صحابة منتجبون .. أبو ذر الغفاري  (1- 3)

 

 

صلابة إيمانه ومواقفه السياسية والمجتمعية


هو الصحابي الجليل، العبد الزاهد، صادق القول والعمل، الداعي الى الحق، والرافض للظلم والإنحراف، أبو ذر، جندب بن جنادة الغفاري، من قبيلة غفار العربية المضريَّة الكنانية، التي اشتهرت بصلابتها، وكانت مساكنها على طريق القوافل التجارية بين مكة والشام، وقبل أن يعلن أبو ذر الغفاري إسلامه، كان متجهاً بقلبه لله، معتقداً بوجود الإله الواحد، رافضاً عبادة الأصنام، وقد كان في ذلك صادقا وشجاعا.
وقد عرف أبو ذر بمجاهرته بالحق وثباته عليه، منذ إشهاره إسلامه، وهو الأمر الذي عرّضه لكثير من الأذى من قبل المشركين، كما كان مؤمنا ورعاَ، ومن السابقين للإسلام، وكان أحد الرجال الذين إختصوا بحب رسول الله لهم، وتشّرف بصحبته وخدمته وتقريبه اليه، وخصّه بمكانة رفيعة، وأوصاف بديعة، كان يغبطه عليها سواه من الصحابة.

قصة إسلامه
أسلم أبو ذر بمكة، وكان من أوائل الناس الذين دخلوا إلى الإسلام، إذ كان أمر الدعوة لا زال سرّيا، وقد روت مصادر السيرة قصة إسلامه، إذ قدم الى مكة المكرمة للقاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بعد أن سمع بأمر النبوة، وأراد التيقن من ذلك بنفسه، وكان لا يعرف مكان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، ولا كيف السبيل اليه، إذ كانت قريش تبطش بمن يلتقي الرسول الأعظم.
فصادف أن وجده الإمام علي بن أبي طالب حائرا في المسجد، وذلك من ألطاف الله عزل وجل، ليلتقي أبو ذر قدوته في الحياة، ونبراسه في السلوك الإنساني، قال تعالى (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى)، فهذه اللقاءات التي قد يظن أنها تحصل صدفة، ولكنها بقدر، فجمعه الله بهذه الشخصية القائدة، سيد العدالة الإنسانية.
فاستضافه أمير المؤمنين في بيته، حتى رتّب إليه اللقاء الآمن، فتقدم أمامه يحميه ويوجهه، وصحبه بنفسه الى الرسول الأكرم، فدخل أبو ذر مسلّما على رسول الله بتحية الإسلام، قائلا "السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته"، فكان أبو ذر أول من حيَّا الرسول بتحية الإسلام، ثم شاعت وعمَّت بعد ذلك، فأسلم في ساعته، وكان المسلمون لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة، على رأي مجمع عليه.
وأمر رسول الله أبا ذر أن يعود الى أهله ويكتم إسلامه، حتى يظهر الله دينه فيقدم إليهم في مكة، لكنّه قال: "يا رسول الله، والله لأصرخن بها بين أظهرهم"، فتعرض بذلك الى القمع والإذى، وكادوا أن يقتلوه، لولا عناية الله، إذ منعهم العباس بن عبد المطلب عنه، وحذّرهم أن يقتلوا رجلاً تمرّ طريق تجارتهم على قبيلته، فسلم منهم، وفي ذلك حكمة تحسب لعمّ الرسول الأعظم.
وقد كرر أبو ذر ذلك بجرأة في اليوم الثاني، فكان أول موقف، يعلن فيه أبو ذر مبكرا، عن صدق إيمانه، وقوة شكيمته وشجاعته، ومقدرته في الصبر، من أجل المجاهرة بالحق، وإثبات تمسكه بدينه وإسلامه، وقد استمر بهذا السلوك والسيرة، وصلابة الإيمان، يقدّم بذلك الدرس للمسلمين، في حاضرهم ومستقبلهم، حتى وفاته بعز وإباء.

