موقع يازهراء سلام الله عليها                          www.yazahra.org

دراسة/ ظاهرة التكفير في الأديان والرد عليها


 

     د. تامر مصطفى

أستاذ وباحث في علم الأديان المقارن

 

مقـدمــة

لم تعرف البشرية خلال تاريخها الطويل مشكلة عانت منها الأمرَّيْن وقضت على آمالها في العيش المشترك القائم على أساس التعاون والأخوة المحبَّة لبناء حضارة إنسانية متكاملة ... لم تعرف مشكلة عطلت هذا المشروع الإنساني كمشكلة التكفير والتعصُّب حيث سفكت دماء الملايين من بني البشر وأُزهقت أرواحهم على مذبح التعصُّب والتكفير.

1- فما معنى التكفير:

الكُفْرُ هو ضدَّ الإيمان.

وكَفَرَ بالخالق المدبر الحكيم: أي جحد وجوده ونفاه.

وكَفَرَ بنعمة ربِّه: أي جحدها.

وكَفَرَ بالمعروف الذي صُنع إليه أي جحده وأنكره، وهو ضد الشكر.

وكَفَرَ الشيء: ستره. وأصل الكفر الستر.

وكَفَّرَ الله له الذنب أي محاه.

ويجب أن نميّز الكُفْر عن الكَفْر:

فالكَفْرَ بالعبرانية القرية

وبالسريانية (كَفْرا) قرية أو حقل أو مزرعة.

ولذلك عندما نذكر اسم (كَفْر قاسم) نعني قرية قاسم أو مزرعة

نعود إلى موضوعنا فنقول:

والكافر اسم لمن لا إيمان له.

وكَفَّرَ فلانٌ فلاناً أي أخرجه من دائرة الإيمان والإسلام.

والواقع أنَّ هناك عدَّة مفاهيم للتكفير أصل جميعها واحد, وغايتها واحدة:

 تكفير ديني

 تكفير سياسي

 تكفير اقتصادي

 تكفير ثقافي

وأصلها: ضِيق الأفق, وعبودية الصنم الأكبر (الأنا) أي (الأنانية أو الشخصانية).

وقد عُرف التكفير بشكله (الديني والسياسي) منذ آلاف السنين، يمكن لنا أن نَذْكر منها بعض النماذج على سبيل المثال لا الحصر:

1- إبراهيم الخليل (ع) والطاغية نمرود:

كان قوم إبراهيم في مدينة أور عاصمة الكلدانيين يعبدون أصناماً متعددة جعلوا لها كبيراً، وأراد إبراهيم (ع) بتكليف من الله سبحانه إنقاذ قومه من الوثنية وعبادة الأصنام ... فجرى حوار طويل بينه وبينهم أقام من خلاله الحجَّة عليهم وأبان لهم بطلان دينهم واعتقادهم، فقابلوا حجَّته البالغة بالعنف والإرهاب وسعوا لقتله والتخلص منه عن طريق إلقائه في نار عظيمة أجَّجُوها لإحراقه بها أمام الملأ العام (وذلك لإرعاب الناس وردع أي إنسان من التحرك ضدَّ أهداف الطبقة الحاكمة الطاغية) .. فجعل الله سبحانه النار على إبراهيم برداً وسلاماً وأنقذه من ظلمهم وجهلهم وإرهابهم[1].

2- موسى (ع) وفرعون:

استكبر فرعون أمام دعوة موسى (ع) له إلى عبادة الله ربِّ العالمين، وقال لقومه:

(ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ) غافر /26/.  

وطغت النفس الفرعونية، فقالت لقومها:

(مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) غافر /29/.

ولكن فرعون في الحقيقة:

(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ)) الزخرف /54/.

3- أصحاب الأخدود ضحية التعصُّب والتكفير:

(أصحاب الأخدود): أحرقهم ملك اليهود (ذو نواس) اليمني لأنهم رفضوا الارتداد عن النصرانية... فكان اليهود أوَّل من ابتدع فكرة الإحراق الجماعي لمن خالفهم في الرأي والعقيدة، وهم من أهل نجران وكانوا على التوحيد... ومن بقي منهم تحول فيما بعد إلى عقيدة التثليث, وتأليه عيسى بن مريم بسبب التبليغ الوارد عليهم من مسيحي مصر والرومان.

