ملامح نهضوية من فكر الإمام الشيرازي
عندما ندرس تاريخ التوجهات والمشاريع النهضوية نلاحظ أن كثيراً منها قد فشل ولم
يستطع أن يصمد في مواجهة المصاعب والعقبات التي وضعت أمامه، وكان ذلك نتيجة لفقدان
مقومات عدة، أبرزها النظرية الشمولية والتكاملية في المشروع النهضوي، إذ إن أي
مشروع بقدر شموليته وسعته يلتف الـــناس حوله، ويســتقطب الجماهير بالقدر الذي يسعى
هو لاستقطابهم به، وهو ما نجده في ثنايا مشروع الإمام الشيرازي النهضوي حيث نلاحظ
وبصورة واضحة أنه يتسع ليس فقط للأمة الإسلامية فحسب، بل وأيضاً للمجتمعات التي لا
تدين بالإسلام كدين ورسالة إلهية.
تمتلك المدرسة الشيرازية المتجسدة بالمشروع النهضوي للإمام الشيرازي الراحل ومنهجية
سماحة المرجع الديني السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) نظرية معرفية تعي ظروف
العصر ومتطلباته، فهي تمتلك رؤية اجتماعية وسياسية وقانونية تأخذ بعين الاعتبار
المتغيرات الزمنية، وترتكز على ثوابت إسلامية استمدت من عمق الدين الإسلامي وتجارب
النجاح والفشل التي مرت بها أمتنا الإسلامية عبر تاريخها الطويل.
لقد امتلك الإمام الشيرازي برؤيته الثاقبة وبعد نظره مقومات الفقيه الذي يحقق
النقلة التي نحتاجها كأمة تريد إعادة حضارتها وإثبات جدارتها في عصر العواصف
السياسية والفتن الاجتماعية،إذ إنه عبَّر بمشروعه عن روح التشريع الإسلامي في أرقى
صوره التقدمية التي تواكب التطورات، وتؤسس لنقلات تطورية أخرى، إذ إن الروح
الإسلامية لا تقبل الجمود، ولا تجمد أمام التخلف، بل هي الحركة الدائمة الواعية
المبنية على الثوابت الشرعية والقادرة على رفد التطورات الزمنية بروح ومباني
التشريع، فالإسلام كمنهج لا يعني الجمود على الثوابت وتثبيت المتغيرات، بل هو
الانطلاق من الثوابت لوعي وأسلمة المتغيرات، وهذا ما يميز فكر ومشروع الإمام
الشيرازي عن غيره.
يحظى الجانب السياسي في مشروع الإمام الشيرازي النهضوي باهتمام كبير جداً، إذ يعده
من الأولويات التي يجب أن يقوم بها الفقيه ويمارسها كما يمارس نشاطه في جوانب
الاستنباط والتدريس وغيرها. لذا فإن الحديث عن رؤية الإمام الشيرازي لأوضاع أمتنا
الإسلامية يجعلنا نقف معجبين بقدرته العميقة على الإحاطة بفهم هذه الأوضاع، إذ إنه
وعى جيداً الحالة العامة ومن جميع زواياها وأبعادها، ولهذا فقد طرح علاجاً يتناول
جميع أبعاد التخلف. من جهة أنه يرى أن التخلف الذي تعيشه أمتنا ليس ذا بعد واحد بل
هو ذو أبعاد مختلفة.
إن أعظم دعائم النهضة الحضارية لأي أمة هو الوعي وانتشار الثقافة، إذ إنها ترسم
خطاً فكرياً وسلوكياً، يدعو إلى تخطي العقبات في سبيل الوصول إلى الأهداف العامة
التي تؤمن بها الأمة، ولأن الثقافة الإسلامية هي التي تؤسس وحدة فكرية تتبعها وحدة
في الميادين العملية في إطار الأصول العامة، اعتبرها الإمام الشيرازي الراحل أهم
المرتكزات التي تدعو الأمة إلى النهوض وبناء الحضارة، لذا يقول: «الثقافة هي التي
ترسم للأجيال مسيرتها، وهي التي تحدد طريقة تعامل الأمة مع الأحداث والوقائع، وهي
التي تعين مستقبل الأمة». فـالثقافة الإسلامية الأصيلة تجعل الأمة تسير سيراً
متميزاً في الحياة فكراً وعملاً.
