ولاهمية هذا المنعطف، فقد اتخذه المسلمون بعد رحلة الرسول الكريم
(ص) تاريخا لهم، ولذلك حق علينا ان نحتفي براس السنة الهجرية من كل
عام (الاول من ربيع الاول) والذي يمثل الهجرة النبوية الشريفة،
لنقف عند تلك المحطات الاساسية والمعاني السامية التي مثلها هذا
الحدث التاريخي الهام.
وان اول ما يتبادر الى الاذهان، ونحن نستذكر حدث الهجرة النبوية
الشريفة، هو طبيعة (الدولة) التي اقامها رسول الله (ص) في يثرب،
وهي المدينة التي هاجر اليها رسول الله (ص) وبقية المسلمين، والتي
سميت فيما بعد بالمدينة المنورة، تيمنا باختيار الرسول الكريم لها
لتكون محطته التاريخية لاقامة دولة الحق والعدل، لينطلق منها نور
الاسلام ليشع على البشرية كلها.
وبكلمة واحدة يمكننا القول بان (دولة المدينة) قامت على اساس الاية
الكريمة التي وصف فيها رب العزة رسوله الكريم بقوله عز من قائل
{وانك لعلى خلق عظيم} وبالتاسيس على قوله (ص) { انما بعثت لاتمم
مكارم الاخلاق} اي ان هذه الدولة قامت على اساس (الاخلاق) التي
تادب بها رسول الله (ص) بقوله {ادبني ربي فاحسن تاديبي} وهو الشئ
الذي امرنا رسول الله (ص) ان نمتثل اليه كما في قوله (ص) {تخلقوا
باخلاق الله} وقوله {ان المؤمن ياخذ بادب الله}.
ولقد غطت اخلاق الرسول الكريم كل مناحي الحياة، السياسية والفكرية
والثقافية والاجتماعية وغيرها.
ولو تصفحنا اوراق التاريخ المتعلق بـ (دولة المدينة) لرايناها انها
قامت على منظومة من هذه الاخلاق التي تحدث عنها القرآن الكريم
ورسول الله (ص) والتي تقف على راسها:
اولا: العلم، فهي دولة علمية تعتمد العلم في التخطيط والتنفيذ
والتطوير على مختلف الاصعدة، السياسية والعمرانية والادارية
والاقتصادية وغيرها، كما انها تعتمد العلم في وضع الرجل المناسب في
المكان المناسب، وتعتمد العلم في الاستفادة من تجارب الانسانية،
ولذلك قال (ص) {اطلبوا العلم ولو بالصين}.
انها دولة اعتمدت العلم كاساس، فرفضت الجهل والتجهيل والتضليل، كما
انها رفضت الخرافات والخزعبلات وثقافة الاحلام وغير ذلك من الامور
التي تبقي المجتمع جاهلا لا يفقه او يفهم شيئا.
ولقد وردت العديد من آيات القرآن الكريم تتحدث عن البعد العلمي في
الرسالة المحمدية كما في قوله تعالى {ويعلمكم الكتاب والحكمة
ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} وقوله {واتقوا الله ويعلمكم الله}
وقوله {ويعلمك من تاويل الاحاديث} وقوله {ن والقلم وما يسطرون} وهو
قسم باقدس ادوات العلم.
اما رسول الله (ص) فقد قال بهذا الصدد {طلب العلم فريضة على كل
مسلم ومسلمة} وقوله (ص) {انما يدرك الخير كله بالعقل ولا دين من لا
عقل له} وبه قرن بين الدين والعقل، اي بين الدين والعلم، ليكون
العلم وتنشيط العقل والتفكر صنو الدين، فمن لا علم وعقل له لا دين
له، لانه بذلك سيعبد الله على سبعين حرفا.
ثانيا: الصدق والاخلاص، فبالصدق يعبد الانسان ربه وبالاخلاص يصدق
مع ربه ونفسه والناس جميعا، ولذلك فليس غريبا ان كان عرب الجاهلية
ينعتون رسول الله (ص) قبل البعثة بـ {الصادق الامين} لشدة صدقه
واخلاصه فيما ينجز، ليس مع الله فحسب، وانما حتى مع غيرالمسلم.
ان (دولة المدينة) قامت على اساس الصدق، الذي يعني ان يتعامل
الحاكم بوضوح وشفافية واخلاص مع كل رعايا الدولة، بغض النظر عن
دينهم واثنيتهم واصلهم، فلا يؤثر نفسه على الاخرين ولا يميز اقاربه
عن الباقين من الناس، ولا يقدم شرار خلقه على خيار خلق آخرين، وهو
لا يكذب عليهم ولا يغشهم، فلقد اخرج الرسول الكريم (ص) (المسلم)
الذي يغش الناس في معاملاته من ملة المسلمين بقوله {من غش ليس
منا}.
لقد تحدث القرآن الكريم عن الصدق والاخلاص في اكثر من آية كريمة،
كما في قوله تعالى {وجعلوا لله مما ذرا من الحرث والانعام نصيبا
فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل الى
الله وما كان لله فهو يصل الى شركائهم ساء ما يحكمون}.
اما رسول الله (ص) فقد قال بهذا الصدد { لا تعمل شيئا من الخير
رئاءا، ولا تدعه حياء}.
