من جديد يطل "عاشــوراء" بكل أحزانه التي ما غابت يوماً منذ أن تفجرت في
العاشر من المحرم الحرام من العام الهجري 61، تلك الأحزان الدامية التي
كانت مأساتها بأبشع الصور وأكثرها توحشاً وظلماً، فكان لها أن تكون –
وستبقى - أثراً في الوجدان، ولوعة في القلب، وعَبرة في العين، وعِبرة للعقل
حتى يحتار المرء ما بين الانجرار الى العاطفة الجارفة لعاشوراء والتأمل في
المواقف السامقة التي كتبها سيد الشهداء بدماء الأنبياء على أرض كربلاء
التي ما زالت تضج حزناً، وتتحفز ثأراً من هول ما وقع في ذلك اليوم الذي لا
يوم كمثله، حيث جسد آخر ابن بنت نبي ملقىً على صحراء لاهبة، وقد مضت عليه
سيوف وأسهم ورماح حاملة معها حقداً وخبثاً ولؤماً، والرأس الشريف يتلو آيات
ربه الكريم المتعالي فيما ينتظر السجاد دوره المنتظَر بعد أن هد جسده
المرض، وتظل الحوراء تراقب المأساة تلو المأساة والشهيد بعد الشهيد بقلب
مكسور، لكنه عامر بإيمان أشد ثباتاً من الجبال الراسيات، وهي تنظر الى
تقطيع أجساد هاشميين أبرار وعبّـاد أحرار وعينها تحن الى المغوار العباس،
فيما هي منشدَّة الى عزيزها أبي عبد الله الحسين المضرَّج بدمائه، وتدعو
جبار السماوات والأرضين بصبر جميل أن يتقبل القربان.
إن جذوة أحزان عاشوراء المتوهجة وعمق الانتماء لكربلاء ينبغي أن يدفع
المؤمن الى تجسيد (حب الحسين) كلمة طيبة وعملاً صالحاً يرتقي به ورعاً
ووعياً وخلقاً وأدباً وعلماً، وتفعيل ذلك الارتقاء عبر كلمة حق عند سلطان
جائر أو عالم سوء والى أعمال تنفع الناس في دينهم ودنياهم وحياتهم وآخرتهم
فـ"خير الناس من نفع الناس". وإن عاشوراء مثلما كانت ثورة على دولة الظلم
والرذيلة والاستبداد هي نهضة للتقييم والتقويم والنقد والتغيير والمحاسبة
والإصلاح والبناء والإنماء فإن نداء النصرة "أما من ناصر ينصرني" ومنذ أن
أطلقه أبو الأحرار - حيث وقف وحيداً أمام جيش العتاة - سيبقى مدويـاً في
الضمائر الحية والنفوس الأبية لاستكمال الانتصار في استقامة دين خاتم
الأنبياء (ص) وإصلاح أمور البشرية بعد أن انتهشتها سيوف البغي وظلامات
الاستبداد وفتاوى التكفير وجنى عليها عبّاد الأنـا والجاه والمال. "وقل
اعملوا".