|
الارتقاء
بالمجتمع
إ ضاءات
من محاضرة لسماحة
المرجع الديني السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)
* هناك
أحاديث وروايات عديدة تؤكد أن على الإنسان أن لا يُظهر
للآخر كل ما في قلبه من حب وعداء، وما يختلجه من أفكار
تجاهه، إلا بمقدار ما يقتضيه الظرف، كالأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر أو نحوهما، مما يُعرف من الأدلة في
مظانها، كما في قول الإمام الصادق(عليه السلام) لأحد
أصحابه: "صانع المنافق بلسانك، وأخلص ودك للمؤمن".
* من
الطبيعي أن المؤمن لا يحب المنافق بل يبغضه ويكرهه، إلا أن
الإمام(عليه السلام) يأمره هنا بأن يصانعه بلسانه، أي
يجامله في الحديث, لأن من الأخلاق الحميدة للمؤمن أن لا
يظهر كل الكراهية التي يحملها في قلبه للشخص الذي لا
يتوافق معه، وإن كان منافقاً، فكيف إذا كان مؤمناً؟ وقد
يختلف المؤمن عن أخيه المؤمن في أسلوبه أو خلفياته أو
عاداته أو ذوقه أو بعض صفاته، إلا أن هذه الفوارق ليس من
شأنها أن تسلب المؤمن التزامه بالتعاليم، فلا ينبغي
للمؤمنين أن يتباغضوا بسببها، ولذا أوصى الإمام
الصادق(عليه السلام) بإخلاص الود للمؤمن بقوله: "وأخلص
ودَّك للمؤمن". أي عامله بما هو مؤمن، وأظهر حبك له بغض
النظر عن شكله ولونه ولسانه أو ذوقه أو تربيته الخاصة التي
لا منافاة فيها للموازين الإسلامية, أما المنافق وهو الذي
يبطن الكفر ويظهر الإسلام، فإن الإمام(عليه السلام) يوصينا
بمجاملته: "وصانع المنافق بلسانك". فهذا هو الخط العـام
للأخلاق الإسـلامية، وهو أن تتـحـدث وتتعـامـل مع الناس,
مؤمنهم، ومنافقهم، وكافرهم بالحسنى، وإن كانت هناك
مستثنيات واقتضاءات خارجية في بعض الموارد تستدعي تقديم
الأهم على المهم، فيرجع فيها إلى مظانها. ولكن الذي يجب أن
نفهمه في الخط العام هو أن على المؤمن أن يكون مدارياً
وإيجابياً في تعامله وكلامه مع الناس حتى مع المنافقين،
فضلاً عن الكفار. قد يقتضي الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر في موردٍ ما موقفاً خاصاً ـ وذلك يرجع إلى تقدير
الإنسان ومعرفته للحكم الشرعي إلا أن الخط العام هو أن
يعامل الناس بالحسنى، حتى المنافقين، عليه ألاّ يُظهر لهم
ما في قلبه من بغض، بل يصانعهم بلسانه، لأن هذه من الصفات
التي كان أهل البيت(عليه السلام) يأمرون بها أتباعهم.
* الناس
عموماً - فضلاً عن المؤمنين - إذا كان فيهم انحراف فهو في
الغالب انحراف سطحي في بداية أمره، لا يلبث أن يزول
تدريجياً إذا كان أسلوب مناصحتهم حسناً, ولكنه يتعمق
بواسطة الأساليب الخشنة. وإن السلوك الحسن يؤثر في الإنسان
المنحرف تأثيراً إيجابياً ويقوّم انحرافه غالباً، ومن
النادر أن لا يؤثر هذا الأسلوب في التعامل مع الأفراد
خصوصاً إذا كانوا مؤمنين. ولذا عندما نبحث في بعض الجوانب
المهمّة من تاريخ علمائنا الماضين(رضوان الله عليهم)، نرى
أن هذا الأسلوب من الأخلاق في تصرفاتهم هو الذي فسح لهم
الطريق لأن يبدعوا ما أبدعوه من أعمال ضخمة قد خلّدها
التاريخ, أما الذين لم يتوانوا عن إظهار ما في قلوبهم نحو
هذا وذاك، فإنهم لم يستطيعوا تحقيق ما حققه أولئك الذين
وصل بهم سلوكهم الأخلاقي الرفيع إلى ما وصل. فإذا تجنب
الإنسان المؤمن صغائر الأمور وابتعد عنها، وأخلص وده
للمؤمن, وصانع غير المؤمن من منافق أو كافر، أمكنه أن يقطع
شوطاً في هداية الناس، فضلاً عن تقويم نفسه. وهذا معناه
أننا لو تعاملنا مع الناس بهذه الروحية ودارى كل واحدٍ منا
مائة منافق مثلاً، فأغلب الظن أنه سيعود تسعون منهم إلى
جادة الصواب ومنهل الخير شيئاً فشيئاً. وينبغي أن لا
يثنينا تخلّف الباقين، كما لا ينبغي أن نضحي بالتسعين - ما
دام لديهم هذا الاستعداد في الميل نحو الهدى - بسبب امتناع
أولئك العشرة الباقين عن طريق الهدى والصلاح.
