما من دين أخس من دينك، اعلم إني من أحفاد داود، وبيني وبينه آباء كثيرة والنصارى يعظمونني ويأخذون التراب من تحت قدمي تبركاً به لأني من أحفاد داود، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيكم، وما بينه وبين نبيكم إلا أم واحدة، فأي دين دينكم؟ ثم قال: هل سمعت بحديث كنيسة الحافر؟

فقال يزيد: قل حتى أسمع.

قال: إن بين عمان والصين بحر مسيرة سنة، ليس فيه عامر، إلا بلدة واحدة في وسط الماء، طولها ثمانون فرسخاً في ثمانين، ما على وجه الأرض بلدة أكبر منها، ومنها يحمل الكافور والياقوت، أشجارهم العود ومنهم يحمل العنبر، وهي في أيدي النصارى، لا ملك لأحد فيها من الملوك، وفي تلك البلدة كنائس كثيرة أعظمها كنيسة الحافر، في محرابها حقة من ذهب معلقة فيها حافر يقولون إنه حافر حمار كان يركبه عيسى (عليه السلام)، وقد زينوا حول الحقة من الذهب والديباج ما لا يوصف، في كل عام يقصدونها العلماء من النصارى، يطوفون بتلك الحقة ويقبلونها، ويرفعون حوائجهم إلى الله سبحانه، هذا شأنهم ودأبهم بحافر حمار يزعمون أنه حافر حمار عيسى، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيكم، فلا بارك الله فيكم، ولا في دينكم.

فقال يزيد لأصحابه: اقتلوا هذا النصراني، فإنه يفضحني إن رجع إلى بلاده فيشنع علي، فلما أحس النصراني بالقتل قال: يا يزيد، تريد أن تقتلني؟

قال: نعم.

قال: اعلم أني رأيت البارحة نبيكم في المنام وهو يقول لي: يا نصراني، أنت من أهل الجنة، فتعجبت من كلامه، وها أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم وثب إلى رأس الحسين (عليه السلام) وضمه إلى صدره، وجعل يقبله ويبكي حتى قتل رحمه الله.

وفي رواية أن النصراني اخترط سيفه وحمل على يزيد، فحال الخدم بينهما، ثم قتل على المكان وهو يقول: الشهادة، الشهادة.

هند زوجة يزيد وموقفها الخالد

وذكر أبو مخنف أن يزيد أمر بأن يصلب رأس الحسين (عليه السلام) على باب داره، وأمر بالنسوة أن يدخلوا داره، فلما دخلت النسوة دار يزيد لم تبق امرأة من آل أبي سفيان ومعاوية إلا استقبلتهن بالبكاء والصراخ والنياحة على الحسين (عليه السلام)، وألقين ما عليهن من الثياب والحلل والحلي، وأقمن المآتم ثلاثة أيام، وخرجت هند بنت عبد الله بن عامر بن كريز، امرأة يزيد مكشوفة الرأس، وكانت قبل ذلك تحت رعاية الحسين (عليه السلام) حتى شقت الستر وهي حاسرة، فوثبت إلى يزيد وهو في مجلس عام فغطاها، ثم قال: نعم فاعولي عليه - يا هند - وابكي على ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وصريخة قريش، عجل عليه ابن زياد فقتله، قتله الله. وهذا الموقف المشرف من هند قد غيّر - ولو بشكل ظاهري - معاملة يزيد لأهل بيت الرسالة، فأنزلهم في داره الخاصة، فما كان يتغدى ولا يتعشى حتى يحضر علي بن الحسين (عليه السلام) معه. وروي أنه عرض عليهم المقام بدمشق، فأبوا ذلك، فقالوا: بل ردنا إلى المدينة لأنها مهاجر جدنا.

ويذكر أن يزيد أمر بهم قبل هذه الحادثة، فانزلوا منزلاً لا يكتمهم من حر ولا من برد، فأقاموا فيه حتى تقشرت وجوههم، وكانوا مدة مقامهم في البلد ينوحون على الحسين (عليه السلام)(23).

التهيؤ للرحيل

فقال يزيد للنعمان بن بشير: جهز لهؤلاء بما يصلحهم، وابعث معهم رجلاً أميناً صالحاً، وابعث معهم خيلاً وأعواناً، ثم كساهم وحباهم وفرض لهم الأرزاق والأنزال، ثم دعا بعلي بن الحسين فقال له: لعن الله ابن مرجانه، أما والله لو كنت صاحبه ما سألني خطة إلا أعطيته إياها، ولدفعت عنه الحتف بكل ما قدرت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن قضى الله ما رأيت، فكاتبني بكل حاجة تكون لك، ثم أوصى بهم، فخرج الرسول يسايرهم فيكونون أمامه حيث لا يفوتوا بطرفه، فإذا نزلوا تنحى عنهم وتفرق هو وأصحابه كهيئة الحرس، ثم ينزل بهم حيث أراد واحدهم الوضوء، ويعرض عليهم حوائجهم ويتلطف بهم حتى دخلوا المدينة.

