مصطلحات ومفاهيم: الأحزاب..

 

تجمع الأحزاب أفراداً متشابهين تقريباً في أوضاعهم الاجتماعية-الاقتصادية، وانتماءاتهم الدينية، وموقفهم من العالم ورؤيتهم له. في الوقت نفسه، تضعهم في مواجهة الذين يتميّزون عنهم بالنظر للمعايير نفسها. وفي الحالتين، تساهم الأحزاب في ((بناء)) الحقل السياسي، محددة هي نفسها الرهانات، وعارضة نفسها على الأفراد كرموز إيجابية أو سلبية.

لابد من الإضافة أن الأحزاب في التراث الديمقراطي اندمجت طويلاً بفئات كانت تعترض الإرادة العامة. وأخيراً، حتى في المجتمعات التعددية، يخضع نشاط الأحزاب إلى بعض الحدود، وبخاصة فيما يتعلق بالتنافس الذي تمارسه على بعضها البعض وعليها كذلك أن تقبل قانونا عاما هو قاعدة الاغلبية..ليس للاحزاب في الانظمة التعددية البنية نفسها ولا الوظائف نفسها التي لها في الانظمة  الكليانية أو في الأنظمة الاستبدادية. وحتى في الأنظمة التعددية، تظهر الأحزاب بسمات مختلفة حسب البلدان. فالأحزاب على النمط الفرنسي تختلف عن الأحزاب على النمط الأمريكي أو الإنكليزي.

تستنتج هذه النقطة الأخيرة من التمييز المقترح من قبل توكفيل بين أحزاب ((كبيرة)) وأحزاب ((صغيرة)). هذه الفئة الثانية تنقسم بدورها إلى فئتين اثنتين: النوادي البرلمانية التي تقدم لأصحاب الطموح، بواسطة التناوب الذي تقيمه بين ((المركز)) الوطني و((الأطراف)) المتشكلة من الوجهاء المحليين، الوسائل للوصول إلى أعلى الوظائف الوزارية؛ والطلائع الثورية التي، وهي تدّعي أنها تتحرك باسم ((الشعب)) أو ((الطبقة العاملة))، لا تشعر أنها ملزمة بغاية أخرى غير نجاح مشروعها. وهكذا يستنتج توكفيل ضمنياً شرطين ضروريين لعمل الأحزاب في نظام تعددي: قاعدة، معبّرة عن ((مطلب اجتماعي)) تعمل أكثر من اللجان الانتخابية وأفضل منها، وقبول قواعد اللعبة التي تحدد طموحاتها. وثمة أطروحة أخرى، هي كذلك ضمنية قي تحليل توكفيل، وهي أنه ثمة في الولايات المتحدة مكان ((للأحزاب الكبرى))، في حين أن طبيعة اللعبة السياسية في فرنسا تقضي بألا تكون ألاحزاب الفرنسية سوى ((أحزاب صغيرة))، أي إما أن تكون تكتلات برلمانية وإما أن تكون زمراً ثورية. هذه النظرة المرتبطة بالكره لفرنسا التي يتسم بها توكفيل، تتجاهل التطورات السياسية اللاحقة- التي أدت إلى قيام ((الأحزاب الجماهيرية)) ومؤخراً إلى الأحزاب الممثلة لقطاعات واسعة من الشعب.

 لقد قام ماكس فيبر (weber)، بوصف هذا التطور الذي يشدد فيه على سمتين اثنتين فكلما منح حق الانتخاب بشكل أوسع، كلما تنحت النوادي واللجان لمصلحة تنظيمات يضطر قادتها للتوجه إلى جمهور يسيطر فيه العنصر الشعبي. وبالترابط مع هذا التوسع للسوق السياسية، نلاحظ تبدلاً في ((طراز)) القادة. فغوغائية الزعيم الريادي- جلادستون (gladstone)، دزرائيلي (disraeli)- التي تدعو ببلاغتها إلى بدائل بسيطة في شكل خيارات خلقية، تحلّ محل حذر القادة البرلمانيين.

يوحي فيبر أنه ثمة مفارقة في أن يكون حزب المحافظين الإنكليزي هو أول حزب جماهيري في التاريخ الأوروبي. وبالفعل، كان دزرائيلي هو الذي أوصى عمداً عام 1873 بتوسع كثيف في حق الاقتراع، دون الوصول إلى مبدأ الاستفتاء الشامل الذي أقر في فرنسا منذ 1848، والذي أعاد، على أسس هذه الحرية الانتخابية الواسعة جداً، تنظيم حزب توري (tory) القديم. والحال أن يميّز حزباً جماهيرياً حقيقياً، ليس فقط الأصل الاجتماعي لناخبيه ومؤيديه أو المنتسبين إليه، وإنما كذلك أصل قادته وتوجهاتهم.

