.
وتتحقق التقوى بالعبادة التي خُلِق
الإنسان في الدنيا لأجلها. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾.
إنما العبادة - بجميع أنواعها ومفرداتها -
التي هي الهدف من خَلْق الإنسان في الدنيا هي هدفٌ لبلوغ
التقوى. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
والصوم هو العبادة الأسهل التي يُمْكِنُ
لكل إنسان أن يستعين به للتحلي بخصلة الصبر وهي أمِّ الفضائل؛
وبالصبر تنمو الإرادة، وتنشط العزيمة؛ وبالصبر والإرادة
والعزيمة يتمكن الإنسان من كبح جماح النفس الأمارة بالسوء،
ويتمكن من ترويضها بترك الشهوات التي مَنْ تركها كان حرّاً؛
والحرُّ هو القادر على بلوغ التقوى. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ
كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ﴾.
وكما هي العبادات شُرِّعتْ من أجل بلوغ
التقوى كذلك الأحكام والحدود والقصاص التي تحفظ حياة البشرية
فضلاً عن أمْنِها شُرِّعت من أجل بلوغ التقوى. يقول الله
سبحانه وتعالى: ﴿وَلَكُمْ
فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ﴾.
ولقد بعث الله الأنبياء، وأرسل الرسل،
وأنزل الكتب، وأمر بالتمسك والاعتصام والعمل بما فيها من أجل
بلوغ التقوى. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ
خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
ويقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذ
نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ
أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ
وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
إن كل ما نَزَل به الوحي من العبادات
والمعاملات والأحكام والنُظُم والتشريعات والسنن والحِكَم
والمعارف والتوجيهات والإرشادات؛ كل تلك السُّبُل الموحى بها
من السماء تكاملت، وجُعِلَتْ صراطاً وحيداً إلى الله؛ وأمَرَ
الله العباد بإتباع هذا الصراط، واجتناب ما عداه من السُّبُل
من أجل بلوغ التقوى. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنَّ
هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ
السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ
وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
ولقد جعل الله التقوى الباب المفتوح الذي
لا يُغْلَق للخروج من كل الأزمات والضغوط السياسية والأمنية
والاقتصادية والاجتماعية وغيرها؛ وجعل التقوى أيضاً الباب
المفتوح الذي لا يُغْلَق للدخول في كل الخيرات والنعم المادية
والمعنوية. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَن
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا 2 وَيَرْزُقْهُ مِنْ
حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾.
ولم تكن التقوى هي الباب المفتوح للخروج
والدخول فحسب؛ بل هي القوة التي بها يتمكن الإنسان من تجاوز كل
العقبات والصعاب، ويفك كل عقدة، ويزيل كل عسر؛ وبالتقوى تتيسر
كل الأمور أجمع ومن دون استثناء. يقول الله سبحانه وتعالى:﴿وَمَن
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾.
إن التقوى هي العلاج لكل الأسباب - من
الذنوب والمعاصي وكل أدران الحياة - التي تُضْعِف الإنسان أو
تُعْجِزُه، وتثقل كاهله وتعيقه عن الانطلاق إلى رحاب الحياة
وسعتها؛ والتقوى هي السبيل لمضاعفة الرحمة الرحمانية التي
تُسَخِّر للإنسان الكون وما فيه من تكوينات؛ ولنا في قصة قصر
بلقيس الذي نقله المؤمن آصف الذي عنده علم من كتاب التواراة من
اليمن إلى فلسطين في أقل من طرفة عين شاهد على ذلك؛ والتقوى هي
السبيل لمضاعفة الرحمة الرحيمية التي تكشف للإنسان الغطاء
لبلوغ اليقين. قال الإمام الصادق
: ﴿وأشعر
قلبك التقوى تنل العلم﴾.
والتقوى هي السبيل لمضاعفة الرحمة الإلهية، وهي التي ترفع
ذِكْرَ الإنسان، وتبلغ به المقام المحمود في الدنيا والآخرة،
وتجعله من المكرمين. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَن
يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ
لَهُ أَجْرًا﴾.