وفي حديث عن الإمام علي بن أبي طالب (ع) أنه قال:

(إن الله بعث رجلاً حبشياً نبياً في أهل الحبشة فآمن به البعض، فأسروه وأصحابه، ثم حفروا أخدوداً وملأوه ناراً، وأمروهم إن لم يرتدوا عن دين التوحيد بإلقاء أنفسهم في النار، فجعل أصحابه يتهافتون في النار، فجاءت امرأة معها صبي لها ابن شهر، فلما همَّت بإلقاء نفسها في النار هابت ورقت على ابنها، فناداها الصبي: لا تهابي وارميني ونفسك في النار، فإن هذا والله في الله قليل، فرمت بنفسها في النار وصبيّها، وكان ممن تكلم في المهد[2].

وهذا حال الإمام أبي عبد الله الحسين (ع) وأولاده وأصحابه في كربلاء.

4- سقراط يذهب ضحية التكفير:

كانت القوانين اليونانية ترى أن الابتعاد عن عبادة الآلهة اليونانية والمروق منها جريمة يُعاقَبُ عليها بالإعدام، ولذا اتُهم سقراط (470- 399 ق. م) بالخروج عن الدين السائد, وإفساد عقائد الشباب, فحكم عليه بالموت تجرَّع السمَّ تنفيذاً لحكم المحكمة.

5- محاكم التفتيش وحكم الكنيسة المرعب على من خالفها.

 ظاهرة التكفير بين المسلمين

مما يدهش الباحث في قضية التكفير هو ما وصلنا عن ابن عمر من حديث لرسول الله (ص) الذي قال فيه:

(ما اختلفت أُمَّةٌ بعد نبيَّها إلاَّ ظهر أهلُ باطلها على أهل حقِّها).[3]

ويمكن إعطاء أمثلة (أتباع السيد المسيح، أتباع رسول الله (ص) ...).

الإســــلام

في حديث جبريل (ع)، قال (ص):

(الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)[4].

والحديث: (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحجّ البيت وصوم رمضان)[5].

حرمة دم من نطق بالشهادتين والقبول بظاهر إسلامه

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً) النساء /94/.

وعن أُسامة بن زيد، أنه قال:

بعثنا رسول الله (ص) إلى الحرقة من جهينة.. ثم يروي قتله لرجل بعدما نطق بالشهادتين ولوم رسول الله (ص) له وقوله له: (هل شققت عن قلبه)؟!...

تعظيم حرمة المؤمن

قال الله تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا) النساء /93/.

1- وقال رسول الله (ص): (لو أنَّ أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار)[6].

2- وقال (ص) وهو يطوف بالكعبة: (ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمّد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه، وأن نظن به إلا خيراً)[7].

3- وقال (ص): (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً أو من قتل مؤمناً متعمداً)[8].

وليس قتل النفس المؤمنة هو المحرم بل قتل أي نفس أخرى مؤمنة أو غير مؤمنة بدون ذنب فهو محرم. قال الله تعالى:

(مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) المائدة /32/.

حرمة تكفير من نطق بالشهادتين

أكَّد الإسلام على عظمة تكفير المسلم وتضليله، ونبزه بالشرك وإخراجه من حظيرة الإسلام أو نبذه بالفسق: قال الله تعالى:

(وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً) النساء /94/.

وقال عزَّ وجلّ:

(وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً) النساء /112/.

قال رسول الله (ص): (أيُّما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما، فإن كان كما قال، وإلاَّ رجعت عليه)[9].

روي أن رسول الله (ص) قال:

(كفُوا عن أهل لا إله إلا الله، لا تكفّروهم بذنب، فمن أكفر (كفَّر) أهل لا إله إلا الله فهو إلى الكفر أقرب)[10].

