الكلمة الخامسة لسماحة المرجع الشيرازي دام ظله: الفضيلة العظمى

 

في ليالي شهر رمضان العظيم 1441 للهجرة

قال الله عزّ وجلّ في القرآن الحكيم: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً) سورة الفتح: الآية1

صدر عن رسول الله صلى الله عليه وآله في فتح مكّة أمور هي قمّة الفضيلة والعقل، وواحدة منها ما أذكره في حديث الليلة، مما ورد في مختلف التواريخ، ومنها ما ذكره العلاّمة المجلسي رضوان الله عليه في بحار الأنوار، وهي:

النبيّ يستعير من المشرك!

جاءت الأخبار لرسول الله صلى الله عليه وآله بأنّ قوماً من المشركين تحرّكوا ويريدون أن يحملوا على الإسلام وعلى رسول الإسلام وعلى المسلمين. فأراد رسول الله صلى الله عليه وآله كعادته دائماً أن يبعث للدفاع لا للهجوم، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله في طول تاريخه، كانت كل حروبه دفاعية، ولم تسجّل حرب في تاريخ رسول الله صلى الله عليه وآله بدون دفاع. وقد احتاج رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الدروع ليلبسها المسلمون الذين يذهبون للدفاع. وكان صفوان بن أميّة مركزاً للمعدّات الحربية في ذلك اليوم، وأراد رسول الله صلى الله عليه وآله أن يأخذ منه بعض الدروع. والنقطة التي أذكرها هنا هي عديمة النظير في تاريخ البشر، إذا قرأنا موقف صفوان بن أميّة مع رسول الله صلى الله عليه وآله قرابة عشرين سنة، حيث كان موقفاً سلبياً شديداً في تأجيج الحروب على رسول الله صلى الله عليه وآله من قبل صفوان، وكذلك الحروب النفسية وتعذيب المسلمين والتشجيع على تعذيب المسلمين لما كان رسول الله صلى الله عليه وآله في مكّة المكرّمة. وهكذا قرأنا قدرة رسول الله صلى الله عليه وآله في فتح مكّة المكرّمة بأنّه صلى الله عليه وآله كان بإمكانه أن يصنع كل شيء، ولكن مع ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله كما في الأحاديث الشريفة عن أهل البيت صلوات الله عليهم وكما في مطلق التواريخ، قال لصفوان نحن بحاجة إلى مجموعة من الدروع للدفاع. فقال صفوان: يامحمّد! أغصباً؟ يعني تريدها منّي بالإجبار وتجبرني على أن أعطيك؟ فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله: لا، بل عاريّة مضمونة.

الفرق بين الأمانة والعاريّة

في الأحكام الإسلامية، هناك فرق بين الأمانة والعاريّة. فالأمانة أن يعطي شخص لشخص شيئاً كأمانة، والأمين لا يجوز له أن يتصرّف في الأمانة، بل مجرّد يحفظها. وأمّا العاريّة فهي بمعنى أن يعطي شخص لشخص شيئاً يتصرّف فيه ثم بعد ذلك يرجع هذه العاريّة إلى صاحبها. فالعاريّة يُتصرّف فيها. وفي الحكم الشرعي إذا تلفت الأمانة من غير تفريط من الأمين، لا يكون الأخير ضامناً، وهكذا في العاريّة، حيث الحكم الشرعي انّه إذا أخذ شخص عاريّة من شخص مثل عباءة يلبسها، أو كتاباً ليقرأه، أو سيفاً ودرعاً ليلبسه في الحرب الدفاعية، ثم حدث شيئاً بما أخذه من دون تقصير من الأمين والمستعير، فهذا ليس ضامناً. ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله في هذه القصّة قال لصفوان بن أميّة: بل عاريّة مضمونة. والعارية لا تضمن ولكن قال رسول الله صلى الله عليه وآله أنا ضامن لهذه العاريّة، أي إذا حدث نقص فيها أو خرق أو أيّ شيء آخر في هذه الدروع، فأنا ضامن لأن أعوّضك عن ذلك.

من قوانين الإسلام

هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وآله صار قانوناً في الإسلام كما قال أهل البيت صلوات الله عليهم، أي قانوناً في العاريّة. فالعاريّة لا تضمن، ولكن إن اشترط الضمان تكون مضمونة، وذلك لقول رسول الله عليه وآله: عاريّة مضمونة. فأين تجد مثل هذا الأمر؟ ففي أيّة حرب وفي أيّة مقابلة تقع بين أمّتين أو مجموعتين، تنتهي بإراقة الدماء وإلى الأسر، ثم تظفر إحداها على الأخرى، لا تجد مصادرة للأموال؟ وأين تجد مثل هذا في التاريخ؟