قال الحارث بن كعب: قالت لي فاطمة بنت علي: قلت لأختي زينب: قد وجب علينا حق هذا لحسن صحبته لنا، فهل لك أن نصله؟

قالت: والله ما لنا ما نصل به إلا أن نعطيه حلينا، فأخذت سواري ودملجي وسوار أختي ودملجها فبعثنا بها إلى الرسول واعتذرنا من قلته، وقلنا: هذا بعض جزائك لحسن صحبتك إيانا.

فقال: لو كان الذي فعلته للدنيا لكان في بعض هذا رضاي، ولكن والله ما فعلته إلا لله ولقرابتكم من رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم). (24)

النفاق ديدن الطغاة

وأقول: أن يزيداً وبينا هو ينكت ثنايا الحسين ويتمثل بشعر ابن الزبعرى: يا غراب البين ما شئت فقل، إلى آخره، وإغلاظه لزينب بنت علي بالكلام السيئ لما سأله الشامي، وقال: هب لي هذه الجارية - يعني فاطمة بنت الحسين (عليه السلام)، وقوله لعلي بن الحسين (عليه السلام): أراد أبوك وجدك أن يكونا أميرين، فالحمد لله الذي قتلهما وسفك دماءهما، وإن أباك قطع رحمي، وجهل حقي ونازعني سلطاني، إلى آخر كلامه كما أشرنا إليه من قبل، ونصب رأس الحسين (عليه السلام) على باب القرية الظالم أهلها - أعني بلدة دمشق - وإيقافه ذرية الرسول على درج المسجد كسبايا الترك والخزرج، ثم إنزاله إياهم في دار لا يصونهم من حر ولا قر حتى تقشرت وجوههم، وتغيرت ألوانهم، وأمر خطيبه أن يرقى المنبر ويتجرّأ بسبّ الإمام علي وابنه الإمام الحسين (عليهما السلام) وأمثال ذلك، ثم هو يلعن ابن زياد ويتبرّى من فعله ويتنصل من صنعه، وهل فعل اللعين ما فعل إلا بأمره وتحذيره من مخالفته؟ وهل سفك اللعين دماء أهل البيت إلا بإرغابه وإرهابه له بقوله، ومراسلته بالكتاب الذي ولاه فيه الكوفة وجمع له بينها وبين البصرة، الذي ذكرنا لما وصل إليه الخبر بتوجه مسلم بن عقيل إلى الكوفة وحثه فيه على قتله، وأمره له بإقامة الأرصاد وحفظ المسالك على الحسين، وقوله لابن زياد في كتابه: إنه قد ابتلى زمانك بالحسين من بين الأزمان، وفي هذه الكرة يعتق أو يكون رقاً عبداً كما تعبد العبيد، فاحبس على التهمة واقتل على الظنة، الوحا، الوحا، العجل، العجل.

وإنما أظهر اللعين التبرّي من فعل ابن زياد لعنه الله، خوفاً من الفتنة وتمويهاً على العامة، لأن أكثر الناس في جميع الآفاق والأصقاع أنكروا فعله الشنيع وصنعه الفظيع، ولم يكونوا راضين بفعله وما صدر عنه خصوصاً من كان حياً من الصحابة والتابعين في زمنه كسهل بن سعد الساعدي والمنهال بن عمرو، والنعمان بن بشير وأبي برزة الأسلمي، ممن سمع ورأى إكرام الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) له ولأخيه، وكذلك جميع أرباب الملل المختلفة من اليهود والنصارى، وناهيك مقال حبر اليهود ورسول ملك الروم لما شاهداه وهو ينكت ثنايا الحسين (عليه السلام) بالقضيب - كما ذكر - ولم يكن أحد من المسلمين في جميع البلاد راض بفعله إلا من استحكم النفاق في قلبه من شيعة آل أبي سفيان، بل كان أكثر أهل بيته ونسائه وبني عمه غير راضين بذلك.