1- الفكر الطائفي وضرره على المجتمعات:

الفكر الطائفي أو المذهبي هو فكر وراثي منغلق، نرثه عن الآباء والأجداد ولا ينفتح على الآخر، وكثيراً ما ينحو نحو مقولة (العنصر الأفضل) ولذلك ينشأ الحذر من الآخر وعدم الاختلاط به والأخذ عنه لأنه (أي الآخر) متهم بالنسبة للطائفة التي هو غريب عنها.

والتعصب ينشأ عن حالة الإنغلاق والإنكفاء على الذات (الطائفية), وتشتد حالة التعصب هذه كلما كانت دائرة (الإنتماء الطائفي) ضيِّقة ومُغلقة على نفسها. ومن هنا فالتعصّب هو حالة نفسية جامدة مشحونة بالإنفعالات الأنانية ضد الآخر، ولا يقوم على سند منطقي أو معرفة كافية أو حقيقة علمية – بل في كثير من الأحيان يستند على أساطير أو خرافات بعيدة عن الواقع – ومن الصعب تعديله، وهو يجعل المتعصب يرى الحقلئق والأشياء فقط من منظاره الطائفي، فهو يُصمُّ ويعمي ويشوِّه إدراك الواقع.

والمتعصب لطائفته أو مذهبه شخص سريع التأثر والإنفعال والتوتر، وقابل للإنفجار والإهتياج كلما تعرض معتقده أو انتماؤه – الطائفي – أو ما يتعصب له للنقد أو الخطر.

والواقع الحق أن كل طائفة تنظر إلى الطوائف الأخرى بعدسات غير شفافة بل ضبابية بحيث لا ترى صورة الطوائف الأخرى الحقيقية، ولذا عندما يعبِّر عنها لا يكون في كثير من الأحيان واقعياً بل لا يجيد تجاهها إلا لغة الشك والريبة والإتهام.

ومن هنا ينشأ التعصب بين أبناء الطوائف الناتج عن الجهل وعدم الإطلاع والمعرفة.. وهذا ما يؤدي إلى السقوط في ظلمات الجاهلية السياسية، والجاهلية الطائفية والمذهبية والدينية والقومية وغيرها من أصناف الجاهليات التي تسوق المجتمعات – بل أبناء المجتمع الواحد أحياناً – إلى التناحر والتخاصم وعدم التواصل البنَّاء لخدمة المجتمع والوطن.

2- إدانةُ التعصب وذمُّه في أحاديث المعصومين (ع):

لقد أنار لنا رسول الله (ص) والأئمة الأطهار من آل بيته الطريق في هذا الموضوع أفضل إنارة وجلوُّه لنا أفضل تجلية في أقوالهم، نذكر منها:

آ - قال رسول الله (ص): (من  كان في قلبه حبَّة من خردل من عصبيَّةٍ بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية)[11].

ب- وقد أجاب الإمام زين العابدين (ع) لمّا سُئل عن العصبيَّة:

(العصبيَّة التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحبَّ الرجل قومه، ولكن من العصبيّة أن يعين قومه على الظلم)[12].

ج - وفي موقع آخر يقول الإمام علي بن أبي طالب (ع):

(إن كنتم لا محالة متعصِّبين فتعصَّبوا لنصرة الحقِّ وإغاثة الملهوف) غرر الحكم /3738/.

3- غايات الرسالات وقاعدة التفاضل في الإسلام:

هناك غايتان أساسيّتان من الرسالات الإلهية، هما:

آ - هداية الإنسان للإيمان بعقيدة التوحيد:

وهذا يعني أن على الإنسان أن لا يعبد ويطيع إلا الله الخالق المدبِّر الحيَّ القيُّوم.. لأنه سبحانه الوحيد الذي يعلم بمصالح الإنسان وما ينفعه في الحياة الدنيا والآخرة.. إذن على الإنسان أن لا يخضع لغير الله تعالى حتى يتحرّر من الخضوع لأيٍّ غيره.

