أما
مبدأ العدالة الاجتماعية فلا تقل أهميته عن العدل في النتائج
الايجابية التي سيتركها بين الناس لان العدالة في حالة شيوعها سوف
تنتج ثقة وقناعة عالية من المجتمع بنظامه السياسي ككل، ونظام حكمه
بشكل خاص، وستضيق الفجوة الهائلة بين الحكام والمحكومين في بلد كان
ولا زال يشكو أفراده من اتساع هذه الفجوة، وسيندفع الناس نحو
البناء والعمل بثقة وجدية وفاعلية بدلا من مشاعر الإحباط
واللامبالاة والكسل والحنق التي تسودهم لإحساسهم بعدم العدالة
والظلم الذي يتعرضون له من أنظمة حكم لم تفعل شيئا يذكر لمعالجة
هذا الإحساس ورفع أسبابه، وبدون اعتماد هذين المبدأين فانه لا جدوى
من عمل السياسيين وشعاراتهم المتعلقة ببناء الدولة المدنية، لأنهم
سينحرفون عن هذا الهدف حتما ولن يصلوا إليه قطعا.
ثالثا: رجال دولة لا رجال سلطة
يختلف رجل السلطة عن رجل الدولة بكافة المقاييس، فغالبا ما تتقدم
لدى رجل السلطة المصلحة الخاصة: الشخصية، الفئوية، الحزبية،
الطائفية.. على المصلحة العامة لعموم الشعب، ويكون في بعض الأحيان
متعثر في أداء عمله ويفتقر إلى المهارة المطلوبة، وتستحوذ عليه
عقلية التآمر والتسقيط والصراع، ويغرق المجتمع في دوامة من الفوضى
والإرباك واللايقين، ويوظف مؤسسات الدولة العامة: الجيش، الشرطة،
الإعلام، المال العام.. لمصلحته بدلا من وظيفتها الطبيعية لمصلحة
الناس.. أما رجل الدولة فهو يمثل مستوى أرقى في العمل السياسي
يتجاوز كل سيئات رجل السلطة ويوظف أحكام وقواعد ومبادئ السياسة
بمهارة وفاعلية لتحقيق غرض الخدمة العامة التي يقوم بها. إن رجل
الدولة موظف من طراز خاص عالي الكفاءة، والفرق بينه وبين رجل
السلطة كالفرق بين موظف مبتدأ كثير الأخطاء والمشاكل وموظف لديه
خدمة طويلة عرف خلالها كل خفايا وأغراض ومتطلبات وظيفته، واهم ما
يميز رجل الدولة شعوره بأنه يؤدي وظيفة عامة يخدم من خلالها شعبه
لفترة معينة يعود بعدها ليكون فردا اعتياديا بين مواطنيه. ونحن في
العراق نحتاج من اجل كفاءة إدارة الحكم وتحقيق أهدافه إلى مثل هكذا
رجال ولا نحتاج إلى هواة جهلة بمتطلبات عملهم، يلحقون الأذى بشعبهم
لضمان مصلحتهم الخاصة.
رابعا: اعتماد مبدأ الكفاءة في الإدارة
عندما سئل الحكيم الساساني (بزر جمهر) عن سبب سقوط الإمبراطورية
الساسانية أجاب بالقول: لأنهم استخدموا صغار الرجال في عظام
الأمور، وهذه الإجابة هي إشارة مباشرة إلى تلك النصيحة التي نسمعها
دوما وهي (لا تضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب)،
والدول المعاصرة بما تنطوي عليه من تشابك وتعقيد في وظائفها
الإدارية هي أحوج ما تكون إلى قيادات إدارية قادرة على فهم دورها،
والنهوض بأعباء مسؤولياتها، وتفعيل إداراتها لتكون إدارات منتجة
ذات قدرة تنافسية عالية. ولكي ينجح صناع القرار في العراق ويضمنون
وصول العملية السياسية إلى تحقيق أهدافها عليهم الإيمان بهذه
الحقيقة، فلا يغلبون الولاء والمحسوبية والمنسوبية على الكفاءة بأي
حال من الأحوال، لأنهم في حال قيامهم بذلك إنما يحكمون على أنفسهم
وأحزابهم وقواهم السياسية بالفشل، بسبب وجود أشخاص محسوبين عليهم
على رأس إدارات لا يعرفون كيف يوفرون النجاح لها، لذا يجب جعل
الكفاءة معيارا لتولي المناصب الإدارية، فمن خلال هذا المعيار يمكن
ضمان وصول امن إلى أهداف النظام، وجعل إدارة الحكم في البلد رشيقة
وفاعلة. وإذا كانت كل مستويات الإدارة بحاجة إلى هذا الأمر، فان
تلك المستويات ذات الطبيعة المهنية كالتعليم والقضاء والمالية
والدفاع والداخلية والخارجية هي أحوج ما تكون إلى ذلك، لان الفشل
فيها لا يغتفر ولا يمكن إصلاحه بسهولة، وله تأثيرات آنية ومستقبلية
خطيرة جدا.
