في يوم الاثنين الموافق للثالث من شهر
شوال المكرّم 1428 للهجرة اُحييت الذكرى السادسة لرحيل المرجع
الديني،
المجدد الثاني، سلطان المؤلفين ونابغة الدهر، الفقيه المجاهد
آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي قدس سره الشريف
في مدينة قم المقدسة في حفل تأبيني ضخم أقيم في مسجد الإمام
زين العابدين سلام الله عليه الملاصق لمرقد ابن بابويه شيخ
القميين رضوان الله تعالى عليه، حضره مندوبو بيوتات المراجع
الأعلام، وضيوف من العراق والخليج، وجمع غفير من أهل العلم
والشخصيات الدينية والثقافية ومحبّي أهل البيت الأطهار سلام
الله عليهم من مختلف المدن والمحافظات الإيرانية، حيث غصّ
المسجد بهم وازدحمت الطرق المؤدّية إليه، وبقيت جموع كبيرة
خارجه بسبب الزحام تستمع إلى الخطباء عبر مكبرات الصوت
الخارجية.
بدأ الحفل بتلاوة عطرة من آي الذكر الحكيم بصوت المقرئ الأستاذ
ديدبان، ثم تحدّث عريف الحفل بعد ذلك، وقبل أن يقدّم خطباء
المجلس، ألقى كلمة مختصرة عرّف خلالها شخصية الفقيد فقال:
في مدينة الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه النجف الأشرف،
وفي بيت مرجعي ولأبٍ مرجع، ولد عام 1347 المرجع الراحل. فمن
هذا البيت برز كل من الميرزا محمد حسن الشيرازي صاحب ثورة
التبغ في ايران، والسيد محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين
في العراق، والميرزا عبد الهادي الشيرازي المرجع الأعلى في
زمانه، والسيد ميرزا مهدي الشيرازي مرجع عصره ووالد مرجعنا
الفقيد رضوان الله تعالى عليهم.
أما مرجعنا الراحل فقد تصدّى للمرجعية وحمل لواءها بعد وفاة
والده، وكان بعد شاباً في الثانية والثلاثين من عمره وذلك عام
1380 للهجرة.
وقد عُرف قدّس سره بالزهد والتقوى وبساطة العيش، كما عرف بكثرة
التآليف حيث كتب خلال ستة عقود ما يناهز الألف كتاب نذكر منها:
• دورة الفقه (في 150 مجلداً).
• مستدرك وسائل الشيعة (في 40 مجلداً).
• تقريب القرآن إلى الأذهان (في 30 مجلداً).
• شرح المكاسب (في 16 مجلداً).
إضافة إلى تأسيسه مئات المساجد والحسينيات ودور الضيافة
والمستوصفات وصناديق القرض الحسن والمدارس والمؤسسات الثقافية
ومؤسسات تزويج الشباب في مختلف أنحاء العالم.
طورد من البعثيين فاضطر للهجرة وترك العراق إلى بيروت ثم
الكويت التي أقام فيها أعواماً وغادرها أخيراً وهو في الثانية
والخمسين إلى ايران حيث نزل في مدينة السيدة فاطمة المعصومة
(قم المقدسة) وبقي فيها حتى وافته المنية في عام 1422 للهجرة،
فدفن في جوارها سلام الله عليها.
وتحدّث بعد ذلك الأستاذ الجامعي الدكتور فقيهي فقال: روي
بأسانيد مختلفة عن الإمام الصادق سلام الله عليه أنه قال: «العلماء
ورثة الأنبياء»(1)؛ فما هي الأمور
والشؤون النبوية التي ورثها العلماء؟
قال: نقرأ في القرآن الكريم: «هُوَ
الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ
لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ»(2) ونقرأ
قوله تعالى: «قُلْ هَذِهِ
سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ»(3).
ما يعني أنّ للأنبياء مهام
وشؤوناً لعلّ أبرزها:
1. تزكية الناس.
2. تعليمهم الكتب السماوية.
3. تعليمهم الحكمة.
4. الدعوة إلى الله تعالى.
• أما تزكية النفس فتتجسد بالأخلاق، كما قال رسول الله صلّى
الله عليه وآله: «إنما بعثت لأتمم
مكارم الأخلاق»(4) لأن التزكية
لها ركنان؛ الأول: مخالفة النفس، وهي مقدمة للركن الثاني وهو
التوجه إلى الله تعالى؛ قال عزّ من قائل: «قُلْ
إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ
وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ»(5).
ولقد استوعب مرجعنا الراحل هذه الرسالة تماماً فكان مضرب المثل
في الخلق عملاً، ولو عدنا إلى كتبه لرأينا أن حجماً عظيماً من
تعاليمه لها جنبة أخلاقية. فحتى فقهه وكذا سائر كتبه ذات بعد
أخلاقي سواء في الحوزة النظرية أو العملية. ما يعني أنه ورث
النبي صلّى الله عليه وآله في هذه الخصلة.
• أما تعليم الكتاب فلقد ترعرعت العلوم الإسلامية في الحوزات
الدينية وتقدّمت، ولكن المؤسف أن النصوص الدينية وعلى رأسها
القرآن لم تحظ بنفس الاهتمام. فما أكثر الشروح على كتب الفقهاء
والأصوليين ولكن التدبر في الآيات والأحاديث التي لا تقتصر
بطبيعتها على الفقه ليس بنفس النسبة. أفليس لها من الأهمية ما
تكسب الاهتمام نفسه؟!