ب - كما أرسل الله تعالى لنا رسالة ومنهجاً للحياة عيَّن لنا قدوات حسنة ونماذج بشرية طاهرة أمرنا باتباعها لأنه سبحانه اختارهم واصطفاهم ليكونوا هداة لبني البشر (أنبياء وأولياء) حتى لا نصلَّ ولا نطغى في سلوكنا وتفكيرنا.

3- بعد هاتين الغايتين للرسالة الإلهية يعلِّمنا الله تعالى قاعدة التفاضل بين بني البشر، فيقول عزَّ وجلّ:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) الحجرات /13/.

ولم يقل إن التفاضل هو على أساس الطائفة أو المذهب أو الأصل أو القومية.. إلخ.

إن الطائفية والمذهب والقومية هو ما ورثناه عن آبائنا وأجدادنا دون إرادة أو معرفة منا ولذا هي ليست مقدَّسة بحدِّ ذاتها، بل المقدس هو المنهج الذي تحمله وتتبنّاه ليوصلنا إلى الغاية المنشودة...

ولذا أمام الإنسان وقت للدراسة المقارنة وللتأمل واختيار الأحسن وهذا ما تحض عليه القاعدة القرآنية التي تقول: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) فالإنسان العاقل والحكيم ينتخب ويختار دائماً الأحسن والأفضل سواء بين المناهج أو بين القدوات والنماذج الحسنة....

4- القاعدة القرآنية للقضاء على التعصب الطائفي والمذهبي:

التأسيس القرآني والنبوي والولائي للقضاء على التعصب الطائفي والمذهبي والولاء لغير الله ورسوله:

قال الله تعالى:

(قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) التوبة/ 24/

1ـ التعصُّب النسبي: أن يكون الإنسان (عظامياً) وليس (عصامياً).

2ـ التعصب الطائفي والمذهبي والديني: (أن يرى شرار قومه أفضل من خيار قوم آخرين).

3ـ التعصب الاقتصادي (التعصب للمصالح الاقتصادية ولو على حساب مصالح الآخرين).

(الحروب الاقتصادية والويلات التي سببتها للبشرية).

4ـ التعصب الوطني والقومي (دعوها فإنها نتنة) وما سببته من حروب و ويلات للإنسانية.

5ـ (الله ورسوله) يمثّلان الحق (والثاني متعلق بالأول).

6ـ الدفاع عن الحق وإقامة العدالة.

7ـ إن لم يتمسك المسلمون بالقواعد الست السابقة فسيكونون على باطل وعندها سيهزمون أمام باطل آخر ولن ينصرهم الله أبداً لأنهم فسقوا عن أمره.

8ـ والله لا يهدي القوم الفاسقين: سنَّةٌ إلهية خالدة بأن لا يهدي أبداً القوم الفاسقين... 

الإسـلام والآخـر ـ المـواطـن ـ

أولاً: القرآن وحق الاختلاف:

قال الله تعالى :

(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) المائدة /48/.

يخبرنا القرآن الكريم بطبيعة الاختلاف في المنهج والاعتقاد، وهذا حق من حقوق الإنسان في الحياة الدنيا أن ينتخب ما يشاء من فكر وعلى الله تعالى الحساب في الآخرة، وليس من حق أحد حساب الآخر على ما اختاره إلا في مجال الحوار بالحسنى، الحوار الذي يعتمد على الحجة والمنطق والبرهان دون أن يكون له حق الإكراه والإجبار في المجال الفكري والاعتقادي.

قال الله تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ)) هود / 28/.

فالآخر الديني أو المذهبي أو القومي أو العرقي أو السياسي وما شابه ذلك – الذي عبَّر عنه أمير المؤمنين الإمام علي (ع) بعبارة (النظير في الخلق) – في إطار الجماعة الوطنية له كافة الحقوق وعليه كافة الواجبات. وأيّ تمييز على هذا الصعيد، ينذر بكوارث اجتماعية وسياسية وثقافية عديدة.

فالغيرية في المعقتد الديني أو الفكر السياسي أو الإنتماء المذهبي والقومي، لا تلغي حقوق المواطنة.. بل الكلُّ مشتركون في المواطنة ومتساوون في حقوق المواطنة.

