العراق لا يصلحه إلا أبناؤه

كلمة لسماحة المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي دام ظله

بسم الله الرحمن الرحيم

أنا لي شوق كثير للعتبات المقدسة وزيارة وجوار الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه في النجف الأشرف، وزيارة وجوار الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس سلام الله عليهما في كربلاء المقدسة، وزيارة وجوار الإمامين الكاظمين سلام الله عليهما في مدينة الكاظمية المشرفة، وزيارة وجوار الإمامين العسكريين سلام الله عليهما ومحل غيبة بقية الله الإمام الحجة المنتظر سلام الله عليه وعجل الله تعالى فرجه الشريف في مدينة سامراء المشرفة؛ وأعدّ الأيام بل الساعات حتى أوفق للتشرف والإقامة هناك في تلك المدن المقدسة. ستزول بإذن الله بقايا الوعكة الصحية التي ألمّت بي فإن صحتي الآن في تحسن ولله الحمد، وسأكون بينكم إن شاء الله في العراق الحبيب عراق أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين.
إنني متفائل بمستقبل العراق. أما هذه المشكلات المعاصرة فمثلها كمثل من يريد كنس البيت، فإن الكنس يكون للتنظيف ولكن يرافقه غبار، فهذه المشكلات مثل الغبار والأتربة التي ترافق الكنس تكون مقدمة للنظافة لا للوساخة.
وهذه المشكلات في البداية طبيعية لبلد كالعراق عاش عقوداً مظلمة وصعبة وقليلة النظير إن لم نقل عديمة النظير في التاريخ، أو في تاريخ العراق على الأقل. فالأمر بحاجة إلى صبر ومضي فترة حتى ينعم الجميع إن شاء الله بأنواع النعم في جوار أهل البيت سلام الله عليهم وعند مراقدهم المقدسة، وإنني متفائل جداً بذلك.
أما التكتلات والأحزاب والهيئات والانقسامات الموجودة اليوم فهذه يجب أن توظّف في البناء لا الهدم، كما رأينا ذلك في ظلّ حكومة رسول الله وأمير المؤمنين سلام الله عليهما.
لقد كان الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه يرأس أكبر وأقوى حكومة على وجه الأرض، فإن الرقعة التي كان يحكمها الإمام كانت تضمّ قرابة خمسين دولة من الدول المعاصرة كالعراق وسوريا والحجاز، وكانت أقوى حكومة في العالم يومذاك. لا وجود عندنا اليوم لحكومة هي الأكبر والأقوى في آن معاً. فهناك حكومات تحكم أكبر عدد من الناس كالصين ولكنها ليست الأقوى، وهناك حكومات قوية ولكنها ليست الأوسع رقعة أو الأكبر عدداً، أما الإمام علي سلام الله عليه فكان يرأس أكبر وأقوى حكومة على وجه الأرض! وفي عصر كانت الدكتاتوريات والأنظمة المستبدة هي التي تحكم العالم. ومع ذلك سجّل لنا التاريخ حتى على لسان أعداء الإمام سلام الله عليه مالم يسجله إلا لأخيه رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقد روي أنه سلام الله عليه أول من سمح بالمظاهرات السلمية ضده!
لقد أصدر الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه أمراً أو قانوناً ما، فخرج مجموعة من الناس يعدّون بالعشرات في مظاهرة ضد ذلك القانون. وعندما نقل الإمام الحسن سلام الله عليه الخبر لأبيه الإمام أمير المؤمنين، أمر الإمام سلام الله عليه بتركهم وشأنهم، ولم يعاقب أحداً منهم بل تراجع عن إلزامهم بالأمر!
هكذا كانت الحرية في ظل حكم الإمام سلام الله عليه مع أنه كان في عصر يرزح العالم كله تحت وطأة الاستبداد. بينما نجد اليوم ثمة حرية في بعض بلدان العالم، فما أحرانا أن نقتدي بعلي سلام الله عليه وهو إمامنا، فإن نحن التزمنا بما جاء به رسول الله صلّى الله عليه وآله ومشينا في طريق علي سلام الله عليه فلسوف ننعم بكل خير، وتكون هذه التنظيمات والأحزاب في ظل حكم كهذا، تنظيمات بناء لا هدم.