في التعامل مع المشرك الحربي

أمّا رسول الله صلى الله عليه وآله لم يصادر أموال صفوان بن أميّة فقط، بل طلبه منه أن يعطيه. ولو أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله أخذ من صفوان بالقوّة لكان أمراً طبيعياً، فهذا من قانون الحرب. فصفوان حارب رسول الله صلى الله عليه وآله عشرين سنة، وبإمكان رسول الله صلى الله عليه وآله أن يأخذ من صفوان أمواله، وهذا الأمر جار في التاريخ، وموجود، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يصادر شيئاً من أموال صفوان، وعندما يطلب صلى الله عليه وآله من صفوان العاريّة، والعاريّة لا تضمن، يؤكّد رسول الله صلى الله عليه وآله على الضمان، ويكون هذا الأمر مفتتح حكم شرعي، لأنّ ما يقوله رسول الله صلى الله عليه وآله هو تشريع وحكم إلهي، فهو صلى الله عليه وآله: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) سورة النجم: الآيتان 3و4. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله لصفوان: بل عاريّة مضمونة، وصفوان كان لا يزال مشركاً وعلى شركه ولم يسلم بعد.

من ويلات الثورات والانقلابات

لقد قرأنا وقرأتم في الكتب عن الثورات والانقلابات، ولكن نحن عشنا ورأينا في العراق في ثورة 1958، أنّه كم صادروا من الأموال، وهكذا في غيرها من الثورات التي حدثت خلال النصف من القرن الماضي، وأنا عشته وأتذكّره. فكلما حدث انقلاب أو ثورة، رأينا مصادرة لأموال الطرف المقابل بالعشرات والعشرات، بل صادروا حتى أموال المنتسبين إليهم، كأخ الطرف أو عمّه أو خاله أو عمّته أو خالته، أو ابن عمّه أو ابن عمّته أو ابن خاله أو ابن خالته، أو صديقه، أو عامل عنده. ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله في فتح مكّة المكرّمة وبعد قرابة عشرين سنة من شتى أنواع الحروب السلاحية والنفسية وغيرها من المشركين في مكّة المكرّمة مع رسول الله صلى الله عليه وآله، ومع ذلك لم يصادر رسول الله صلى الله عليه وآله حتى درهماً واحداً ولا حتى ديناراً واحداً، ولم ينقل التاريخ أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قد قام بهذا العمل.

فضيلة عظمى بلا نظير

أليست هذه فضيلة عظمى بلا نظير في التاريخ؟ وأليست هذه مداراة إنسانية؟ وألا يلزم نشر هذه الفضيلة ليتعلّم البشر من رسول الله صلى الله عليه وآله في مستقبل التاريخ؟ بلى، ينبغي أكيداً للجميع.

إنّ هذه القصة، من العديد من القصص، لا نظير لها في التايخ، وأقولها بملئ فمي وبكل جرأة لا نظير لها، سوى عند أمير المؤمنين صلوات الله عليه وهو نفس رسول الله صلى الله عليه وآله كما يقول القرآن الكريم. فلا نجد مثلها أبداً، في التاريخ الماضي والتاريخ المعاصر. فأين تجد في حرب تقع بين فئتين، ثم تظفر إحداها على الأخرى ولم تصادر شيئاً من المغلوبة؟

وجوب نشر فضائل النبيّ

هذه القصّة، وهذا النوع من تعامل رسول الله صلى الله عليه وآله، يجب على المسلمين نشره، وخصوصاً الشباب الغيارى في البلاد الإسلامية وفي البلاد غير الإسلامية، وأن ينشروا هذه القصّة بالبلاغ المبين كما يؤكّد القرآن الكريم. علماً أنّه لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله من مكّة المكرّمة إلى المدينة المنوّرة، ولم تكن بعد أيّة حرب، ولم يصدر من رسول الله صلى الله عليه وآله شيء سلبي، ولكنهم صادروا دار سكنى النبيّ صلى الله عليه وآله أي التي كان يسكن فيها. فالمصادرة شيء عادي في الحروب، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله في هذا الموقف بعد قرابة عشرين سنة من الحروب المفروضة عليه التي كان فيها رسول الله صلى الله عليه وآله في موقف الدفاع فقط وفقط، ومع ذلك كله، تعامل صلى الله عليه وآله تلك المعاملة الحسنة مع صفون بن أميّة، على ما صدر من صفوان خلال العشرين سنّة المشار إليها.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفّق الجميع، خصوصاً الشباب الغيارى، لأداء هذا الواجب الكفائي الذي لا كفاية فيه اليوم، وأصبح واجباً عينياً.

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.
 

موقع يازهراء سلام الله عليها يهتم بكل جديد ينفع في خدمة أهل البيت سلام الله عليهم كي نرقى ونسمو في افكارنا وآراءنا فلا تبخلوا علينا في افكاركم وآراءكم