إن الآخر في الرؤية الإسلامية، ليس مشروعاً للذبح والقتل والتدمير والإبادة، بل هو موضوعاً للتواصل والحوار والمحبَّة والإنصاف والرحمة وتنمية القواسم المشتركة. لهذا نجد أن النصوص القرآنية، تؤكد على مفاهيم الأخوة والألفة والرحمة والدفع بالتي هي أحسن. إذ يقول الله تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) فصلت /34/.

ثانياً:الإسلام والتعددية من خلال الآيات القرآنية:

1- (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) الحج /17/.

2- (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ) هود 118/ هذه سنَّة الحياة.

3- (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) الروم /22/.

4- وقد وسَّع الله تعالى دائرة التنوُّع هذه ودائرة الآخر هذا حتى شملت مخلوقات أخرى غير الإنسان، فقال عزَّ وجلّ: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم) الأنعام /38/.

ثالثاً: في معنى الآخر

إنَّ في الوجود الإنساني, آخر ديني ومذهبي وقومي وسياسي وعائلي وعرقي وجغرافي واجتماعي وثقافي. فتتعدَّد وتتنوَّع دوائر ومستويات الآخر، بتعدد وتنوع دوائر ومستويات الأنا والذات.. بحيث يصح القول: حدِّد ذاتك، يتحدَّد آخَرُك. فلا يمكن تحديد الآخر إلا بتحديد الذات، ولا تجلٍّ للذات إلا بوجود آخر مختلف ومغاير، وهذا ينطبق حتى على دائرة المعرفة التوحيدية – أي علم التوحيد -، فقد ورد في الحديث الشريف: (من عرف نَفْسَه عرف ربَّه). وممَّا يُحدَّد معنى ومضمون الآخر اليوم، هو:

الهوية المُركَّبة:

لا يوجد على الصعيد الإنساني، هوية بسيطة أو خالصة، وإنَّما جميع الهويات الإنسانية مُرَكَّبَة ومتداخلة. بمعنى أن هوية الإنسان أو المجتمع المعاصر اليوم، هي هوية مُرَكَّبة. أي تداخلت عوامل وروافد عديدة في صنعها وبلورتها وتجليتها. بحيث أن الذات الثقافية والفكرية لدى كلِّ إنسان، هي وليدة روافد ثقافية متنوعة. حتى نستطيع القول: أن بعض الآخر هو فينا، كما أن بعض ذواتنا هو موجود ومتوفر في الآخر. ولا يمكن إزاء هذه الحقيقة إلا القبول بضرورة الإنفتاح والتواصل مع الآخر. فالهويات المركبة ليست نتاج العزلة والإنكفاء، بل هي وليدة التواصل والتفاعل الثقافي والحضاري الإنساني.

إنَّ الآخَرَ – بثقافته – يدخل بيوتنا دون أي مانع أو حاجز يمنعه فينفذ إلى عقولنا ووجداننا ويتفاعل مع ذاتنا وما تحمله من ثقافة ليعطينا هوية جديدة مركَّبة.

ومن هنا يأتي الواجب الملزم لنا بأن يكون لنا باعٌ طويل وقوي في صناعة التطور العلمي والتقني والثقافي لنساهم في صناعة هوية الإنسان الآخر ونُطعِّمه بروافد من ذاتنا حتى يكون بيننا وبينه قواسم مشتركة ممكن أن نلتقي عليها، بدل أن نظل متلقِّين خاملين مستهلكين لما تفرزه لنا ذاتُ الآخر خصوصاً إذا كان هذا الآخر مغرضاً ويحمل هويَّة معادية لهويتنا.

يجب علينا أن لا نغفل القاعدة التي تقول: (الفهم قبل التفاهم).

رابعاً:العلاقة مع الآخر ومشروع التواصل والتعايش بين الناس.

قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات /13/.

إن هذه الآية الكريمة من سورة الحجرات التي مرت معنا أعلاه تؤسس للعلاقة مع الآخر وتبلور نمط العلاقة الحضارية معه.

فالآية المذكورة تقرر في بداية الأمر، أن الاختلاف شأن طبيعي وجبلّة إنسانية وناموس كوني، وهو موجود وراسخ في حياة الإنسان في جميع عصوره المديدة.