إن الله جعل التقوى باباً لرحمته الواسعة،
وبعث الأنبياء، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب التي فَصَّلتْ
الكيفية والمراد من العبادات والمعاملات والأحكام والنُظُم
والتشريعات والسنن والحِكَم والمعارف والتوجيهات والإرشادات من
أجل بلوغها؛ ولكن الله مع ذلك كله اختار العدالة وجعلها أقرب
السُّبُل لبلوغ التقوى لأن الظلم هو الذي يحجب القلب عن نور
التقوى. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ
شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ
عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ﴾.
ولكن قبل الحديث عن أهمية ومفردات العدالة
التي بها تتحقق كل الأهداف السامية؛ لابد من الحديث عن النبع
الصافي الزلال للعدالة؛ وهو الحق الذي به فقط يكون الهدف هدفاً
سامياً ومشروعاً؛ وهكذا كل الأسس والوسائل تأخذ سموها
ومشروعيتها من الحق فقط لا غير؛ وبالحق فقط تتحقق العدالة؛ فلن
تتحقق العدالة التي لا تتجزأ إلا بالحق. يقول الله سبحانه
وتعالى: ﴿وَمِن
قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ
يَعْدِلُونَ﴾ ويقول
الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمِمَّنْ
خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾.
إن إتباع الهوى هو السبب لاستكبار النفس،
وعدم التواضع للحق؛ واستكبار النفس يسبب الجحود بالرغم من يقين
النفس بالآيات الواضحة، والأدلة الساطعة، والبراهين القاطعة؛
والجحود يؤدي إلى الضلال والتيه والتخبط؛ ولكي لا نتزحلف في
زحلوفة وزحاليف التيه ولا نتزحلق في زحلوقة وزحاليق الضلال يجب
علينا أن نتواضع للحق ونتبعه ونتمسك به ونحكم به. يقول الله
سبحانه وتعالى: ﴿يَا
دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم
بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى
فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ
عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا
يَوْمَ الْحِسَابِ﴾.
إن الله وعَد المستضعفين من أهل الحق
الذين لا يحكمون إلا بالحق وبه يعدلون بالاستخلاف والسلطة
والحكم، وجَعْلِهم الزعماء والقيادات للناس، وجَعْلِهم
الوارثين لكل كراسي العروش في دول العالم أجمع، وإعطائهم
القدرة والمِكْنَة على الحكم، وإدارة البلاد، وقيادة العباد.
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَنُرِيدُ
أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ
وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ 5
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ
وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾.
ولكن الله سبحانه وتعالى يبين فلسفة
الاستخلاف والتربع على العرش والتمكين؛ وأن كل ذلك ليس هدفاً
لذاته؛ فالسلطة والحكم ليس هدفاً ولا غاية للمؤمنين؛ وإنما
وسيلة وسبيل لإقامة الحق والعدل للتحرر من عبودية الأرباب من
دون الله، والدخول في العبودية الخالصة لله، والتحرر من عبودية
المال، وتحقيق العدالة الاقتصادية، ونشر الفضيلة، واقتلاع
الرذيلة. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن
يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ
وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ
كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي
الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ
وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور ِ﴾.
ودخل ابن عباس على الإمام
؛
فابتدأه الإمام
قائلاً:
يا ابن عباس: أعندك الخبر؟ فقال ابن عباس: قد رأيت طلحة
والزبير.
