تضمنت كلمات الإمام المجدد السيد محمد
الحسيني الشيرازي
(قدس سره الشريف)
مواقف كبيرة، وقد تجاوزت أفكار كلماته ومواقفه شعارات الشعبويين،
وانفعالات الحشود. وكان غزير العطاء لأنه وضع الإنجاز نصب عينيه،
فلم يتعامل مع عبث العابثين والمتقوتين إلا بما يستحق دون أن يعطيه
الحجم الواهم الذي يضخمه صانعوه، ولم يعبأ
(قدس سره الشريف)
بسلطة الاستبداد السياسي أو الديني، فكان له أن يكون رمزاً في سفر
الحرية، وسيداً في الفقه، ومنهجاً في الفكر، وآية في الأخلاق،
وقائداً في الإصلاح، ولأنه كان طموحاً الى رسم واقعية جديدة ونجح
في تجاوز واقع مأزوم بذاته، كان
(قدس سره الشريف)
ناهجاً ومدرسة في الحياة، وفي جل شؤونها له كلمات.
لا يبلغ الإنسان غايته من الكلمة بمجرد التفكر بمقاصدها والتأمل في
ثناياها, بل من خلال وعيها والجهر بمضامينها, وإنْ كان الجهر بكلمة
الحق بسالة وموقف عزّ طالبه، والكلمة رحلة تستنطق عصارة مسيرة
طويلة وشاقة في آفاق الحياة, بحلوها ومرها, وحقها وباطلها, وأكبر
أخطار الكلمة يرتكن في الابتعاد عن وعي أبعادها، فطالما أريد بكلمة
الحق باطلاً. إنها أخطار وهواجس واستحقاقات جعلت أصحاب كلمة الحياة
"قليل ما هم". وربما كان الذين أدركوا حياة الكلمة أكثر من قلة
"الغرباء"، لكن سلطة الظلم تجعل "في العين قذى وفي الحلق شجا"..
والأهم: إن كلمة الإنسان والحياة لا تموت, "يا يزيد.. فكد كيدك،
واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا". وإن لكلمة الحق
قـوة بقاء وفاعلية تأثير وتغيير.
إن الذي يدفع الى البحث عن الكلمة هو الحاجة إليها، وقد يتعرض بعض
من يبحث عنها الى مؤثرات قد تدفع به الى استعدائها أو مناقضتها
استرضاء لهوى النفس, أو استجهالاً للعقل عبر التمسك بسطحيتها أو
بعض حقها, أو جبناً بفعل الخوف, أو حرصاً بدافع مصلحة (الأنا) التي
ربما تحجب عن صاحبها شمس العدل. من هنا كانت وستبقى الكلمة الحرة
الطريق الى المواقف النبيلة التي يتبناها الإنسان – الإنسان ويصرح
بها ولو عند سلطان جائر, فما من كلمة خلدت إنساناً لم يكن حافزه في
قولها إنسانياً, وما من كلمة رفعت إنساناً, لو لم يكن قائلها قد
عاش الواقع الذي يعيشه الناس بما فيه وحوله, فيتألم بآلامهم, ويحلق
معهم الى فضاءات أمانيهم, فهو منهم وفيهم. ولكي تصل الكلمة الى
الآخرين وقبل ذلك الى وعي صاحبها لتفعل فعلها في العقول والقلوب,
كان لابد بأن لا يكتفي الواحد منا بما قاله الآخرون من كلمات
ليتحجر أمام حروفها ومعانيها القديمة متجاهلاً المعاني التي استجدت
بفعل تجدد الحياة, ومسيرة ادراكات العقل الإنساني وانفتاحاته,
وعندها يكون للكلمة معنى آخر وربما لا يعد لها أي معنى، لذا ينبغي
التعامل مع تراث الكلمة عبر الاستمداد منه بالشكل الذي ينسجم مع
حاجتنا ومشاعرنا ولا يتصارع مع واقعنا, فنصل تراث الأجداد الى
الأحفاد بلغة تحفظ حق التغيرات التي طرأت خلال الحقبة الزمنية
الممتدة من زمن ولادة الكلمة إلى زمننا اليوم حيث نستنطقها من
جديد, ليكون ناقلها قد أبدع في وضعها بشكل يتوافق مع زمن غير الذي
ولدت فيه, فـ"الحكمة أن تضع الشيء في موضعه"، وإلا لم يكن لتلك
الكلمة معنى كامل أو معنى يذكر, إذا لم تكن ضد المعنى أصلاً, فإن
من أهم مقومات (الكلمة) التي تفرض حضورها في وعي الآخرين أن يكون
لها معنى يتفاعل مع الإنسان والحياة ليكون للكلمة صدى يتحرك يتأثر
ويؤثر.