وتعتبر هذه الآية الكريمة الاختلاف بين الناس حافزاً رئيسياً لأن ينطلق الناس منه لبناء علاقاتهم وتواصلهم على قاعدة التعارف التي تقوم على الاعتراف بالآخر وعلى أن الأفضلية عند الباري عز وجل هي للأتقى، وهذه الأفضلية ليست ذاتية وإنما كسبية، بمعنى أن عمل الإنسان وجهده وسعيه وكسبه في الحياة هو الذي يحدد معيار الأفضلية.

ويوجهنا القرآن الكريم إلى نمط التعامل مع الآخرين، بقوله: كيف نتعامل مع الآخر:

1ـ (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيراً منهنّ) الحجرات / 11/.

حيث أننا لا يمكن أن نستكشف جوهر ذواتنا إلا من خلال معرفة الآخر، فهو بوّابة اكتشاف جوهر ذاتنا، فالآخر وفق هذا المنظور هو ضرورة مجتمعة ومستقبلية لذواتنا وإن المطلوب هو الانعتاق من نرجسيّتنا والتحرر من هواجسنا ومخاوفنا، وننطلق في مشروع علاقة إيجابية وحضارية مع الآخر المختلف سواء في الدائرة الوطنية أو القومية أو الإنسانية.

التعامل مع الآخر بالإنصاف والعدل

2ـ قال تعالى: ( ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) المائدة /8/.

(لا يجرمنكم شنآن قوم: أي لا يحملنكم بغض قوم ما على ألا تعدلوا)

فالعلاقة مع الآخر يجب أن تنطلق من مفهوم العدل والإنصاف.

3ـ قال عز وجل: ( وقلْ لعبادي يقولوا التي هي أحسن، إنّ الشيطان ينزغُ بينهم، إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً) الإسراء /53/.

(ينزغ بينهم: يفسد ويهيّج الشرّ بينهم).

4ـ قوله تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ)) البقرة /256/

فالتواصل بين الناس يقوم على أساس الاحترام الإنساني المتبادل ونبذ الإكراه بكل أشكاله.

5ـ والحوار بين الناس يجب أن يكو بالتي هي أحسن والإلتزام بمقتضيات العدالة والإنصاف.

قال تعالى: ( ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إنّ ربّك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) النحل /125/.

6ـ وقال عزّ وجلّ: ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌ حميم) فصلت /34/.

7ـ (وقل الحقّ من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) الكهف /29/.

8ـ وقوله تعالى: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس /99/.

الآيتان 7و8  تؤكدان على أنه (لا إكراه في الدين) وأن الله تعالى أعطى الإنسان الحرية المطلقة ليختار بنفسه ما يرغبه من عقيدة ومنهج ومسلك.

ـ وقد قال رسول الله (ص) في موضوع قبول الآخر والتحاور معه:

(أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض).

ومن أهم قواعد التعامل الإنساني، هي قوله تعالى:

9ـ ( فلا تزكوا أنفسكم، هو أعلم بمن اتّقى) النجم /32/.

فعندما تتحرك (الأنا) وتثمر العجب والكبر تتحرك باتجاه الفساد والتعدي على الآخر، فإذا قابلتها (أنا الآخر) بنفس السلاح (أي العجب والتكبر) يحدث الشر والصراع بين باطلين، أما إذا تحركت (أنا الآخر) على قاعدة (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن) فإن هذا هو الجهاد الأكبر.

ـ والواقع إن قبول الآخر هو أصل قرآني إنساني فقد قال الله تعالى بخصوص رسوله الكريم محمد (ص):

(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء /107/.

وكما هو رسول الله (ص) رحمة للعالمين يجب أن نكون نحن كذلك رحمة لغيرنا ـ للآخر ـ وقد أعطانا الله سبحانه قاعدة عظيمة في التعامل مع الآخر، وهي قوله عز وجل:

10ـ (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) الممتحنة /8ـ9/.