فقال أمير المؤمنين: إنهما استأذنا في العمرة، فأذنت لهما بعد
أن أوثقت منهما بالأيمان أن لا يغدرا ولا ينكثا ولا يحدثا
فساداً. ـ وبعد هنيئة ـ قال: والله يا بن عباس: إني لأعلم
أنهما ما قصدا إلا الفتنة، فكأني بهما وقد صارا إلى مكة ليسعيا
إلى حربي، فإن يَعْلِي بن مُنْبِه الخائن الفاجر قد حمل أموال
العراق وفارس لينفق ذلك، وسيفسد هذان الرجلان علي أمري،
ويسفكان دماء شيعتي وأنصاري، فقال ابن عباس: إذا كان ذلك عندك
يا أمير المؤمنين معلوماً، فلم أذنت لهما؟ هلا حبستهما،
وأوثقتهما بالحديد، وكَفَيْتَ المؤمنين شرهما؟ فقال أمير
المؤمنين متعجباً: يا ابن عباس أتأمرني بالظلم أبدأ؟ وبالسيئة
قبل الحسنة؟ وأعاقب على الظُّنَّة والتُّهْمَة؟ وأؤاخذ بالفعل
قبل كونه؟ كلا والله، لا عَدَلْتُ عما أخذ الله عَلَيَّ من
الحكم والعدل، ولا أبتدأ بالفصل، يا ابن عباس: إنني أذنت لهما
وأعرف ما يكون منهما، ولكني استظهرت بالله عليهما والله
لأقتلنهما ولأخيبن ظنهما، ولا يلقيان من الأمر مُنَاهُما، وإن
الله يأخذهما بظلمهما لي، ونكثهما بيعتي، وبغيهما علي.
إن الهدف السامي والحقيقي من الاستخلاف
والتربع على الكرسي والتمكين والسلطة والحكم والقضاء هو إقامة
الحق، وبسط القسط والعدالة، ونشر الحرية، ودفع الباطل، ودحض
الظلم والجور، واقتلاع الاستبداد؛ فالأمارة والسلطة والحكم
والدولة لا قيمة ذاتية لها أصلاً؛ نعم لها قيمة حيثية فهي من
حيث إقامة الحق، ودفع الباطل لها قيمة من تلك الحيثية ليس إلا؛
فإذا فقدت الأمارة والسلطة والحكم والدولة حيثية إقامة الحق،
ودفع الباطل سقطت قيمتها فضلاً عن شرعيتها. قال عبد الله بن
العباس دخلت على أمير المؤمنين
بذي
قار وهو يخصف نعله فقال لي: ﴿ ما
قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة لها، فقال
:
والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً ﴾.
ولكن أين العالَم الإسلامي - حكام وعلماء
وشعوب - من شِرْعَة الأمير ومنهاجه؟ إنهم ليسوا بعيدين عنه
فحسب، بل إنهم يفكرون ويعملون بخلافه حيث جعلوا الدولة
والأمارة والسلطة هدفاً لنزواتهم وشهواتهم، وجعلوا الحق والقيم
وسيلة وعجينة طيِّعة بأيديهم للوصول إلى أو البقاء في سلطة
الدولة والأمارة والسلطة، وجعلوا الحق والقيم مطية للهوى
والشهوة؛ وهذا التفكير الأهوج، والعمل الأعوج هو سبَّب
غَرَقِنا في سَكَرَات الظلم، وزوبعة البغي، وطُوفان الجور،
وأعاصير الطغيان، ودوامة العدوان، ومستنقع الشقاق، ووحل
النزاع، ونار الفتن، وإضرام الحروب؛ ولن نخرج من لهيب حرِّها
وحممها، وكابوس شهيقها وزفيرها إلا بجعل الحق والعدالة هدفاً،
وجعل الدولة والأمارة والسلطة وسيلة لا قيمة لها إلا بإقامة
الحق، وتحقيق العدل، ودفع الباطل، واقتلاع الظلم. وهذا ما
ينبغي للمؤمنين الالتفات إليه والالتزام به شِرْعَة ومنهاجاً.
فإذا كانت السلطة والدولة وسيلةً، وليست
هدفاً، ولا قيمة ذاتية لها؛ وإنما لها قيمة حيثية فقط فهي من
حيث إقامة الحق، ودفع الباطل لها قيمة وإلا فلا؛ فلا ريب أن كل
ما يُوصِل إليها هي وسائل ولا قيمة ذاتية لها؛ وإنما لها قيمة
حيثية فقط - وبشرط مشروعيتها أيضاً -؛ فهي من حيث إقامة الحق،
ودفع الباطل لها قيمة وإلا فلا؛ فالدستور والقانون وتداول
السلطة وصناديق الاقتراع والانتخابات والديمقراطية والأحزاب
والنقابات والجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني وبقية العناوين
السياسية وهكذا كل المقدمات لتلك العناوين لا قيمة ذاتية لها؛
وإنما لها قيمة حيثية فقط؛ فهي من حيث إقامة الحق، ودفع الباطل
لها قيمة وإلا فلا؛ فالشرعية والسيادة والسلطان فقط للحق الذي
به تتحقق العدالة التي تستوحى وتستلهم من الحق فقط.