روي أن عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان بن الحكم كان حاضراً عند يزيد لما وضع رأس الحسين (عليه السلام) بين يديه وعرضت عليه سبايا رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) فجعل عبد الرحمن يقول:

لهـــام بجنــــب الطف أدنى قــــرابة            من ابن زياد العبد ذي النسب الوغل

سمية أمســى نســـلها عدد الحصى            وبنت رسول الله ليســـت بـذي نـسل

فقال له يزيد: سبحان الله! أفي مثل هذا الموضع تتكلم بهذا؟ أما يسعك السكوت؟(25)

وروي أنه لما وضع رأس الحسين بين يدي يزيد فجعل ينكت ثنايا الحسين بالقضيب ويقول: لقد كان أبو عبد الله حسن المضحك، فأقبل إليه أبو برزة صاحب رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وكان حاضراً في مجلسه، وقال: ويحك يا يزيد، أتنكت بقضيبك ثغر الحسين؟ لقد أخذ قضيبك هذا من ثغره مأخذاً، أشهد لقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن، ويقول: إنهما سيدا شباب أهل الجنة، قتل الله قاتلكما ولعنه وأعد له جهنم وساءت مصيراً، أما أنت يا يزيد لتجيء يوم القيامة وعبيد الله بن زياد شفيقك، ويجيء هذا وشفيقه محمد رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، فغضب يزيد وأمر بإخراجه، فاخرج سحباً.

إرجاع السبايا إلى المدينة

ولما خشي يزيد الفتنة وانقلاب الأمر عليه، عجّل بإخراج الإِمام زين العابدين والعيال من الشام إلى وطنهم ومقرهم، ومكّنهم مما يريدون، وأمر النعمان بن بشير وجماعة معهم أن يسيروا معهم إلى المدينة مع الرفق.

ولما عرف زين العابدين الموافقة من يزيد، طلب منه الرؤوس كلها ليدفنها في محلها، فلم يتباعد يزيد عن رغبته، فدفع إليه رأس الحسين مع رؤوس أهل بيته وصحبه، فألحقها بالأبدان.

العودة إلى كربلاء

يقول الراوي: فلما ساروا من الشام قاصدين المدينة جعلوا طريقهم على أرض العراق، فلما قاربوا كربلاء، قالوا للدليل: مر بنا على طريق كربلاء.

فلما وصلوا إلى موضع المصرع وجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري وجماعة من بني هاشم، ورجالاً من آل الرسول قد وردوا لزيارة قبر الحسين، فتوافوا في وقت واحد، وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم، وأقاموا المأتم، واجتمع عليهم أهل ذلك السواد، وأقاموا على ذلك أياماً.

عن عطية العوفي قال: خرجت مع جابر بن عبد الله الأنصاري (رضي الله عنه) زائراً قبر الحسين بن علي، فلما وردنا كربلاء، دنا جابر من شاطئ الفرات، فاغتسل ثم ائتزر بإزار، وارتدى بآخر، ثم فتح صرّة فيها سعد فنثرها على بدنه، ثم لم يخط خطوة إلا ذكر الله تعالى، حتى إذا دنا من القبر.

فألمسته إياه، فخر على القبر مغشياً عليه، فرششت عليه شيئاً من الماء، فلما أفاق قال: يا حسين - ثلاثاً -.

ثم قال: حبيب لا يجيب حبيبه، ثم قال: وَأَنّى لك بالجواب؟ وقد شحطت أوداجك على اثباجك، وفرّق بين بدنك ورأسك. أشهد أنك ابن خير النبيين، وابن سيد المؤمنين، وابن حليف التقوى وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء، وابن سيد النقباء، وابن فاطمة سيدة النساء.

ومالك لا تكون هكذا؟ وقد غذتك كف سيد المرسلين، وربيت في حجر المتقين، ورضعت من ثدي الإِيمان، وفطمت بالإِسلام.

فطبت حياً وطبت ميتاً، غير أن قلوب المؤمنين غير طيبة بفراقك، ولا شاكّة في حياتك، فعليك سلام الله ورضوانه، وأشهد أنك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا.

ثم جال ببصره حول القبر وقال:

السلام عليكم أيتها الأرواح التي حلت بفناء الحسين، وأناخت برحله. أشهد أنكم أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، وجاهدتم الملحدين، وعبدتم الله حتى أتاكم اليقين. والذي بعث محمداً بالحق، لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.

فقال له عطية: كيف؟ ولم نهبط وادياً، ولم نعل جبلاً، ولم نضرب بسيف، والقوم قد فُرِّق بين رؤوسهم وأبدانهم وأُوتمت أولادهم، وأُرملت الأزواج.

فقال لي: يا عطية سمعت حبيبي رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) يقول: مَنْ أحبَّ قوماً حشر معهم، ومن أحب عمل قوم أُشْرِكَ في عملهم.

والذي بعث محمداً (صلى الله عليه واله وسلم) بالحق، إن نيتي ونية أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه.

