غير ان هذ الخصوصية قد لا تتوفر للجميع، وعلة الاختصاص هنا ناتج عن الضرورة الحتمية في توفر قيادة معصومة تقود مسيرة الحياة في غياب الرسول الخاتم. غير ان بعض المذاهب الفكرية الاسلامية لا تتفق في اعتبار العقل كمصر من مصادر الشريعة، بل ان تقييمها لتحديد المصادر التشريعية تقف عند حدود المنع وأغفال حجية العقل.

أبن تيمية والعقل:

يتوهم اتباع المدرسة السلفية ان قول ابن تيمية (ت 728/1328) في الحسن والقبح العقليين يكفي لادعاء فهم ابن تيمية للعقل ولادراك حجيته، فدراك العقل للحسن والقبيح لايكفي دون ان يصبح هذا العقل حجة، ولو كان ما يقولة ابن تيمية حجة لوجب علية الايمان بحجية العقل كمصدر من مصادر التشريع فمن المذاهب السبعة (الامامية الاثني عشرية، الحنفية، الحنبلية، الشافعية، المالكية والاباضية) التي لازال حية ولها اتباع يتفرد المذهب الحنبلي برفض العق كمصدر من مصادر التشريع، وقدةنهج ابن تيمية منهج ابن حنبل، ثم اتى ابن عبد الوهاب ليتبع ابنتيمية في احياء المدرسة الحنبلية. فابن تيمية يعتبر العقل موافقا للنقل ( وليس موافقا للشرع) فصحة النقل وفساده مرتبطة بصحة العقل وفساده، فيقول في المنهاج: " والقول كلما كان افسد في الشرع كان افسد في العقل فان الحق لايتناقض، والرسل انما اخبرت بحق والله فطر عباده على معرفة الحق، والرسل انما بعثت بتكميل الفطرة لابتغيير الفطرة " 1 . هذا الموقف لابن تيمية لا يطرح التلازم مابين ما يدركه العقل وما يحكم به الشرع وهو ما نقول عنه في لغة المتشرعة بالدليل العقلي فبدون اثبات تلك الملازمة لا يثبت الدليل العقلي ففي منهج اهل البيت عليهم السلام نرى:

أولا: ان الاحكام الشرعية تتبع المصالح والمفاسد من موقف تلازم العلة بالمعلول، ففي حالة ادراك العقل لموقف ما بكل خصوصياته في مسألة ما نجد ان الشرع يلازمه في حكمه فيها .

ثانيا: يجب ادراك ان كل من الحسن والقبح حكمان عقليان وهما ليسا مما صنعه العقلاء، بل هما من الاسس العقلية التي يدرك بها العقل مستقلا.

ثالثا: الحسن والقبح ليسا تابعين لقضية المصالح والمفاسد، فلا يمكن اعتبار ما يرى فيه العقلاء المصلحة حسنا، ولا مايروا في المفسدة قبيحا، أي ان المسالة لاتتعلق برأي الفقهاء.

رابعا: ان معنى الدليل العقلي هو حكم العقل بالملازمة بين الحكم الثابت شرعا أو عقلا، وبين حكم شرعي آخر، محكم الشرع باستحالة التكليف دون علة.

فابن تيمية يرفض هذا الامر ويترك اتباع العقل اذا لم يكن موافقا للنقل، وهو بالتالي يحكم موقف الرجال بدلا من الحكم الشرعي المبني على الملازمة بين العقل والشرع. فقد حارب ابن تيمية المناطقة ( اصحاب علم المنطق) والفلاسفة واعتبرهم من اصحاب البدع واراد ان يعبد الله دون استخدام العقل، ودون ايجاد تلازم منطقي بين العقل والشرع، ففي الوقت الذي يقول فيه الرسول الخاتم: " إننا معاشر الانبياء نكلم الناس على قدر عقولهم " 2 . باعتبار قيمة العقل ومجال ادراكة، فان ابن تيمية يرفض هذه الحجة، وقوله صلوات الله عليه وآله: " أول ماخلق الله العقل، فالاعتماد عليه في الدنيا والاخرة " 3 ، فكل استدلالات الفقهاء والفلاسفة وعلماء الكلام تتبع المنهج العقلي، بل ان الله تعالى شأنه يعلمنا في كتابه العزيز الاستدلال العقلي فيتكرر قوله في كل قضية ومسألة : " أفلا يتدبرون، أولا يعقلون " 4 ، بينما ابن تيمية لايستعمل العقل ويقول بالتجسيم في تفسيره لنصوص الصفات، فيجعل لله (يدا ووجها وعينا وزمانا ومكانا) حاشا الله وتعالى شأنه ان يكون له ما اعتقده ابن تيمية وابن عبد الوهاب ومن شابههما وتابعهما من خوارج العصر ( الوهابية). فابن تيمية يقول: " ما من موجود ألا جسم أوقائم بجسم " 5 ، فالتجسيم الذي ينافي العقل في الصفات يقره ابن تيمية باعتباره قضية مسلم بها. فتجاهله للعقل والمسائل العقلية يقودة الى الكثير من الانحراف الفكري خاصة في الاعتماد الكلي على النقل مقابل العقل، ففي كتابه (درء تعارض العقل والنقل) يقرر ابن تيمية الاكتفاء بالادلة السمعية ( الشفهية) باعتبارها كافية وقطعية ويقول عن كتابه هذا: " اما كتابنا هذا فهو بيان انتفاء المعارض العقلي وابطال قول من زعم تقديم الادلة العقلية " 6 .

لاشك ان تجاهل المنهج العقلي يعني تجاهل احد مصادر التشريه وبالتالي فان معايير الاحكام ستبقى قاصرة، والشارع سيحتاج الى البحث في موضوعات جانبية وثانوية ليبرر تجاهله للعقل وما ينتج عن هذا التجاهل من قصور. من الغريب ان نجد حتى هذه اللحظة من يدافع عن معتقدات ابن تيمية وابن عبد الوهاب معتبرا ان شهرتها حجة في حين ان شهرتها لاتعني الاجماع، فعلماء المذاهب لم يقولوا بمقالة ابن تيمية وكلهم قد سبقه علما وزمنا، وكلهم قد انتقص من آراءه لابتعادها عن المنهج العقلي ولمخالفتها الصريحة للكتاب والسنة المطهرة، فابن تيمية وابن عبد الوهاب احق ان يكفروا، ويطردوا ويمنع اتباعهم، حيث اوجدوا في الاسلام من البدع ما لم ينزل بها كتاب، ولم يقل بها نبي مرسل، أن محاولة تأليه ابن تيمية وفرض منهجه جريمة شرعية واخلاقية تحتاج الى مواجهتها لتقويض كل السلبيات التي حسبت على الفكر الاسلامي الاصيل.

1.راجع ابن تيمية، المنهاج، 1/82.
2.البحار، 1/106 نقلا عن المحاسن للبرقي.
3.البحار، 1/97 نقلا عن غوالي اللئالي.
4.تكررت هذه الالفاظ في اكثر من 46 موردا في الكتاب العزيز.
5.التأسيس، 1/9.
6.أنظر ابن تيمية ، درء تعارض العقل والنقل/المقدمة.