فلا شرعية ولا سيادة ولا سلطان إلا للحق
وبه فقط يقام العدل.
ولا شرعية ولا سيادة ولا سلطان للدولة إلا
إذا كانت دولة حق وعدل.
ولا شرعية ولا سيادة ولا سلطان للدستور
إلا إذا كان دستور حق وعدل.
ولا شرعية ولا سيادة ولا سلطان للقانون
إلا إذا كان قانون حق وعدل.
وهكذا لا شرعية ولا سيادة ولا سلطان
للأحزاب والنقابات والجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني وبقية
العناوين السياسية إلا إذا كانت سبيلاً لإقامة الحق والعدل،
وقائمة على أساس الحق والعدل.
وهكذا لا شرعية ولا سيادة ولا سلطان
لتداول السلطة وصناديق الاقتراع إلا إذا كانت سبيلاً لإقامة
الحق والعدل وقائمة على أساس الحق والعدل.
إن القراءة الواعية، والدراسة الموضوعية
للواقع السياسي تكشف لنا أن الكثير إن لم يكن الأكثر من الذين
يطالبون بتداول السلطة، وصناديق الاقتراع لحكم الدولة هم الذين
يرفضون ويمنعون تداول السلطة، وصناديق الاقتراع لحكم الأحزاب
أو التجمعات أو الكيانات التي يتزعمونها، ويقاتلون لمنع تداول
السلطة، وصناديق الاقتراع فيها؛ وهذا يدل على أحد أمرين إما أن
عقيدة هؤلاء الزعماء في تداول السلطة، وصناديق الاقتراع وسائل
محدودة تقتصر مشروعيتها وصلاحيتها لمؤسسات الدولة فقط لمنع
احتكار السلطة فيها!! وبالتالي هناك خلل، أو تشويش في مفهوم
تداول السلطة وصناديق الاقتراع؛ ويجهله المفكرون السياسيون!!
فضلاً عن عامة الناس؛ وإما أن هؤلاء يعتقدون أن تداول السلطة،
وصناديق الاقتراع غير مشروعة، أو غير صالحة للعمل السياسي
وبالتالي فإن زعماء هذه الأحزاب والجمعيات والتجمعات والكيانات
والمؤسسات و... و... تعيش التناقض الفكري السياسي، وتزوير
الرؤى السياسية، وتجهيل الناس؛ وبالتالي فإن عقلية وسلوك هذه
الزعامات لا يختلف عن عقلية وسلوك زعماء الدول في الاحتكار
للزعامة، وممارسة الاستبداد والإقصاء والتهميش والتسقيط
والاستئصال لكل مَنْ يَحْلَم بمزاحمة الزعيم الرمز، والزعيم
الأوحد، والزعيم الفلتة، والزعيم الاستثناء، والزعيم الذي لم
يُخْلَق مثلُه في البلاد؛ فكل من هؤلاء هو الزعيم الأوحد دون
سواه منذ اعتلائه عرش الزعامة إلى مماته؛ بل ويورثها لصلبه أو
عشيرته؛ وهؤلاء كلهم زعماء الدول والأحزاب و... و... في سلَّة
واحدة، ويرتعون من مزبلة واحدة؛ فكلهم يؤمنون بزعامتهم،
وتسلطهم فقط، ويجحدون الحق، ويُغَيِّبون الحقوق، ويَدُوسُون
على العدالة، ويصادرون الحريات، ويُكَمِّمُون الأفواه،
ويُخْرِسون الألسن، ويكسرون الأقلام؛ فهؤلاء الزعماء للدول أو
الأحزاب أو... أو... هم الفرد والمثال والنموذج الأبرز للأرباب
الذين يجب أن يتعاهد كل مَنْ يؤمن بالله من جميع الديانات
والمذاهب على التحرر من عبوديتهم، وعدم اتخاذهم أرباباً من دون
الله. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ
نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً
أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ
اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾.