قال علي بن الحسين: يا جابر: هَهُنَا والله قُتِلَتْ رجالنا، وذبحت أطفالنا، وسبيت نساؤنا، وحرقت خيامنا.

وأما العقيلة لما نظرت إلى بني أسد ونسائهم نادت:

يا نازلينَ بكربلا هــل عندكــم            خبـــرٌ بقتلانا وما أعــــلامه

ما حال جُثّةِ ميّتٍ في أرضكم            بقيـــتْ ثـــلاثاً لا يُزار مقامه

هذا، وبنات رسول الله تنتقل مِنْ قَبرِ أَبي عبد الله إلى قبر أَبي الفضل(26).

وفي كتاب أعيان الشيعة جاء أن يزيد عندما أمر بِرَدِّ سبايا الحسين (عليه السلام) إلى المدينة، وأرسل معهم النعمان بن بشير الأنصاري في جماعة. فلمَّا بلغوا العراق، قالوا للدليل: مُر بنا على طريق كربلاء، وكان جابر بن عبد الله الأنصاري، وجماعة من بني هاشم قد وردوا لزيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام). فبينا هُم كذلك إذ بِسَوادٍ قد طلع عليهم من ناحية الشام.

فقال جابر لعبده: اِنطلق إلى هذا السواد وآتِنَا بخبره، فإن كانوا من أصحاب عُمَر بن سعد فارجع إلينا، لعلَّنا نلجأ إلى ملجأ، وإن كان زين العابدين (عليه السلام) فأنت حُرٌّ لوجه الله تعالى.

فمضى العبد، فما أسرع أن رجع وهو يقول: يا جابر، قمْ واستقبل حرم رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، هذا زين العابدين قد جاء بِعَمَّاته وأخواته.

فقام جابر يَمشي حافي الأقدام، مكشوف الرأس، إلى أن دنا من الإمام زين العابدين (عليه السلام)، فقال (عليه السلام): (أنْتَ جَابِر؟).

فقال: نعم يا بن رسول الله.

فقال الإمام (عليه السلام): يَا جَابر هَا هُنا واللهِ قُتلت رجالُنا، وذُبحِت أطفالُنا، وسُبيَتْ نساؤنا، وحُرقَت خِيامُنا. وأما رأس الحسين عليه السلام، فروى أنه أعيد فدفن بكربلاء مع جسده الشريف صلوات الله عليه، وكان عمل الطائفة على هذا المعنى المشار إليه(27).

ورُويَ عن الإمام العسكري (عليه السلام) أنه قال: (عَلامَاتُ المؤمن خمسٌ: صلاةُ إِحدى وخمسين، وزيارةُ الأربعين، والتخَتُّم في اليمين، وتعفير الجَبين، والجهر بـ (بِسْم اللهِ الرحمن الرحيم)(28).

  العودة إلى المدينة

بقى أهل البيت ثلاثة أيام في أرض كربلاء، وبعدها توجهوا إلى المدينة قاصدين الرجوع إليها، فلما قاربوا المدينة التفت الإِمام زين العابدين إلى بشر بن حذلم وقال له: يا بشر رحم الله أباك فلقد كان شاعراً، فهل تقدر على شيء منه؟

فقال: بلى يا بن رسول الله إني لشاعر، فقال (عليه السلام): ادخل المدينة وانع الحسين (عليه السلام).

قال بشر: فركبت فرسي، وركضت حتى دخلت المدينة، فلما بلغت مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، رفعت صوتي بالبكاء وأنشدت:

يَا أهلَ يثرب لا مُقَام لَكم بِهــا            قُـتـِلَ الحسـين فأدمعي مِدْرار

الجســم منــه بكربلاء مُضَرّجٌ            والرأسُ مِنـه عَلى القَناة يُدَار

ثم قال: هذا علي بن الحسين مع عماته وأخواته قد حلوا بساحتكم، ونزلوا بفنائكم، وأنا رسوله إليكم أُعرفكم مكانه.

قال: فما بقيت في المدينة مُخدَّرة ولا محجبة إلا وبرزت من خدرها، ضاربة وجهها داعية بالويل والثبور، فلم أر باكياً أكثر من ذلك اليوم، ولا يوماً أمر على المسلمين منه.

ثم خرجت امرأة مذهولة وقالت: أيها الناعي جددت حزننا بأبي عبد الله (عليه السلام)، وخدشت منا قروحاً لما تندمل، فمن أنت يرحمك الله؟

قلت: أنا بشر بن حذلم وجهني مولاي علي بن الحسين، وهو نازل موضع كذا وكذا مع عيال أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) ونسائه.