مواقفه في الحياة
وعندما هاجر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة، أقبل عليه أبو ذر مع من أسلم من قبيلتي غفار وأسلم، ففرح به النبي الكريم وقال، "غفّار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله"، كما قال لأبي ذر، "ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء، من ذي لهجة، أصدق ولا أوفى، من أبي ذر"، ويقصد بالخضراء السماء، وبالغبراء الأرض.
فانقطع أبو ذر إلى خدمة وصحبة رسول الله، فنعم بها في المدينة، وأخذ ينهل من تعاليم الإسلام وآدابه حتى وفاة الرسول الأعظم(ص)، فلم يتقبل سير الوقائع والأحداث، وشكل التحول السياسي والإجتماعي في دولة الإسلام، لتكون محطته التالية في الشام، وهناك من يرى أن سبب انتقاله الى الشام لأنه آثر عدم المقام في المدينة، حرصا منه على سلامة دولة الإسلام، وأمنها المجتمعي، لكن ما كان لأبي ذر ليترك المدينة، مهاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومسجده، ومجاورة قبره، اختياراً، ويذهب إلى الشام، فيجاور بني أميّة، وإنما خرج إلى الشام منفياً، فأنتقل إلى بادية الشام، حيث منفاه القسري أو الإختياري، على قولين، لا فرق في مخرجاتهما، وأقام فيها طوال فترة الخلافتين الأولى والثانية، وكان في ذلك يثبت موقفا سياسيا، في إعلان الرفض السلمي، لشكل التحولالت السياسية الجارية، حيث يعتقد أنها لا تنسجم والمصلحة العليا للإسلام، فضلاً أنها تجانب الحقوق والإنصاف.ليمثل بذلك المعارضة السياسية السلمية.
ثم تطور موقفه الممانع بعد إقامة الخلافة الثالثة، ليشكل طليعة التيار السياسي والإجتماعي، الكادح الزاهد، والداعي الى ثقافة النزاهة، في إدارة الدولة وبيت المال، والمقاوم لحالات الفساد السياسي والمالي، والمعارض لسياسة الدولة القائمة، والرافض للغنى الفاحش، وسلطة المال وسطوته، وبوادر ظهور الطبقة المترفة "الأرستقراطية"، في مجتمع المدينة، وإنتشارها الى الأمصار، فآمن أنها تتقاطع والعقيدة الإسلامية، المنسجمة مع مبادئه وسلوكياته، وما نهل عن رسول الله من تربية وثقافة وتعليم، حيث لاذ بذلك في ظل خيمة ومدرسة الإمام أمير المؤمنين، مستنيرا بفكره، ومتبعا له في مبدئيته ومنهاجه، وسلوكياته في الحياة والعمل، وصلاح العقيدة والإيمان، والثبات على الحق.

رؤيته ورفضه للإنحراف المجتمعي
عرف أبو ذر بزهده في الدنيا وتفضيله الفقراء على نفسه، وأثناء خلافة عثمان بن عفان، حيث كان لازال في منفاه في بلاد الشام، رأى أبو ذر ظهور فوارق طبقية في المجتمع الإسلامي، لا تنسجم وعقيدة الإسلام وشرعته، من خلال وجود تفاوت بين الأغنياء والفقراء، بين الترف والبذخ من جهة، والفاقة والعوز من أخرى، وقد أدان في ذلك معاوية أمير الشام، وحملّه المسؤولية في هذا الإنحراف، مع طبقته من الحزب الأموي، الذي بات ذا سطوة ونفوذ في الدولة، فأخذ على عاتقه مهمة دعوة الناس للزهد، وحث الأغنياء على منح الفقراء حقوقهم، التي ضمنها لهم الإسلام، والتنازل لهم عمّا زاد عن حاجتهم، ضمن تعاليم الإسلام في التكافل الإجتماعي، مستعيناً ومستدلا بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
وبات أبو ذر يكشف بجرأة، فساد الولاة والأمراء، الذين يستغلون مناصبهم ومواقعهم، لمصالحهم الشخصية، دون خدمة الناس، التي هي أصل واجباتهم، التي إئتمنهم الناس عليها، الأمر الذي أغضب معاوية والطبقة الملتفة حوله، فأبلغ عثمان بذلك، بحجّة أنه يفسد أهل الشام على طاعة أميرهم ودولتهم، وهذا هو ديدن الحكام الطغاة في التأريخ، في إتهامهم لمعارضيهم ودعاة الإصلاح، بدعوى إفساد الدولة والناس، (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربّه إني أخاف أن يبدّل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد).
فجرى إستدعاء أبي ذر الى المدينة، إذ تصور مراجع التراث، دخوله المسجد بمفرده، بضعفه الظاهري البائن، ونزوعه الى السلم، مع قوة إيمانه الكامنة، بأنه كان كالدبابة، "بمعنى الكتيبة المسلحة"، صارخا "أموت وينهزمون"، إذ دافع عن موقفه، ولم يتراجع عنه، مبينا أن الأغنياء تزداد أموالهم عن حاجتهم، بينما الفقراء معدمون، وأن المترفين يستغلون نفوذهم في الدولة، ومكانتهم في المجتمع، لتحقيق مصالحهم الشخصية.
فأجابه عثمان أنه لا يستطيع أن يجبر الناس على الزهد، خاصة وأنهم يدفعوا أموال الزكاة المفروضة عليهم، ولكن أبو ذر يرى، أن أموال الزكاة وحدها لا تكفي، طالما أنه لا يزال هناك فقر في المجتمع، فعندما وجده عثمان مصراً على مواقفه، أمره بالانتقال إلى الربذة، إحدى ضواحي المدينة، فأقام في منفاه القاسي، زاهداً في الدنيا وما فيها، متمسكا بما آمن به، وظل بها حتى وفاته، لتكون الأخرى صرخة في وجه ظالميه.

موقع يازهراء سلام الله عليها يهتم بكل جديد ينفع في خدمة أهل البيت سلام الله عليهم كي نرقى ونسمو في افكارنا وآراءنا فلا تبخلوا علينا في افكاركم وآراءكم