كربلاء ـ مدينة سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه
السلام)، كانت وستبقى منارة مضيئة في تاريخ الإسلام والشيعة، فهي مدينة
العلم والمرجعية، والثورة ضد الطغاة منذ أن استشهد فيها سبط الرسول الأعظم
(صلى الله عليه وآله) قبل أكثر من ألف وثلاثمائة وستين عاماً.
فهي مدينة العلم والعلماء. فقد تشكلت نواة حوزتها
العلمية في مطلع القرن الرابع الهجري على يد استاذ الشيخ الكليني (حميد بن
زياد النينوي).
وقد استمرت حوزتها العلمية على يد خلفه (محمد بن علي)،
المكنى بـ (ابن حمزة) وقد تربّى على يده عدد من الفقهاء، وخلف تصانيف
قيّمة.
وقد استمرت هذه الحوزة العلمية على مدى قرون، وتألق
فيها في فترات متعاقبة فحول من العلماء والزهاد منهم: (محمد بن فهد الحلي)،
صاحب الفضائل والكرامات، وله مزار معروف بكربلاء.
وكانت ذروة تألق الحوزة العلمية في عصر العالم المؤسس
(محمد باقر الوحيد البهبهاني) الذي أرسى قواعد المدرسة الأصولية بكربلاء،
والشيخ يوسف البحراني المعروف بـ صاحب (الحدائق الناظرة) زعيم المدرسة
الأخبارية، وبقيت كربلاء محتفظة بمركزها الأول حتى وفاة (محمد شريف
العلماء) (استاذ الشيخ الأنصاري)(3)
عام 1245هـ وذلك بسبب تعرض المدينة للغارات الوهابية المتكررة، ولضغط الحكومة
العثمانية المتعصبة حيث انتقل إلى النجف الأشرف كبير تلامذة الشريف وهو
الشيخ مرتضى الأنصاري.
غير أن مدينة كربلاء المقدسة بقيت مركز جذب خاص
للعلماء المجاهدين من أمثال السيد محمد المجاهد، والشيخ محمد تقي الشيرازي،
والحاج آغا حسين القمي.
* وكربلاء ـ مدينة الثورة ضدّ الظالمين فهي قلب الشيعة
النابض في العراق منذ أيام السيد محمد المجاهد (صاحب الفتوى الشهيرة ضد
الروس)، إلى زمان الشيخ محمد تقي الشيرازي قائد (ثورة العشرين)، في العصر
الأخير إلى أيام السيد حسين القمي قائد الثورة ضد بهلوي الأول قبيل الحرب
العالمية الثانية.
وبسبب الدور الذي كانت تقوم به هذه المدينة المقدسة
عبر التاريخ تعرضت لاجتياح (الجند التركي) العثماني مرتين، ولاجتياح
(الوهابيين) مرتين.. ولاجتياح (الجند البريطاني) في ثورة العشرين.. وأخيراً
لاجتياح (الحرس الجمهوري) في انتفاضة الخامس عشر من شعبان قبل عشر سنين.
بعد مقاومة دامت أسبوعين كاملين.
ودائماً كانت مدينة كربلاء تعاقب على مواقفها الثورية
بمختلف أنواع العقوبات الظالمة.. غير أن المدينة كانت تستلهم روح المقاومة
والرفض من روح الحسين الشهيد التي تخيّم على المدينة وأهلها أينما حلّوا
وارتحلوا على وجه البسيطة..
وإذا كانت الكتب قد سجلت دور كربلاء في مقاومة (الظلم
العثماني) و(الحكم الانجليزي) بشكل مفصّل... إلا أن تاريخ كربلاء الحديث لم
يسجّل بعد..
وتاريخ كربلاء الحديث يبدأ.. بقيادة الإمام السيد محمد
الشيرازي النجل الأكبر لآية الله العظمى الميرزا مهدي الشيرازي.. وهو تاريخ
جهاد ونهضة دينية وثقافية وحضارية لا تزال تتفاعل وتستمر..
ولا ريب أن مهندس تلك النهضة وقائدها هو الإمام السيد
محمد الشيرازي (رضوان الله عليه). ولقد تسلم القيادة الروحية والمرجعية
الدينية للمدينة منذ رحيل والده المقدس الميرزا مهدي الشيرازي (رضوان الله
عليه) وعمره لم يكن يتجاوز الثالثة والثلاثين سنة. عام 1380هـ. وفي خلال
عشر سنين غير معالم المدينة. وبعث فيها نهضة دينية وعلمية وسياسية لا تزال
مستمرة في عروق أبنائها المنتشرين في شتى بقاع الأرض.
فراح يستنهض في الأمة روح الإيمان والتقوى والجهاد
والعمل الصالح وخدمة المستضعفين، وذلك عبر الخطاب الجماهيري. والكتاب
الجماهيري، وإقدامه العملي في جميع مجالات العمل الصالح.
وكان له في كل أسبوع ثلاث محاضرات توجيهية عامة،
إحداها لعموم المجتمع. والأخرى لطلبة العلوم الدينية. والثالثة لطلبة
الجامعات العراقية ممن كان يزور الحسين (عليه السلام) في يوم الجمعة.