إن الثقافة الإسلامية الأصيلة مرتكز هام في التوحيد وبناء مجد الأمة، لأن انتشارها
يؤدي إلى صياغة نفسية أبناء الأمة وتوحيدها للوصول إلى الأهداف العليا التي قامت
الثقافة بزرعها في النفوس وتغذيتها بالوعي والتخطيط السليم والثقافة ليست ذات بعد
واحد، بل هي متعددة الأبعاد، وهذا يعني أن العمل الثقافي يجب أن يؤسس على مراعاة
هذه التعددية، ومع رفد وبلورة نظرية ثقافية متعددة الأبعاد تستمد روحها من وعي
التشريع وانتشارها بين أبناء الأمة نكون قد بدأنا الخطوة الأولى والمهمة في سلم
النهضة الحضارية الشاملة، يقول (قدس سره): «إن الواجب أن توحد الجهود ونعيد وحدتنا
ووحدة أمتنا، أما كيف ذلك؟ فيأتي في تعميم الوعي الإسلامي العقائدي والاقتصادي
والسياسي والشرائعي والاجتماعي والتربوي والعسكري والزراعي والصناعي والاستقلالي».
إن التخلف الذي تعاني منه الأمة الإسلامية قد سيطر على جميع المجالات الحياتية وهذا
يعني أن الثقافة الإسلامية التي تؤسس الأسس للنهضة الفكرية والحضارية يجب أن تمد
أجنحتها في جميع هذه الأبعاد، إذ إن النهضة هي حركة المجموع وليست عملاً نخبوياً
تقوم به فئة من الأمة، فإن إشراك جميع الفئات والطاقات والكفاءات أمر مهم لإنجاحها،
لكننا يجب أن نراعي أفضل السبل لاستثمار هذه الكفاءات في الحركة العامة للنهضة،
وذلك لا يكون إلا عبر إيجاد وفتح قنوات تحتوي ذلك كله وتقوم بتوظيفه في رفد حركة
أمتنا الناهضة.
يمتاز الإمام الشيرازي بنظرية متكاملة تسعى لصبغ الطابع العام للفاعليات الحياتية
والعامة في الأمة بهذه الصبغة، إذ إنه في المجال القيادي المرجعي يؤمن بنظرية شورى
الفقهاء المراجع، التي تعبر عن فهم عميق للأسس والمبادئ الشرعية للدين الإسلامي،
حيث وردت كثير من الروايات التي تحث على هذا المبدأ وتطبيقه في الحياة العامة
والخاصة للناس، يقول (قدس سره): يحب الإسلام (الاستشارة) في كل شيء حتى في الأمور
الصغيرة، قال الله سبحانه: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا
وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}. أي أن أحد الأبوين إذا أراد فطام الطفل عن
الرضاع فعليه أن يستشير الآخر حول ذلك. ولهذا فإن التنظيم يجب أن يكون استشارياً من
القمة إلى القاعدة، أما قانون الاستبداد فليس إلا قانون المستعمرين المستبدين.