إن فكرة توكفيل عن ((الحزب الكبير)) لا تشمل إذن فكرة ((الحزب الجماهيري)). وفي كلا الحالتين، صحيح أن قدرة الدمج والتمثيل لدى الحزب بارزة بقوة، لكن ((الحزب الجماهيري)) يملك توجهاً ((شعبوياً)) ليس موجوداً في الأحزاب المحافظة الكبيرة (الحزب الجمهوري الأمريكي، حزب المحافظين الإنكليزي). فضلاً عن ذلك، تمارس الأحزاب الجماهيرية (مثل الديمقراطية- الاجتماعية الألمانية أو النمساوية، حتى الاستيلاء على السلطة من قبل الوطنيين- الاشتراكيين) وظيفة التأطير بواسطة النقابات، والرابطات المختلفة التي تشرف عليها، في حين أن الأحزاب الكبيرة على الطراز الأميركي هي ماكينات انتخابية تهمد إثر انتهاء الانتخابات. ثمة إذن أحزاب محافظة- أو أحزاب يمينية أيضاً- هي أحزاب كبيرة في المعنى الذي قصده توكفيل، دون أن تكون أحزاباً ((شعبوية)) أو ((جماهيرية)) أو ((تأطيرية)).

إن المقارنة بين الأنماط المختلفة للأحزاب تقود إلى تفحص العلاقات بين التركيب الاجتماعي والتنظيم والاستراتيجية- هذه المتغيرات الثلاثة التي يسمح التنسيق بينها بوصف الأحزاب على أفضل وجه. وبالفعل، إنها تتميز عن بعضها، بوضوح تقريباً، في الأصل الاجتماعي لناخبيها. ولكن الأحزاب الأميركية، ذات القاعدة التي تظهر غالباً مختلطة إلى حد كبير، لديها أنصار متميزون: ذات صبغة ريفية بالنسبة للجمهوريين، وذات صبغة ((أثنية)) بالنسبة للديمقراطيين، وأكثر برجوازية لدى الجمهوريين مما هم لدى الديمقراطيين. يوجد كذلك ناخبون ديمقراطيون في البيئة الريفية، وأناس من ذوي الدخل المتوسط والمتدني قابلين للتصويت لصالح الجمهوريين، وكذلك سود ويهود لا يعطون أصواتهم للحزب الديموقراطي. فالأصل الاجتماعي لعناصر أحد الأحزاب لا يكفي لوصفه، لذا نحن مدعوون لتمييز الأصل الاجتماعي للناخبين والحزبيين والقادة. ((فالأحزاب العالمية)) لا تحتكر التمثيل العمالي، حتى وإن كانت الأصوات التي يحصل عليها الاشتراكيون والشيوعيون، أو الاشتراكيون وحدهم، تجمع منذ وقت طويل في أوروبا الغربية ثلثي أصوات العمال تقريباً..

 إن العلاقة بين أصل القادة والحزبيين والناخبيين متوسطة التعقيد، فباستثناء الأحزاب المدافعة عن الملاك العقاريين (agrariens)، التي نمت ما بين الحريبن العالميتين في أوروبا الشرقية ولاسيما في بولونيا ورومانيا، ليس ثمة حزب واحد هو صورة أو انعكاس لطبقة أو ((لفئة)) محددة تماماً. في الواقع، إن تعبير الانعكاس يدخل عدة حالات غموض أساسية. أولاً، إنه يفترض تماثلاً جوهرياً بين الناخبين الحزبيين والقادة من جهة، و((قاعدة)) اجتماعية غامضة يكون الحزب المعبر عنها من جهة أخرى. ذلك أن هذه ((القاعدة))؛ أبعد من أن تكون معطى، وإنما هي ((مبنية)) إلى حد كبير، بجهد القادة الذين يسعون بصورة منهجية إلى ملاءمة برامجهم مع توجهات الناخبين الذي يعتبر اقتراعهم ضرورياً لنجاح هؤلاء. ثانياً، إن تعبير الانعكاس الذي يفترض تحديداً دقيقاً للسياسات الحزبية بواسطة طبيعة المصالح التي تسعى إلى تحققها من خلال هذه السياسات، يفشل في تفهم ظاهرة الاقتراع المتأرجح الذي يؤمن للأنظمة التعددية حداً أدنى من المرونة والحساسية.