خامسا: بناء الإنسان قبل بناء العمران
مثلت العهود الاستبدادية السابقة، والأعمال الإرهابية الفظيعة،
والعنف الطائفي المفزع في العراق صدمات اجتماعية عنيفة تركت
تأثيرها الخطير على سيكولوجية الإنسان العراقي، فهو إنسان معقد،
مأزوم، وخائف، وغير مطمئن للمستقبل، وغير واثق من الآخر، وهو بكل
المقاييس إنسان محطم الذات، ولا يمكن لومه على حاله هذه فما تعرض
له عبر تاريخه البعيد والقريب لا يمكن احتماله أبدا. أن هذا الواقع
الاجتماعي العراقي يجب إدراكه بحكمة وتفهم من قبل الساسة في البلد
وهم يتوجهون لبناء الدولة على أسس جديدة، إذ يحتاج مجتمعهم فعلا
إلى إعادة تأهيل ليتجاوز مشاكله النفسية العميقة، من خلال برامج
اجتماعية مناسبة يتم فيها الاستعانة بكل الخبرات الوطنية والدولية
في هذا المجال، وخطاب سياسي جديد مغاير لما كان يسمعه الشارع من
خطابات في العهود السابقة، وجعل كل إمكانات الدولة المادية تصب في
تحقيق هذا الهدف الذي يجب إعطاؤه الأولوية على البناء العمراني،
فمهما ارتفع العمران وزادت مظاهره لن تكون له قيمة إذا كان ساكنه
غير مؤهل نفسيا له، ولنأخذ عبرة من حقائق الحضارة المعاصرة التي
بات فيها الاستثمار في تنمية الموارد البشرية أكثر فائدة وإنتاجية
من الاستثمار في الموارد المادية، إذ كما يقال وفقا لمبادئ هذه
الحضارة أن إنسان جيد وكفوء واحد قادر على انجاز ما لا يستطيعه ألف
إنسان. إن تأهيل الإنسان العراقي وإعادته إلى إطاره السيكولوجي
الإنساني الصحيح هو الضمانة الوحيدة لعلو العمران وتحسين مظاهره
ودوام الحفاظ عليه وما عدا ذلك من أفكار ورؤى غير صالحة ألبته ولا
يرتجى منها شئ.
