موقع يازهراء سلام الله عليها                          www.yazahra.org

الإنســـان .... وإمكانية التغيير!!

 

٭ ليس الزهد أن تمتنع عن الطعام والشراب أو التملك أو النكاح، بل حقيقة الزهد أن لا تأسى ولا تحزن على ما فاتك من ثروات وقدرات مهما كان نوعها، ولا تفرح بما أوتيت من ذلك،  وهذه منزلة لا يبلغها المرء بسهولة،  بل لابدّ له أوّلاً من تمرين متواصل وترويض مستمرّ،  باستحضار المعنى الذي تحمله الآية {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَافَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}. حتى تصبح الحالة ملكة عنده،  ولا شكّ أنّ الآية لا تعني عدم التأثّر مطلقاً، فإنّ الإنسان بطبعه يحزن إذا فقد أيّ شيء، كما أنه يفرح إذا أوتي خيراً سواء أكان مادياً أم معنوياً،  إنما تنهى الآية عن الحالة التي تكشف عن عبودية النفس لتلك الأشياء، وتدعو الإنسان لتحرير نفسه من هذا الرق..

٭ انّ التغيير صعب،  ولكنّه ممكن،  وليس المقصود تغيير جذور الطبيعة والعنصر الثابت فيها،  إنما المقصود درجات الشدّة والضعف والآثار واللوازم التي تترتّب عليها،  فنفوس الناس ميالة - في الغالب – الى الدعة والراحة، ولا رغبة لها في الأعمال التي تتطلّب جهداً مضاعفاً، ولكنّا نرى بعضهم يتغيّر بفعل الضغوط المختلفة سواء أكان التغيير من ذاته أو بفعل الآخرين، فيشمّر عن ساعد الجدّ بحيث يتحمّل سهر الليالي وشظف العيش من أجل الوصول إلى هدفه،  كما أن الناس تختلف في سرعة التغيّر وشدّته. وكلما استحضر الإنسان المنافع التي سيجنيها والمضارّ التي سيدفعها من التغيير، زاد من سرعة تغيّره. وكما تختلف النفوس فكذلك تختلف الغرائز والطباع في قوّتها وضعفها، فلقد أُثر أنّ «آخر ما يخرج من قلب المؤمن حب الجاه». وهذا يعني أنّ حب الجاه من الطبائع الأصيلة والقويّة عند الإنسان. وكذلك قد تختلف الأجواء والظروف وعوامل الوراثة والبيئة والتربية وغيرها،  إلاّ أنّ الأمر المسلّم أنّ أصل التغيير ممكن.

٭ هناك طريق واحد، يستطيع الإنسان أن يكيّف نفسه لكيلا تأسى على ما فاتها،  ولا تفرح بما أوتيت،  حيث كلّ الطرق ترجع إليه، وهو بأن يتذكّر الإنسان دائماً أنّ كلّ شيء أمانة في رقبته وعارية لديه، وأنّ الأمانة لابدّ من إرجاعها يوماً إلى صاحبها ومالكها الحقيقي. فالمال أمانة،  والعلم أمانة،  والجاه أمانة،  وكذا الصحّة والأولاد والأهل والزوجة والعقار وجسمه وروحه وكلّ شيء عنده هو أمانة، وإذا استطاع الإنسان أن يركّز على هذا الأمر فستخفّ عليه الوطأة شيئاً فشيئاً حتى يبلغ مرتبة يصدق عليه أنّه لا ييأس على ما فاته ولا يفرح بما أتاه.. وإنّ تألّم الإنسان لفقدان بعض الأشياء أمر فطريّ، ولكن التربية تخفّف الوطأة على الإنسان،  وتزيل الألم المضاعف. فتارة يتألم الإنسان بدنياً بسبب مرض ألمّ به، وتارة يتألم نفسياً نتيجة الشعور بفقدان الصحة، وهذا أيضاً شيء طبيعي، ولكن التركيز على الألم النفسي والتحسّر (وما أشبه) هي الأمور التي تنهض التربية بإزالتها،  كلّما تذكّر الإنسان أنّ كلّ ما يملكه حتى صحّته وبدنه وروحه أمانة،  وليس هو مالكها الحقيقي. ومَن ربّى نفسه على هذه الشاكلة صلحت آخرته ودنياه، لأنّ مشاكل الدنيا ليست بيد الإنسان، فليتذكّر كل واحد منا أنّ كلّ بلاء ومصيبة تنزل عليه إنما هي بقضاء من الله وقدر، عندها تهون عنده المصيبة ويخفّ البلاء يشعر بالسعادة وينجح في الاختبار، فتصلح آخرته ودنياه معاً. والشيء نفسه يصدق على الأفراح، فإنّها قد تأتي الإنسان من دون اختياره، فليوطن نفسه على أنّها زائلة يوماً ما،  وأنّها لا تعني كلّ شيء،  وأنّه لا ينبغي أن تستعبده وتستملكه. لذلك نحتاج لأن نربّي أنفسنا لبلوغ درجة الرضا بقضاء الله (عزّ وجلّ)، فلا نقول أو نفعل أو نشعر بما يسخط الله نتيجة التأثّر والانفعال لما قد يصيبنا، بل علينا أن نذكّر أنفسنا دائماً بأنّ ما من خير نناله فهو من الله (تعالى)، وأن كلّ ما نُعطاه في هذه الدنيا هو أمانة عندنا وأننا مفارقوها يوماً ما، فلا نأسى على ما فاتنا ولا نفرح بما آتانا،  وبالخصوص في أجواء هذه الأيام التي ضعف فيها الوازع الديني، وقوي حبّ الدنيا في النفوس، فمسّت الحاجة إلى واعظين متّعظين وعلماء عاملين وأطباء روحيين أكثر فأكثر. وهذا يعني أنّ مسؤوليتنا مضاعفة فلا نأسى على ما فاتنا ولا نفرح بما أُوتينا، فربما لا يُصعق أحدنا ويموت لو فاتته الملايين من الأموال أو جاءته بغتة، ولكن قد لا نكون كذلك لو امتُحنّا في الجاه والمكانة الاجتماعية.