ان المجتمع الصادق والمخلص يكون قريبا من اقامة سلطة الحق والعدل،
والعكس هو الصحيح، فالمجتمع الذي يغرق في الكذب والدجل والتزوير
والغش والفساد يفشل في تحقيق العدل حتى بابسط صور ه.
ثالثا: حق الناس اولا، ففي (دولة المدينة) لكل امرء حق فيها، بغض
النظر عن دينه ومذهبه واثنيته، فحقوق الرعية واجبة على الراعي،
كائنا من كانت الرعية، ولا يطمئن الناس على حقوقهم الا اذا عمل
الحاكم على تطبيق القانون على نفسه اولا، وعلى الاقربين منه، والا
فما فائدة ان يطبق الحاكم القانون على الناس، الفقراء والبسطاء
والضعفاء، فيما يفلت الاقوياء من جماعته من سلطة القانون؟ لذلك حرص
رسول الله (ص) على ان يطبق القانون، الشريعة هنا، على نفسه اولا،
ولعل في الرواية التاريخية المؤكدة ما يدلل على ذلك، تقول الرواية:
خرج النبي (ص) اثناء مرضه الاخير بين الفضل بن العباس وعلي بن ابي
طالب حتى جلس على المنبر ثم قال:
ايها الناس من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت
شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه، ومن اخذت له مالا فهذا مالي
فلياخذ منه، ولا يخشى الشحناء من قبلي فانها ليست من شأني، الا ان
احبكم الي من اخذ مني حقا ان كان له او حللني فلقيت ربي وانا طيب
النفس.
ولقد كان رسول الله (ص) يرفض الشفاعة في تنفيذ القانون للصالح
العام، فلقد جئ اليه بالمراة المخزومية التي سرقت ليقيم عليها
الحد، فاراد بعض الصحابة ان يشفعوا لها لانها حديثة عهد بالاسلام،
وارسلوا اليه اسامة بن زيد في ذلك فغضب النبي (ص) وقال له:
انما اهلك الذين قبلكم انهم كانوا اذا سرق فيهم الشريف تركوه، واذا
سرق فيهم الضعيف اقاموا عليه الحد، وايم الله لو ان فاطمة بنت محمد
سرقت لقطعت يدها.
لقد فسدت مجتمعاتنا (الاسلامية) لان الحاكم وزبانيته وقبيلته
ومحازبيه فوق القانون، فيما يسحق هذا القانون الضعفاء والمساكين
اذا سرق احدهم لقمة اراد ان يطعم بها صغاره الذين يتضورون جوعا كل
ليلة قبل ان يخلدوا الى النوم، فاي حق يقيمه مثل هذا المجتمع؟ واي
عدل؟.
رابعا: التسامح، ونبذ العنف والارهاب وسياسات الفرض والاكراه
والجبر، فالرسول الكريم (ص) مذكرا من قبل الله تعالى وليس مسيطرا،
اولم يقل رب العزة في كتابه الكريم {انما انت مذكر * لست عليهم
بمسيطر}؟ لان السيطرة خلاف الحرية، وان العبودية خلاف المسؤولية،
ولذلك لم يجبر رسول الله (ص) احدا على الاسلام طوال حياته، كما
يذكر ذلك المرجع المحقق آية الله العظمى السيد صادق الحسيني
الشيرازي، دام ظله الوارف.
وتتعزز اهمية وضرورة التسامح عند الاختلاف، ومن اجل ان نتجاوز
حالات الاحتقان والاقتتال والفرقة عند الاختلاف، يتعين علينا ان
نعمق من مفهوم التسامح في المجتمع، ولا يتحقق ذلك الا بتبني
المبادئ التالية:
الف: عدم احتكار الحقيقة، والذي نقراه في آيات عديدة منها قوله
تعالى {وانا او اياكم لعلى هدى او في ضلال مبين} وكذلك في قوله
تعالى {ولا تبخسوا الناس اشياءهم ولا تعثوا في الارض مفسدين} وفي
قول رسول الله (ص) {من لا انصاف له لا دين له}.
فاذا كان كل فرد في المجتمع يتصور انه صاحب الحق المطلق وانه دون
الاخرين يمتلك ناصية الحقيقة، فان اي اختلاف في وجهات النظر لا
يمكن ان نتصور له نهاية الا بالاقتتال الفوضوي والعبثي.
باء: فن الاصغاء، والذي يشرعنه قول الله عز وجل في كتابه العزيز
{الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه اولئك الذين هداهم الله واولئك
هم اولوا الالباب} فالى متى نظل نثرثر في الكلام من دون ان نحدث
انفسنا ان نتعلم فن الاصغاء للاخرين ولو لمرة واحدة؟ يجب ان يكون
الكلام والاصغاء متساويان في حياتنا لنحقق مبدا الحوار البناء،
والا فالحديث فقط الذي يشبه الثرثرة لا ينتج عدلا او حقا.
جيم: احترام الاخر، كما في قوله تعالى {ولا تسبوا الذين يدعون من
دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل امة عملهم ثم
الى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون} وكذلك في قوله عز وجل
{فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من
حولك فاعف عنهم واستغفر لهم}.
اما رسول الله (ص) فقد قال {انكم لن تسعوا الناس باموالكم ولكن
يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق} وكذلك قوله (ص) يوصي بغير المسلم
{من آذى ذميا فقد آذاني} وقوله (ص) {من آذى ذميا فانا خصيمه يوم
القيامة} وقوله (ص) {