كما أسس في جميع المساجد هيئات دورية لتوعية الجيل
الصاعد من الشباب وقد بنى فيها جيلاً من الشباب المؤمن الملتزم الواعي، وهم
الذين وقفوا سدّاً منيعاً ضدّ تيار الأحزاب الإلحادية الوافدة.
وفي هذا المجال أسس (مدرسة الإمام الصادق (عليه
السلام)) بالتعاون مع جمع من علماء المدينة، كما أسس (مدارس حفاظ القرآن
الكريم) للبنين والبنات، وقد كانت هذه المدارس مركزاً للتربية والعمل
والنشاط الإسلامي في المدينة.
كما أسس هيئة (للتبليغ السيّار) وكانت تقوم بزيارة
دورية للقرى والأرياف المحيطة بالمدينة للتوعية والإرشاد.
وبهذا الصدد بنى العشرات من المساجد والحسينيات ورمّم
أكثر مساجد المدينة وحسينياتهها. وأقام صلاة الجماعة في كل مسجد بتعيين
الأئمة فيها.
* كان الإمام الشيرازي يفكر في بعث روح الإسلام في
نفوس أبناء المدينة على نهج الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ولذلك كان
يتتبع خطواته في تشجيع العلم والعلماء والتعليم، وبهذه الروح بعث في
المدينة نهضة ثقافية شاملة. وذلك بتأسيس ما لا يقل عن عشرة مجلات ثقافية
كمجلة (الأخلاق والآداب) و(صوت المبلغين) و(القرآن يهدي) (نداء الإسلام)
و(أعلام الشيعة) و(صوت العترة) و(ذكريات المعصومين) و(صوت الإسلام) و(منابع
الثقافة الإسلامية) و(مبادئ الإسلام) باللغة الانجليزية.
كما أسس (مكتبة القرآن الكريم) العامة، (والمكتبة
الجعفرية). وعشرات المكتبات الصغيرة الأخرى.. كما ساعد في تأسيس (مطبعة أهل
البيت).
(وقد أسس الإمام الشيرازي لهذا الغرض (إذاعة) دينية
خاصة بالمدينة (بالامكانات المتوفرة لديه) وذلك عبر مكبرات الصوت المنتشرة
حوالي الحرمين الشريفين الحسين (عليه السلام)، وأخيه العباس (عليه السلام).
وكان لهذه الإذاعة المحلية دور كبير في توجيه ملايين الزوار الوافدين في
عيدي الأضحى والفطر وفي عرفة وعاشوراء والأربعين بالإضافة إلى أهل المدينة.
* وفي المجال الحضاري أسس جملة من المؤسسات مثل
(مستوصف القرآن الحكيم) و(النادي الإسلامي) و(المدرسة الصناعية) و(لجنة
تشغيل العاطلين) و(صندوق قرض الحسنة).. الخ.
كما كان له الدور الكبير في الضغط على الحكومات
المتعاقبة للاهتمام بعمران المدينة وتوسعتها وترميم آثارها.. الخ. ولم يكن
يكتفي في هذا المجال بالضغط والمطالبة بل كان يقوم بانجاز ما يستطيع انجازه
من ذلك عبر العمل الشعبي وعلى يد الأهالي أنفسهم..
ومع مرور الأيام أصبح (بيت الشيرازي) قلب المدينة
النابض. و(موئل) المجتمع، و(أمل) المواطنين، وموضع شكوى المظلومين.
وقد عبر عن هذه الحقيقة محافظ كربلاء آنذاك في حوار مع
أحد وجهاء المدينة. قال: أنا هنا مجرد موقع معاملات، أما ملك كربلاء المطاع
فهو (محمد الشيرازي).
لقد كان فعلاً قلب المدينة النابض بالروح والحركة يشهد
لذلك صلاة الجماعة التي كان يقيمها في الصحن الحسيني الشريف والتي كانت من
أكبر صلوات الجماعة في الطائفة، كما أن صلاة العيد التي كان يؤمها في الصحن
الشريف كانت أكبر صلاة جماعة للمسلمين بعد الحرمين الشريفين بمكة والمدينة
حيث كان يمتلأ صحن الحسين (عليه السلام) بالمصلين الوافدين إلى كربلاء من
كل أنحاء العراق.
وقد كان الكثير من العلماء والفضلاء يأتون إلى كربلاء
يوم العيد من النجف الأشرف لكي يشتركوا في صلاة العيد للإمام الشيرازي.
وقد اعتمد الإمام الشيرازي في نهضته الدينية ـ
الثقافية ـ الحضارية على إخوانه آل الشيرازي. وعلى آل القزويني، وآل الفالي
وآل المدرسي.. وخطباء كربلاء المعروفين وخصوصاً الشيخ عبد الزهراء الكعبي،
والشيخ حمزة الزبيدي وآخرين.
ولم يكن طريق الإمام الشيرازي في هذه النهضة مفروشاً
بالورود بل أنها نمت وترعرعت في ظروف بالغة الصعوبة والتعقيد، وبإيقاع ثوري
جهادي ضد الحكومات الظالمة المتعاقبة، وفي ظل جو من المطاردة والاعتقال
لأنصاره وأعوانه ومريديه، حتى أنه لم يفلت من الاعتقال أغلب أعوانه مرة أو
مرتين على الأقل، وحكم على بعضهم بالإعدام مما سنذكر تفصيله بعد قليل. |