سادسا: الإيمان بمرجعية النص الدستوري
عندما يتولى القادة السياسيون إدارة الدولة، فأنهم يستلهمون
مبادئهم، وينظمون العلاقات المتبادلة فيما بين بعضهم البعض وبينهم
وبين شعوبهم، ويحددون شكل الحكم القائم، ومن ثم الحكم على مقدار
نجاحهم وفشلهم من خلال واحدة من مرجعيتين: الأولى هي المرجعية
الثورية إذا تأسس نظام الحكم الجديد بواسطة ثورة على النظام السابق
حيث تصبح المبادئ الثورية التي حملها الثوار قبل وبعد توليهم
السلطة هي المرجعية الأساس والمرشد الوحيد لقناعاتهم ورؤاهم
وممارساتهم. والمرجعية الأخرى هي المرجعية الدستورية إذا لم يكن
العمل الثوري أساس قيام نظام الحكم، إذ تصبح عندها نصوص الدستور
النافذ نصوصا مقدسة يحتكم إليها الساسة والأفراد، ويجعلونها
المرتكز في مطالبتهم بحقوقهم أو دفاعهم عنها، والمرشد لتخطيط حاضر
الدولة ومستقبلها، وتحديد نمط المؤسسات السائدة والعلاقة المتبادلة
بينها. وطالما أن العملية السياسية الجارية في العراق منذ عام 2003
لا يمكن أن تستمد وجودها من المرجعية الثورية، عليه لم يبق أمام
ساسة البلد إلا جعل المرجعية الدستورية المبنية على دستور عام 2005
الأساس الوحيد لبناء الدولة وتنظيم القوانين والتعليمات السائدة
فيها، بل والفيصل النهائي للحكم على مشروعية خلافاتهم ومطالباتهم،
وتحديد إدارتهم لمؤسسات الدولة وتنظيم العلاقة بينها، فما قاله
الدستور فعلوه والعكس صحيح، كما يجب تطبيق نصوص الدستور بالكامل
وتجنب الانتقائية في الأخذ بها أو تعمد خرقها، لان الدستور بني
بإرادة شعبية سواء من خلال جمعيته التأسيسية المنتخبة أو من خلال
القبول الشعبي العام به في الاستفتاء الذي جرى لهذا الغرض. أما إذا
حاول الساسة نسف المرجعية الدستورية فإنهم حقيقة ينسفون العملية
السياسية برمتها، وينسفون مشروعية وشرعية وجودهم السياسي، ويعرضون
البلاد والمواطنين إلى دوامة من الفوضى والارتباك لا يمكن التنبؤ
بعواقبها، ولن يتمكنوا من تحقيق تطلعات وطموحات الشعب في قيام دولة
مدنية صالحة، وإذا كان لدى البعض من الساسة أو الأفراد والجماعات
اعتراض أو رفض لبعض النصوص الدستورية، فان عليه أن يؤسس اعتراضه
هذا على أساس النص الدستوري مستخدما آلياته للوصول إلى مبتغاه.
سابعا: ترسيخ مبدأ التعايش السلمي بين مكونات الشعب العراقي
إن الأنظمة السابقة التي حكمت العراق لم تترك تأثيرها السلبي فقط
من خلال الخراب والدمار للبنية التحتية، والتعذيب والقتل لأبناء
الشعب، والدخول في مغامرات عسكرية خاسرة.. بل إن من أكثر التأثيرات
خطورة لهذه العهود هو ما تركته من شرخ كبير في النسيج الاجتماعي
العراقي، وطبيعة العلاقة المتبادلة بين المكونات الاجتماعية
المختلفة، حتى باتت هذه العلاقة يشوبها الكثير من التأزم والتنافر
والشك وعدم الثقة مما انعكس على طبيعة الاندفاعات السياسية لديها.
وللخروج من هذا الواقع الاجتماعي غير الصحي، وجعل التنوع بين
مكونات الشعب العراقي عامل إثراء وقوة للفعل السياسي لابد من العمل
المخلص والدؤوب من قبل النخب السياسية الممثلة لهذه المكونات
لترسيخ وتعزيز مبدأ التعايش السلمي وخلق منظومة قيم معتدلة تكون
بديلا للمنظومة الحالية المتأزمة في كثير من مفاصلها، وقد أثبتت
السوابق التاريخية في البلدان التي عاشت نفس تجربة الشعب العراقي
انه بدون ترسيخ مبدأ التعايش السلمي لن يكون هناك استقرار سياسي أو
امني، ولن يكون هناك نهوض اقتصادي ومجتمعي، كما لا يمكن لطرف ما عد
نفسه رابحا وغيره خاسر بل إن جميع الأطراف ستكون خاسرة في لعبة شد
القوى بين الطوائف والقوميات المتنازعة.