أما مسألة الدستور فإن لنا نحن أتباع أهل البيت سلام الله عليهم بصمات فريدة في التاريخ يمكن للباحث المنصف أن يجدها ويحكم أنها فريدة حقاً. لقد كان الناس قبل الإسلام شعارهم الخوف ودثارهم السيف كما ورد في نهج البلاغة، فكان القوي يأخذ الضعيف سواء في محيط العائلة أو العشيرة أو ما هو أكبر منهما كمحيط القرية والمدينة أو أكبر كمحيط الحكومة. كان كل قوي يظلم كل ضعيف تمكن منه، عادة. ولذلك كنا نلاحظ كثرة القتل والنهب والسرقات قبل الإسلام. ولكن عندما جاء رسول الله صلّى الله عليه وآله منح الجميع فرصاً متساوية فكان كل شخص يمكنه أن يقوم بما يريد مالم يضرّ أحداً، فكان الخط الأحمر الوحيد الذي لا يجوز تجاوزه في الإسلام على الصعيد العام هو عدم الإضرار بالآخرين، فلقد سنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قانون «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»، هذا القانون صار سبباً لانتفاء السرقة في المجتمع. فلقد نقل لنا التاريخ شيئاً لا تجدون له مثيلاً في أرقى دول العالم المعاصرة وأغناها وهو أنه لم يسجّل منذ زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله حتى عصر الإمام الجواد سلام الله عليه - أي طيلة حوالي مئتي عام – سوى ست سرقات في طول البلاد الإسلامية وعرضها! أي بما معدله أقل من سرقة واحدة خلال كل عشر سنوات!
فلقد روي أنه حصلت سرقة في زمن إمامة الإمام الجواد سلام الله عليه وكان الحاكم يومذاك المعتصم العباسي. وكان القضاة مجتمعين في مجلس المعتصم، وكان الإمام سلام الله عليه حاضراً ذلك المجلس وعمره الشريف يومذاك زهاء اثنتي عشرة سنة، أي إنه عليه السلام كان صبياً ولكنه كان في الوقت نفسه إماماً وحجة لله على خلقه، يزن علمه السموات والأرضين، ويرجح عقله على الخلائق أجمعين.
كان القضاة جالسين إذ جيء بالسارق لتقطع يده. وعندما أرادوا تنفيذ الحكم لم يعرفوا من أين ينبغي أن تقطع؛ لأنه لم تحصل حادثة سرقة منذ أكثر من مئتي عام.
لقد بقي القضاة الشيوخ الذين زاولوا القضاء عشرات السنين حائرين لا يدرون من أين يجب أن تقطع يد السارق! فقال قاضي القضاة شيئاً وانتقده الآخرون، وانتقد القضاة بعضهم بعضا، فمن قائل: تقطع من الزند، واستدل بآية التيمم حيث يقول الله تعالى: «فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم» والمسح إلى الزند، فذلك حد اليد، والقطع لليد لأن الله يقول «فاقطعوا أيديهما» إذن يكون القطع إلى الزند.
وقال بعضهم: بل تقطع من المرفق مستدلاً بآية الوضوء لأن الله تعالى يقول: «فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق» إذن فحد القطع المرفق!
وقال آخرون: إنها تقطع من المنكب لأن المرفق هو الحد الذي ذكر للوضوء من اليد أما اليد كلها فهي إلى المنكب.
هذا والإمام الجواد سلام الله عليه ساكت. فلما رأى المعتصم أن الإمام لم يشاركهم طلب منه أن يبين رأيه فقال له الإمام: لقد قالوا وسمعت. ولكن المعتصم ألحّ على الإمام أن يبين رأيه، خاصة وقد اتضح له أن الإمام لا يؤيد أياً من هذه الآراء، فقال الإمام سلام الله عليه: تقطع الأصابع الأربع فقط وتترك له الكف يسجد عليها لأن القرآن يفسر بعضه بعضا والله تعالى يقول: «وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً»!
ألا تدلّ هذه الحادثة على انتفاء السرقة في المجتمع؟ ولكن كيف انتفت السرقة من مجتمع دأب عليها قبل الإسلام؟!
نقول إن الدستور الإسلامي كفيل ليس فقط بتقليل الجريمة والحد منها بل بانتفائها والقضاء عليها نهائياً.