* الناس
عموماً يُستمالون باللين، وتؤلفهم الرأفة، وتنفّرهم الحدة,
فإذا استطاع الإنسان كسب ود الناس وأُلفتهم وعدم تنفيرهم
من نفسه، أصبح أكثر توفيقاً في أموره وأعماله. نحن نحب
الحلم، ونحب الدفع بالتي هي أحسن وغيره من الأمور الحسنة،
فهكذا الآخرون. مثلاً: لو صدرت منا زلة، فما الذي نحب أن
نكافأ به؟ هل سوى الحلم والصفح؟ كذلك لو صدرت من غيرنا تلك
الزلة، فإنه يحب الشيء نفسه, يحب أن نحلم ونصفح عنه.
فينبغي لنا دائماً أن نحب لغيرنا ما نحبه لأنفسنا، ونظهر
لغيرنا من أنفسنا ما نرجوه لأنفسنا من غيرنا، فالإنسان
عندما تحدث أموره كهذه, ينبغي له أن يضع نفسه مكان غيره،
وغيره مكان نفسه. وإن طبيعة الإنسان كثيراً ما توحي إليه
هذا الإيحاء السلبي تجاه غيره لتميد به عن جادة الأخلاق
الحسنة, فإن لم نحاول تغيير هذه الطبيعة فسنبقى نتصرف مع
الناس بشكل سلبي إذا وقعنا في قضية مشابهة، لكن لو حملنا
الأمر على محامله الحسنة ـ لرؤيتنا له من زاوية أُخرى ـ
لوضعنا الحلول المناسبة بحسب ما تقتضيه نفوسنا التي تحب
الخير والصفح، ولا يتأتى ذلك إلا إذا روضنا النفس على
التحلي بالخصال التي تحلى بها أئمتنا الأطهار(عليهم
السلام) وعلماؤنا الأبرار. وقد روي عن أهل البيت(عليهم
السلام) قولهم: "من اتهم نفسه أمِنَ خدع الشيطان". فإذا
أراد الإنسان أن يربي نفسه، فعليه - أولاً - أن يتهمها
دائماً في تصرفاته الشخصية، وذلك بأن يجعل نفسه مكان غيره
في كل القضايا، وكذلك يجعل غيره مكان نفسه، لأنه في كثير
من القضايا يحكم لنفسه بشكل، ولغيره بشكل آخر، يعني القضية
نفسها إذا وقعت له يحكم لنفسه بشكل ينسجم مع غرائزه
وميوله، وإذا وقعت لغيره يحكم له بشكل آخر مغاير لما حكم
به لنفسه.
* لا
شك أن الناس غير متفقين في الأذواق فضلاً عن الأخلاق،
فينبغي لمن يتعامل معهم أن يترفع عن وضائع الأمور، وهذا
الأمر يتأكد بالنسبة إلى العلماء ورجال الدين, لأنهم
مرتبطون ارتباطاً وثيقاً مع الناس، فيكونون عرضة للمشاكل
أكثر من غيرهم، فهناك من يعارضهم في مسألة أو يردهم في رأي
أو يختلف ذوقه مع أذواقهم، بل قد يصل الأمر إلى وجود من
يواجههم بالسب والشتيمة، لغاية ما. فإن انشغل رجال الدين
بهذا وذاك، ستتلف أعمارهم, ويضيع تاريخهم وجهدهم في توافه
الأمور. لقد علمنا أئمتنا(عليهم السلام) أن نصانع المنافق
بألسنتنا ـ فضلاً عن ود المؤمن ـ لنكون قادرين على تغيير
المجتمع، فضلاً عن تربية أنفسنا. فالإنسان إذا انشغل
بالأمور الصغيرة، سوف لن يصل إلى الأمور الكبيرة والمهمة.
فالإنسان ليس له عُمران في هذه الحياة، فلو صرف عمره في
الأمور التي هي أقلّ أهمية، فإنّه سيُصرف بذلك عن الأمور
المهمة، وبمقدار ما نتأخّر في الأمور المهمة يتقدم أعداؤنا
فيها! والتوفيق فيما ذُكر يحتاج إلى الاستعانة الدائمة
بالله(عزوجل) والاستعاذة به من الزلل في المنعطفات
الخطيرة، وفي الوقت نفسه يحتاج إلى تركيز وجهد مع صبر،
فالله(عزوجل) لا يقطع أمل من يأمل فضله.
|
|