قال: فتركوني مكاني وبادروا، فضربت فرسي حتى رجعت إليهم، فوجدت الناس قد أخذوا الطرق والمواضع، فنزلت عن فرسي وتخطيت رقاب الناس، حتى قربت من باب الفسطاط، وكان علي بن الحسين (عليهما السلام) داخلاً، فخرج ومعه خرقة يمسح بها دموعه، وخلفه خادم معه كرسي، فوضعه له وجلس عليه وهو لا يتمالك من العبرة، فارتفعت أصوات الناس بالبكاء وحنين الجواري والنساء، والناس من كل ناحية يعزونه، فضجت تلك البقعة ضجة شديدة.

فأومأ بيده أن اسكتوا، فسكنت فورتهم، فقال عليه السلام (الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، بارئ الخلائق أجمعين، الذي بعد فارتفع في السموات العلى، وقرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأمور، وفجائع الدهور، وألم الفواجع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظة الفادحة الجائحة.

أيها القوم، إن الله تعالى وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة: قتل أبو عبد الله (عليه السلام) وعترته، وسبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية.

أيها الناس، فأي رجالات منكم يسرون بعد قتله؟! أم أية عين منكم تحبس دمعها وتضن عن انهمالها؟!

فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها، والسموات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان في لجج البحار، والملائكة المقربون وأهل السموات أجمعون.

أيها الناس، أي قلب لا ينصدع لقتله؟! أم أي فؤاد لا يحن إليه؟! أم أي سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصم؟!

أيها الناس، أصبحنا مطرودين مشردين مذودين شاسعين عن الأمصار، كأننا أولاد ترك أو كابل، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، إن هذا إلا اختلاق. والله لو أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفجعها وأكظها وأفظعها وأمرها وأفدحها، فعند الله نحتسب فيما أصابنا وابلغ بنا، إنه عزيز ذو انتقام).

قال الراوي: فقام صوحان بن صعصعة بن صوحان - وكان زمناً - فاعتذر إليه صلوات الله عليه بما عنده من زمانة رجليه، فأجابه بقبول معذرته وحسن الظن به وشكر له وترحم على أبيه.

وهكذا فقد انتهت المسيرة بانتصار الفضيلة على الرذيلة، انتصار الكلمة الحرة المسؤولة على كلمة الشر والنفاق والشقاق، انتصار المظلوم على الظالم، العفو والسماحة والإباء على الغدر والحقد والإرتكاس، وبقي الإمام الحسين مناراً يقتدي به الأحرار في كل زمان ومكان، في حين أن يزيداً أضحى مضرباً لأمثال المكر والخداع والوقيعة، التي يلجأ إليها الطغاة دائماً للتحكم بالرقاب والتصرف بالبلاد حتى على حساب أشلاء الأبرياء ودماء الأوصياء!


الهوامش

(1) الملهوف على قتلى الطفوف: 207 - 208.

(2) الملهوف على قتلى الطفوف: 208 - 209.

(3) الملهوف على قتلى الطفوف.

(4) تسلية المجالس وزينة المجالس: ج2، ص373.

(5) مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي: 2ج، ص 125 - 126.

(6) مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي: 2ج، ص 55.

(7) مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي: 2ج، ص 60.

(8) سورة الشورى: الآية 23.

(9) سورة الأنفال: الآية 41.

(10) سورة الأحزاب: الآية 33.

(11) مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي: 2ج، ص 61 - 62.

(12) مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي: 2ج، ص 62.

(13) سورة الحديد: الآية 22.

(14) سورة الشورى: الآية 30.

(15) مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي: 2ج، ص 63.

(16) سورة الروم: الآية 10.

(17) سورة آل عمران: الآية 178.

(18) سورة آل عمران: الآية 169.

(19) سورة فصلت: الآية 46.

(20) مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي: 2ج، ص 64 - 66.

(21) الملهوف على قتلى الطفوف: 219.

(22) مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي: 2ج، ص 69 - 71.

(23) الملهوف على قتلى الطفوف: 219.

(24) مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي: 2ج، ص 72 - 75.

(25) مناقب ابن شهرا شوب: 4ج، ص 114. وفيه: يحيى بن الحكم.

(26) الملهوف على قتلى الطفوف.

(27) أعيان الشيعة: 1ج، ص 61.

(28) بحار الأنوار: 101ج، ص 329.

 

موقع يا زهراء سلام الله عليها لكل محبي الزهراء سلام الله عليها فلا تبخلوا علينا بآرائكم ومساهماتكم وترشيحكم كي يعلو اسمها سلام الله عليها ونعلو معه