يعتبر الإمام الشيرازي الراحل من كبارالمنظرين للحركة السلمية، إذ إنه يدعو إلى
السلام باعتباره مبدأ ينطلق أولاً من الفكر الإسلامي وثانياً من الطبيعة السوية
والمستقيمة للإنسان، لأن العنف لا يمثل الطبيعة السوية للإنسان، ولذا فإن النظرية
السياسية التي يطرحها (قدس سره) في كتبه وبحوثه ودراساته هي السلام، فالسلام عنده:
هدف وغاية من جهة، وهو وسيلة وطريقة من جهة أخرى. أي إن السلام مبدأ استراتيجي شامل
وفي هذا الإطار يقرر (قدس سره) الشعارات التالية:
(السلام دائماً)، (السلام ضمانة بقاء المبدأ)، (السلام أحمد عاقبة)، (السلام قولاً
وفعلاً وكتابة وفي كل موقع ومع كل الناس). فالسلام بهذه السعة لا يشكل هاجساً
مخيفاً كما قد يتصور البعض، وإنما هو رؤية سياسية كاملة. وإذا اعتمدنا السلم قاعدة
عملية دائمة فإننا نتمكن بإذن الله تعالى من إيجاد تيار عام لحركة إسلامية صحيحة
تكون مقدمة لإنقاذ البلاد الإسلامية من المستعمرين والديكتاتوريين ولإقامة حكم الله
تعالى لألف مليون مسلم.
إن أهم ركائز قيام النهضة الإسلامية كان ولا يزال هو السلام، إذ إن سيرة الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم) كانت حافلة بأمثلة تدل على أن المبدأ العام الذي اتخذه
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في جميع أفعاله وأقواله هو السلام باعتباره حركة
تدعو الجميع إلى الثقة والاطمئنان وبالتالي تقديم المساعدة لدفع الحركة السلمية،
وقد قال تعالى في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي
السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة : 208]. لذا فإن السلام عند الإمام الشيرازي هو فكر
استراتيجي وليس تكتيكاً، إذ إنه يرى العمل السلمي أمراً مرغوباً فيه في جميع
الحالات، وليس استثناءً. لأن ذلك يؤدي إلى أفضل النتائج، فالحركة الإسلامية (عليها
أولاً) أن تبدأ بجمع الأنصار والتنظيم والتوعية، ثم تسقط الأنظمة الظالمة والمستبدة
بالإضرابات والمظاهرات والتمردات، وإذا اضطرت إلى الحرب، فلا تبدأ بها لتكون لها
الحجة على المعتدي أمام العالم وإن أمكن فتدفع الحرب بالطرق السلمية، وإذا لم تنفع
الطرق السلمية، تجعل العمل الحربي ربعاً للحرب، وثلاثة أرباع للحلول السلمية.
ويرى الإمام الشيرازي الراحل أن من الواجب علينا أن نلقن أنفسنا السلام الدائم
والعطف حتى نحو الأعداء، حتى نهديهم إلى الصراط المستقيم، وقد روي عن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا اشتد أذى قومه له كان يقول: (اللهم اهدِ قومي
فإنهم لا يعلمون) ولم يكن يدعو عليهم وإنما كان يدعو لهدايتهم، وبالنتيجة نجح رسول
الله ذلك النجاح المنقطع النظير في كل العالم.
إن مبدأ وغاية النهضة عند الإمام الشيرازي الراحل وعبر العديد من رؤاه وأفكاره هو
السلام لكونه أقوى العوامل التي تدعو النفوس الخائفة إلى الاطمئنان والثقة، خاصة
ونحن نلاحظ بوادر حالة العنف التي تسود المجتمعات الإسلامية والعالم أجمع، إذ إن
العنف لا يولد إلا العنف مما يبعد النفوس التي تنشد الاطمئنان عن هذا الحزب أو ذلك
التنظيم، وعندها تكون النتيجة عكسية، إذ تؤدي حالة العنف التي لا تستند إلى الفعل
والمنطق السليم إلى انتكاس المشاريع النهضوية والتطورية في العالم الإسلامي. ويرى
(أعلى الله درجاته) «إن الشخصية الإسلامية في بعديها الاجتماعي والفردي لا بد من
صياغتها بحيث يستمد التكوين النفسي العام مقوماته الموضوعية ذات الطابع السلمي من
الأطر الإيديولوجية والثقافية والتاريخية لهذه الأمة، كي يكون ذلك أقوى دعائم قيام
الحركة العامة في سبيل الوصول للنهضة الإسلامية المنشودة».
|