٭ المطلوب من كلّ إنسان أن لا يفرح أو يأسى على شيء ما يحبه ويهواه، وعليه أن يتذكّر دائماً أنّ كلّ النعم التي عنده هي من الله (عزّ وجلّ)، فإن تجدّدت فهي نعمة أخرى ينبغي الشكر عليها، وإن زالت فهذا شأن الدنيا ونعيمها، فكلّها أمانة عند الإنسان لابدّ أن يفارقها يوماً تأخّر أو تقدّم. هذه الأمور قولها سهل، كما الاستماع إليها، ولكن المهم هو العمل، وهذا يحتاج إلى تمرين وتذكّر دائم، والإنسان إذا سار في طريق الله (تعالى) فإنّه يعينه بلا شكّ، وقد وعد الله المؤمنين ذلك، إذ وعدهم بالنصر إن جاهدوا في سبيله، سواء أكان جهادهم ضد العدو الخارجي أم الجهاد للتغلّب على العدو الداخلي وهو النفس، وهذا ما سمّاه النبي (ص) بالجهاد الأكبر،  فإنّ المؤمن إذا استعان بالله وسار في طريق جهاد نفسه، أتاه المدد والنصر من عند الله (عزّ وجلّ)... ولا شكّ أنّ المطلوب هو الثاني مادام الإنسان خُلق للامتحان،  فلا طريق أمام الإنسان المؤمن سوى هذا، وبه يحفظ دينه ودنياه،  فما أدرى المرء بما خبّأه الدهر له؟ ومَن يعلم الآتي في حياته؟ فلنمرِّنْ أنفسنا من الآن إذاً ولنكن مستعدّين للامتحان أبداً، وقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين (ع): «إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت مأزور». ولا حاجة لأن تشرّق أو تغرّب بعد ذلك،  وقد أخبرك الإمام أمير المؤمنين (ع) حيث قال: «الزهد كلّه بين كلمتين من القرآن.. قال الله سبحانه: «لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ» ومَن لم يأسَ على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه». بل اسعَ لبلوغهما من خلال التذكّر بأنّ كلّ ما عندك فهو أمانة،  وأنت مفارقها يوماً ما، فإن فكّرت هكذا فستُحلّ كثيراً من مشاكلك وتحتفظ بدينك ودنياك وتُسعد بهما.


 من محاضرات سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)

 

 

 

موقع يا زهراء سلام الله عليها لكل محبي الزهراء سلام الله عليها فلا تبخلوا علينا بآرائكم ومساهماتكم وترشيحكم كي يعلو اسمها سلام الله عليها ونعلو معه