لقد كان من خصائص مرجعنا الراحل الاهتمام بالقرآن وسائر المتون
الدينية كنهج البلاغة والصحيفة السجادية كما هو واضح من
تأليفاته أيضاً.
وهذه هي الوراثة الثانية أو الشأن الثاني الذي ورث فيه
الأنبياء وعلى رأسهم النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله؛ أعني
تعليم الكتاب.
• أما الحكمة التي بعث الأنبياء من أجل تعليمها للناس، فهي
ليست معرفة صرفة بل نوع معرفة في ظلها يهجر الفرد الأعمال
القبيحة ويتجه صوب الأعمال الحسنة، فالحكمة تعني الاستقامة في
المنطق والسلوك.
ومحور الصفات الحسنة التواضع ـ كما أوضحت ذلك الخطبة القاصعة
في نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين، حيث أبان سلام الله عليه
أن إبليس طرد بسبب صفة التكبر وأنه لا يدخل مع التكبر أحد
الجنة.
فالتواضع حصيلة الحكمة وهي المسلَحة ضد الشيطان كما عبر الإمام
سلام الله عليه أيضاً(6)، ومن ثم فهي أهم خصيصة يرثها العلماء
من الأنبياء.
ولقد كان المرجع الراحل رحمه الله مجسداً لهذه الصفة بحقّ، كما
لاحظ ذلك كل من عاشره أو زاره. ولم أسمع ان أحداً عتب عليه إثر
لقائه أبداً. وهذا يوضح أنه ورث هذه الصفة من الأنبياء أيضاً.
• أما الدعوة إلى الله، والتي ينبغي أن لا تقتصر على الدعوة
إلى أحكامه وينبغي أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة والبيان
الجميل، الأمور التي كان المرجع الراحل خير ملتزم بها، حتى
كلفته مهاجمة كثيرين له.
وأخيراً أبرز ما يستفاد من كتب الفقيد الراحل الأمور التالية:
1. التفكير برقي الشيعة ورفعتهم.
2. الدعوة إلى وحدة الشيعة وعزّتهم.
3. الدعوة إلى تأليف القلوب إلى جانب تأليف الكتب.
ارتقى المنبر بعد ذلك فضيلة الخطيب المفوّه الشيخ
صادقي القمي دام عزّه فأشاد بالحضور القوي والمشاركة الفاعلة
من قبل المؤمنين في إحياء ذكرى رحيل المرجع الشيرازي قدس سره
الشريف وقال:
إن هذه المشاركة العظيمة رغم مرور ست سنوات على رحيل مرجعنا
الغالي دليل على مدى حبّ الناس له، ومصداق لقول أمير المؤمنين
سلام الله عليه «يا كميل بن زياد
هلك خزّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر،
أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة»(7).
وأضاف: لقد كان المرجع الراحل قدس سره الشريف ورضوان الله
تعالى عليه، مؤثراً لأنه كان متأثراً بالنبي صلّى الله عليه
وآله وأهل البيت سلام الله عليهم في كل جوانب حياته، ومن تلك
الجوانب الزهد والبساطة في العيش؛ فلقد ذهبت لزيارته في أحد
الأيام فقيل لي: إن السيد مريض لا يستطيع أن يأتي لاستقبال
الزوّار، ولكن إذا شئت عليك أن تذهب بنفسك لرؤيته.
فقلت: إن لم يكن مانعٌ أفعل. فقالوا لي أنه في الطابق الأرضي،
وكانت السلالم ضيقة فاستطعت النزول بصعوبة فرأيته جالساً على
بساط متواضع جدّاً قد زال لونه من كثرة الاستعمال وقد لا تجد
مثله حتى في بيوت فقرائنا.
فجلست متعجباً وسألته: لِمَ هكذا يابن رسول الله وأنت على هذه
الحالة؟ وكان القلم بيده أيضاً، فهو لا يفارق القلم، ولقد كتب
من الجمل المفيدة بعدد أنفاسه.
وكتبه كلها مفيدة وتدرس في الحوزات أو يتداولها أهل العلم
والفضل والتحقيق ويرجعون إليها، فضلاً عن ألفه لعامة الناس في
الأخلاق والمفاهيم.
فقال لي: هكذا أفضل لأن أئمتنا كانوا يعيشون هكذا ولو أرادوا
أن يعيشوا في وضع مادي أفضل لاستطاعوا ولكنهم اختاروا الزهد
والبساطة، لنقتدي بهم. ونحن إذا ما تسامحنا وقلنا لنجلس على
فراش أفضل فربما لا يقف الأمر عند حدّ، فنحن نقتصر على القليل
لئلا نتدرج.
أجل لم يملك المرجع الراحل بيتاً أو عقاراً لنفسه ولكنه أسّس
أو بنى مئات الحسينيات والمساجد والمستوصفات والديوانيات
لقراءة التعازي الحسينية في مختلف أنحاء العالم.
في الختام نشكر الله تعالى الذين منّ علينا بخلفه سماحة المرجع
الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله
وأبناء المرجع الراحل المحققين والعلماء وأصحاب التأليف، كما
أشكر وباسم سماحة السيد صادق الشيرازي وأبناء المرجع الراحل
وآل الشيرازي عموماً كل الذين شاركوا في هذا الحفل حضوراً أو
أبرقوا، من الداخل والخارج؛ والحمد لله ربّ العالمين.
وكان مسك الختام
مراث وقصائد شجية في مصائب مولانا سيد الشهداء الإمام الحسين
صلوات الله وسلامه عليه ألقاها الرادود علي باشازاده.