فإذا كان الدستور مطابقاً للقرآن الكريم وتعاليم رسول الله وأمير المؤمنين سلام الله عليهما فلسوف يرفل العراق حتماً بأفضل النعم في المستقبل إن شاء الله حتى يتعلم منه الغربيون أنفسهم، ولكن هذا بحاجة إلى تعبئة ومواصلة من الجميع.
ستزول المشكلات المعاصرة ومنها عدم الاستقرار والأمن فإنني متفائل بزوال هذه الظواهر المرضية إن شاء الله كلياً من المجتمع، ولكنها بحاجة إلى همّة الجميع، فأمن العراق واستقراره يصنعه أبناؤه، وهناك مثل عربي معروف يقول: ما حكّ جلدك مثل ظفرك.
لا يصلح العراق إلا أبناؤه، ولكن لابد من تعاون الجميع وتظافرهم كلّ في إطاره وبحسبه وبقدر طاقاته الفكرية والعملية والمالية والاجتماعية والسياسية.
فلو عمل الجميع في هذا المجال حلّ الأمن والاستقرار مستقبلاً في البلد إن شاء الله، ولسوف يكون العراق نموذجاً يتعلم منه الغربيون والشرقيون وسائر البلاد الإسلامية وحتى الكفار، ولكن هذا كما قلنا بحاجة إلى همة الجميع وتعاونهم وتحمل بعضهم الآخر.
المشكلة الكبرى للعراق وللمسلمين عموماً هي مشكلة اليهود. وهذه مشكلة كبرى حقاً. ولكن هذه المشكلة أيضاً حلها رسول الله صلّى الله عليه وآله بنفسه وفي سنوات قلائل، أذكر لكم نموذجاً واحداً من حلول رسول الله صلّى الله عليه وآله، وينقل لنا التاريخ نماذج كثيرة، ولكني أكتفي بنقل هذا المورد.
فمع أن القرآن الكريم يصرح بقوله تعالى «لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود» وهو تصريح قوي وصارم وواقعي مائة في المائة، ولقد كان اليهود أول من حارب رسول الله صلّى الله عليه وآله وكانوا يدفعون المشركين لحربه كلما فتروا! نلاحظ أن رسول الله صلّى الله عليه وآله استطاع أن يخلص المجتمع من مشكلتهم من خلال حلول منها كسب كثير منهم إلى صف الإسلام بفضل التشريعات الإلهية الرائعة، فلقد سنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله مواد قانونية خاصة مذكورة في كتب التاريخ، روي عن الإمام الصادق سلام الله عليه أنه قال بحقها: ما كان سبب إسلام عامة اليهود إلا بعد هذا القول من رسول الله صلّى الله عليه وآله.
من بنود تلك المواد قول رسول الله صلّى الله عليه وآله: «من مات وله مال فلوارثه، ومن مات وترك ضياعاً أو دَيناً فإلي وعليّ». فقال اليهود ما أحسن هذا الدين! فلنذهب ونعلن إسلامنا، لأنا إذا جمعنا مالاً ومتنا فرئيس الدولة لا يأخذ منا ضريبة الإرث، وإن كنا فقراء لا نملك شيئاً ومتنا فإنه يكفل عوائلنا من بعدنا ويقضي ديننا إن كنا مدينين!
وهكذا توجهوا إلى الإسلام زرافات ووحداناً وحلت أكبر مشكلة كان يعاني منها المسلمون بحكمة التشريع الإسلامي الذي جاء به رسول الله صلّى الله عليه وآله.
هذا هو قانون السماء، وهو موجود في الكتب الفقهية وكتب التاريخ والحديث.
فإذا كان هناك تعاون وحلم وانسجام وهو المؤمل، فإن عراق المستقبل سيكون عراقاً ينعم به جميع العراقيين، ويغبطهم كل أهل العالم ويستفيدون منهم إن شاء الله تعالى.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعين الجميع لبناء العراق بالاستلهام من تعاليم وتطبيقات رسول الله وأمير المؤمنين سلام الله عليهما في بناء الحكومة الإسلامية في زمانهم حتى ينعم الجميع بالاقتصاد الرفيع والحرية المعقولة الشاملة والعلم الواسع والخيرات الكثيرة وكل رفاه ونعمة. نسأل الله أن يوفق الجميع ويحقق هذه الآمال سريعاً عاجلاً إن شاء الله تعالى.

 

 

 

موقع يا زهراء سلام الله عليها لكل محبي الزهراء سلام الله عليها فلا تبخلوا علينا بآرائكم ومساهماتكم وترشيحكم كي يعلو اسمها سلام الله عليها ونعلو معها