ثامنا: معالجة الفساد الإداري والمالي بحزم وقوة
يعد الفساد الإداري والمالي آفة العصر والسوسة التي تنخر جسد
المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في الدول كافة، وقد عانى العراق منه
كثيرا قبل عام 2003، ولا غرابة في ذلك، فأنظمة الحكم كانت
استبدادية والحكام اغلبهم جهلة بمتطلبات الإدارة السديدة وتستشري
بينهم الولاءات الضيقة على حساب الولاء للوطن والمواطن، فضلا عن
اعتبارات المحسوبية والمنسوبية والاستهانة بالمال العام.. التي
أنتجت إدارات هزيلة غير نزيهة تزخر بالفاسدين والمفسدين ومحط سخرية
وتذمر الرأي العام العراقي. لكن استمرار وجود الفساد وتنامي
معدلاته بعد التاريخ أعلاه يعد مشكلة حقيقية لا بد من تلافيها، لان
بناء دولة مدنية صالحة في العراق يتطلب ابتداء معالجة مشكلة الفساد
الإداري والمالي، إذ مهما كانت القيادات السياسية جيدة وحسنة النية
وراغبة في الإصلاح، فإنها لن تنجح في مهمتها بدون وجود إدارة تنعدم
فيها مظاهر الفساد أو تقل إلى حدودها الدنيا، فالفساد يشوه
الإدارة، ويتلف المال العام، ويعطل مشاريع التنمية، ويضيع حقوق
الناس، وينتقص من سمعة الدولة – داخليا وخارجيا – ويفرخ المتملقين
والانتهازيين والخونة.. لذا لا بد من وقفة حازمة بوجهه من قبل صناع
القرار من خلال تفعيل آليات المراقبة، والمحاسبة، والتنظيم
القانوني الرادع، والاختيار الصحيح للكفاءات النزيهة والقوية
ووضعها في موضع المسؤولية.
ثامنا: الحياد والتوازن في علاقات العراق الدولية والإقليمية
مما تقدم ذكره في البحث، فأن المنطقة والعالم تقف على مفترق طرق
تاريخي خطير ومهم جدا لا يمكن توقع ما سيؤول إليه من نتائج سواء
على مستوى التحالفات والصراعات أو على مستوى توجهات القوى
الاجتماعية والسياسية الصاعدة، وإذا كان مبدأ الحياد والتوازن حسن
للدولة في علاقتها مع الآخرين في الظروف الطبيعية، فما بالك عندما
تكون هذه الظروف استثنائية وشديدة التعقيد. إذن يجب على صناع
القرار في العراق أن يكونوا على مستوى الأحداث ولا يتورطوا في
تداعيات التقلبات الدولية والإقليمية، ولا يكونوا طرفا في سياسة
المحاور والاستقطابات السائدة في الوقت الحاضر، لان العراق في
مرحلة بناء تحتاج توفير معظم جهودهم لها أولا، وقدراته ضعيفة وغير
متكاملة وغير متناسقة مما يجعله من بين الأطراف الأضعف في
التوازنات القائمة ثانيا، ولا يريد أن يكون ساحة تصفية للصراعات
الدولية والإقليمية ثالثا، كما لم تكن تجاربه السابقة مع هكذا
توازنات وتحالفات متصارعة ذات مردود ايجابي عليه رابعا. إن اعتماد
مبدأ التوازن والحياد يتطلب اعتماد خطاب سياسي عراقي خارجي واحد،
وخطاب سياسي داخلي متناغم، لان العراق في بيئة شد وجذب شديدة
التعقيد وبدون هكذا خطاب سيكون أمنه الداخلي مخترقا مما سينعكس
سلبا على استقراره السياسي، وتعطيل توجهه نحو بناء دولة المواطنة.
الخلاصة
يتضح من خلال هذا البحث أن إدارة الحكم في العراق ليست أمرا سهلا
بحيث يمكن تركه للصدفة والمغامرات السياسية الطائشة وغير الواعية،
بل هو عملية معقدة وصعبة وكثيرة التحديات والمخاطر، تحتاج أن يتصف
الساسة فيها بمستوى عال من الوعي الاستراتيجي الذي يؤهلهم إلى أن
يكونوا رجال المرحلة بالنسبة لشعبهم لقيادته إلى شاطئ السلم
والأمان والرفاهية من خلال بناء الدولة المدنية التي تحتوي كل
أطياف الشعب، وتضمن تحقيق كل طموحات وأحلام أبناءه.