"والعلماء باقون". وكلمات الإمام المجدد
الشيرازي ما زالت باقيـة بما تكتنفه من قيم الحياة, حيث إنها
استمدت حياتها وبقاءها من كلمة الإسلام والدعاة الحقيقيين الى
حياتها: الرسول الأعظم محمد وآله الطيبين الطاهرين الذين أذهب الله
عنهم (وحدهم ودون غيرهم) الرجس فطهرهم تطهيراً, الذين عندهم الكلمة
"الكلمة" وكلمة الحياة بمعناها المطلق وأفقها الأرحب, على أن ذلك
ليس فيه مصادرة لجهود (غيرهم) في صنع الحياة, والشهادة على طريق
حريتها, لكن ما عند (غيرهم) إما حق ناقص وإما باطل محض, والاثنان
لا يعطيـان الحيـاة الكاملة. علماً أنهم
(عليهم السلام)
قد أبقوا باب الاجتهاد مفتوحاً وحذروا من أن الحق لا يعرف بالرجال،
بل العكس هو الصحيح.
من أروع ما أشار إليه الإمام الشيرازي
الراحل في كلمات الإنسان والحياة حث المجاميع الدولية كي تقوم
بـ(الضغوط الشديدة) على كل حكومة تريد ظلم شعبها، ذلك أن الإنسان
من حيث هو إنسان لا يرى فرقاً في الظلم الذي يقع عليه سواء أكان من
أهل الدار أو من غير أهل الدار فالظلم ظلم. وهو ما يحكم به العقل
أيضاً، كما لا يجوز في حكم العقل والشرع أن ندع أمثال موسيليني
وهتلر وستالين وصدام يفعلون ما يشاؤون بشعوبهم تشريداً ومطاردة
ومصادرة للأموال وقتلاً للأنفس بحجة أنها شؤون داخلية! فإذا اشتكى
أبناء بلد عند سائر الأمم كان عليهم أن يرسلوا المحامين والقضاة،
فإذا رأوا صحة الشكوى أنقذوا المظلوم من براثن الظالم. وهذه إشارة
سبق بها الإمام الشيرازي - بسنوات - المجتمع الدولي الى طريق ضمان
حياة الإنسان - أي إنسان - في العالم وحريته ووجوده وكرامته, بغض
النظر عن دينه ومعتقده وجنسه وقوميته ولونه, وذلك عبر تعـاون
المجتمع الدولي, مشيراً
(قدس سره الشريف)
بذلك الى ضرورة الحفاظ على حقوق الإنسان وكرامته وحرية الشعوب
ورفاهها، وصولاً لتحقيق الأمن الوطني والعالمي وتقدم البشرية، وإن
هذا التعاون يشكل دوافع هائلة في تقارب الشعوب والأمم والحضارات
فيما بينها, وعلى كافة العلاقات الإنسانية والمصالح الدنيوية, وهو
ما يعمل في الوقت نفسه على توسيع مساحة (لقاء الحضارات), لغرض
الحوار بينها, خدمة للإنسان وحريته ورفاهيـته, والعـالم وخيره
وسلامه وتقدمه.