ـ لقد جاء الاسلام بكل نظمه وتشريعاته من أجل تحرير الإنسان وصيانة حقوقه وكرامته، والاختلاف في الفكر والعقيدة والسياسة والهوية لا يشرع بأي حال من الأحوال انتهاك الحقوق.

فالاختلافات ليست سبباً أو مدعاة لنقصان الحقوق، وإنما تبقى حقوق الإنسان مصانة وفق مقتضيات العدالة ومتطلبات العيش المشترك، فإنهم صنفان (إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).

ـ بعد كل ما تقدم نقول:

1: إن غياب المرجعية الإسلامية الموحدة تسبب في هذه المرحلة خصوصاً في فوضى الإفتاء، وسهّل على التكفيريين أن يفعلوا ما فعلوا، بل لو كانت هناك مرجعية واحدة لكل مذهب من المذاهب على الأقل، لما سادت العقلية التكفيرية المدمرة، ولما استبيحت دماء المسلمين وارتكبت كل هذه الجرائم البشعة باسم الاسلام.

2: لابد أن يبقى شعار الوحدة الإسلامية شعاراً جامعاً لكل المسلمين ولو تعددت مذاهبهم ومرجعياتهم فكل فكر إسلامي لا يستهدف توحيد المسلمين وتحقيق مصالحهم يكون بعيداً عن روح الإسلام، بل هو فكر فئوي طائفي تعصبي يعمل على هدم كيان الإسلام والأمة.

3: يجب أن يلتقي المسلمون جميعاً في أوطانهم على قاعدة (المواطنة) فكل مواطن له حقوق المواطنة كغيره من المواطنين مسلمون كانوا أم غير مسلمين.

4: يجب التعامل مع المواطنين غير المسلمين على قاعدتي: المواطنة والنظراء لنا في الخلق، أخوة في الإنسانية, وأخوة في المواطنة, نتعاون معاً على حفظ سلامة الوطن والعيش المشترك بسلام وأمان.

5: لا يحق لمسلم إكراه غيره على الاعتقاد بالدين الإسلامي وترك معتقداته (لا إكراه في الدين)، لكن على المسلمين أن يحاوروا أهل الكتاب بالحكمة والموعظة الحسنة، فالمسلم ينشد لنفسه ولغيره حرية الاعتقاد.

6: يحق للإنسان المسلم التعامل على أساس الاحترام المتبادل مع أي إنسان آخر على سطح هذا الكوكب (باستثناء المقاتلين لنا في الدين, والمغتصبين للأرض, وذلك بالاعتماد على القاعدة القرآنية التي تقول:

(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) الممتحنة /908/.

7: لنتعامل مع الآخر ـ غير المحارب لنا ـ على هذه القاعدة الإنسانية العظيمة التي أسسها لنا أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) بقوله:

(عامل سائر الناس بالإنصاف، وعامل أخاك ـ في الإيمان ـ بالإيثار).

نتيجـــة

تبرز أمامنا اليوم قضية مسؤولية الأجيال بعضها نحو بعض، فما نوع العالم الذي سنتركه للأجيال القادمة؟

نحن ورثة الأجيال الماضية فماذا سنورث الأجيال القادمة؟

يجب علينا أن نعلِّم الجيل الناشئ هاتين القاعدتين الإنسانيتين اللتين علمنا إياها أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع):

الأولى: (الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).

الثانية: (عامل سائر الناس بالإنصاف وعامل أخاك بالإيثار).

إن نحن نقلنا هذه الثقافة ـ بعد تمثلها ـ المبنية على هاتين القاعدتين إلى أطفالنا وإلى الجيل الناشئ نكون قد وضعنا أقدامهم على طريق التعامل الإنساني الصحيح فيما بينهم وفيما بينهم وبين الناس الآخرين.

فالأخلاق هي نواة بناء الحضارة الإنسانية.

 

 

 

موقع يا زهراء سلام الله عليها لكل محبي الزهراء سلام الله عليها فلا تبخلوا علينا بآرائكم ومساهماتكم وترشيحكم كي يعلو اسمها سلام الله عليها ونعلو معه