أما فيما يتعلق بتنظيم الأحزاب. فإنها تتغيرفي الزمان والمكان. وقد اعتبر فيبر (weber) أنه اكتشف قانوناً مؤشراً قد يؤمن تغلب الأحزاب الجماهيرية على التكتلات والنوادي البرلمانية. ولكن إذا تفحصنا نظاماً بعينه، نلمس أن مختلف الأحزاب منظمة وفقاً لمبادئ مختلفة.  في شتى الأحوال، لا يمكن للتنظيم الحزبي أن يستمر إلا إذا توصل إلى تجييش التعاطف، والحض على الانتساب، وخلق الأنصار أو المحافظة عليها (النقابات أو التجمعات المهنية). واخيراً، أياً تكن الأهداف التي يتبناها، وأيّاً تكن الموارد التي تتوفر له، فإن كل حزب هو تنظيم، أي مجموعة اجتماعية متميزة مع أوضاع ومسؤوليات تسلسلية. هذه البنية الأوليغارشية التي أشار إليها ميشيلز (michels) تميل إلى إعادة إنتاج نفسها بفضل أصوات الاختيار والترقي اللذين يؤمنان تفوّقاً بارزاً لمعايير الأقدمية. ان مايميز الحزب الكلياني، ليس النزعة الاوليغارشية، وإنما رفض كل تعددية وكل منافسة، بما أن الحزب الكلياني يتماهى في الدولة..

إن استراتيجية الأحزاب لا ترتبط فقط بالأصل الاجتماعي لأعضائها، أو بالطريقة التي جرى فيها تنظيم صلاحيات القادة ومسؤولياتهم. وإنما ترتبط كذلك بأغراض قادتها وبالعلاقة بين مشاريعهم والبيئة التي تمارس عليها فعلها. فالأحزاب ذات النزعة الطوباوية القوية تطور استراتيجيات مختلفة عن استراتيجيات الأحزاب التي تقبل نفسية المجتمع الذي تمارس فهي نشاطاتها، فضلاً عن ذلك، يمكننا التمييز بين الاستراتيجيات الحزبية وبواسطة سلسلتين من المعايير تتعلق الأولى منها بالاستيلاء على السلطة- إلا فيما يتعلق بالأحزاب الكليانية من النوع الستاليني، وكان هتلر قد وصل إلى حكم الرايخ الألماني على أثر انتخابات منتصرة- يعني بادئ ذي بدء الفوز في الانتخابات، ويمكننا وصف الاستراتيجية الانتخابية لهذه الأحزاب بأنها ممثلة لفئات واسعة من الشعب. فهي تقوم على مضاعفة الوعود لمختلف فئات المصالح تبعاً لوزنها الانتخابي، ولكن بناء لثلاثة شروط. ينبغي المحافظة بين هذه الوعود المختلفة على حد أدنى من الإنسجام. ينبغي من ثم ألا تظهر غير واقعية بشكل جذري. وأخيراً يقتضي أن يكون ممكناً إقامة تمايز هامشي من قبل الناخبين بين البرامح، مهما تكن متقاربة، لكي يتمكن المتنافسون من تحاشي الإتهام بأنهم لا يتميزون عن بعضهم في شيء.

ثمة عنصر استراتيجي آخر يتعلق باعتدال الأحزاب، بعد فوزها في الانتخابات. ففي الأنظمة التعددية، على الناخبين أن يقدموا على خيار سياسي أكثر مما يقدمون على خيار اجتماعي, جتى ولو كانت غرفة العموم البريطانية تستطيع كل شيء، نظرياً، ((إلا تحويل رجل إلى امرأة))، فإن حزب الأكثرية لا يمارس سلطته إلا في حدود ضيقة. وتمارس تجاوزات الحزب المنتصر بصورة رئيسية إذا لم يكن حصراً في مجال المنافع أو الوظائف العامة.

بمواجهة هذه الاستراتيجيات المعتدلة للاستيلاء على السلطة وممارستها، نتعرف على استراتيجيات عنيفة، تعامل الحزب وكأنه أداة للقطيعة مع النظام القديم وللسيطرة أو الديكتاتورية. ترتبط إمكانية استراتيجية معتدلة في نهاية المطاف، بوضع المعارضة وبوجود ممارسة دستورية مقبولة ومعترف بشرعيتها. والمطلوب هو وجود قاعدة للعبة، وأن تكون هذه القاعدة مقبولة باعتبارها محايدة بالنسبة لمصالح اللاعبين، أو إذا شئنا، أن تكون فرص الربح المتاحة امام كل فريق ماسلوية لدى الجميع ..ولكي يكون الامر كذلك لايمكن ان تكون بنى المراهنات من أي نوع كان. ينبغي أن يكون الخاسرون مضمونين ضد خطر خسارة كل شيء- تحت طائلة اللجوء بسبب خسارتهم في صناديق الاقتراع، إلى وسائل لا تعود متفقة مع ((قواعد اللعبة)).

 

 

 

 

 

موقع يا زهراء سلام الله عليها لكل محبي الزهراء سلام الله عليها فلا تبخلوا علينا بآرائكم ومساهماتكم وترشيحكم كي يعلو اسمها سلام الله عليها ونعلو معها