وهؤلاء هم الفرد والمثال والنموذج الأبرز للطواغيت الذين يجب
اجتنابهم، والكفر بهم، والتحرر من عبوديتهم أجمع. يقول الله
سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ
بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ
وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ
وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي
الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾.
ويقول الله سبحانه وتعالى: ﴿لاَ
إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ
الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ
لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
ويقول الله سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا
أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن
يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن
يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ
ضَلاَلاً بَعِيدًا﴾.
وهؤلاء هم الفرد والمثال والنموذج الأبرز
للرجس من الأوثان الذين يجب اجتنابهم تعظيماً لحرمات الله التي
ينتهكها الرجس من الأوثان. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ذَلِكَ
وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ
رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى
عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ
وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ ولا
يجوز التحرر من عبودية رجسٍ من الأوثان والانتقال إلى عبودية
رجسٍ من الأوثان آخر؛ يقوم باستغلال قِوانا، واختطاف قدراتنا،
وتسخير إمكانياتنا لتكريس ألوهيته الفرعونية لاستعباد الناس،
أو يقذف بنا في هامش الحياة وحضيضها؛ وإنما يجب التحرر من كل
رجسٍ من الأوثان، والميل والدخول في عبودية الله وحده. يقول
الله سبحانه وتعالى: ﴿حُنَفَاء
لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ
فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ
أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾.
وأما الديمقراطية التي تعني حكم الشعب إذا
كان المقصود منها حق الاختيار لمن يُمَثِّلهم، ويكون وكيلاً
ونائباً عنهم لإحقاق حقوقهم، وتحقيق مصالحهم الطبيعية
والمشروعة فالديمقراطية بهذا المعنى حقٌّ مشروع لهم. وأما إذا
كان المقصود منها حكم الشعب مقابلاً لحكم الله في العقيدة
فالديمقراطية بهذا المعنى كفرٌ وزندقة؛ والقائل بها كافرٌ
وزنديقٌ. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَن
لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ
الْكَافِرُونَ﴾.
وأما إذا كان المقصود منها حكم الشعب مقابلاً لحكم الله في
التشريعات والقضاء فالديمقراطية بهذا المعنى ظلم؛ والقائل بها
ظالم. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَن
لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ﴾.
وأما إذا كان المقصود منها حكم الشعب مقابلاً لحكم الله في
الأخلاقيات فالديمقراطية بهذا المعنى فسق؛ والقائل بها فاسق.
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَن
لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ﴾.
إن الحق هو الشيء الثابت؛ ومصدره وحيُ
السماءِ والعقلُ الذي لم تحجبه الأهواء أو الشهوات؛ ويقابل
الحق الباطل وهو الشيء الزائل؛ ومصدره جهلُ الإنسانِ والهوى.
ويقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ .... فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا
أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ
مِنَ الْحَقِّ .... * وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ
اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن
يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ .... *
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾.
والإنسان العاقل هو من يُسَلِّم بالحق
ويَتَّبِعه؛ وليس العاقل هو من يملك مخزون من المعلومات؛ بل
وليس بعاقل مَنْ يتمكن من التمييز بين الحق والباطل، أو بين
الصواب والخطأ؛ ولكنه يستكبر ويجحد، ولا يتبع الحق، ولا يختار
الصواب. يقول الإمام الكاظم
: ﴿ يا
هشام: تواضع للحق تكن أعقل الناس ﴾.
إن الحق هو المرجعية العليا والوحيدة
للفكر والسعي، وللعلم والعمل، وللمعرفة والسلوك، وللرؤية
والموقف؛ وهو الهدف الجامع لكل الأهداف؛ وبه فقط دون سواه
تتحقق العدالة؛ وبها تتحقق جميع الأهداف السامية، والتطلعات
الإنسانية المشروعة.
والحق هو النبع الفيَّاض بالعدل، والنهر
الصافي الشَّفَّاف بالقسط، والبحر الزاخر بالقسطاس والعدالة؛
والحق هو المرجعية الوحيدة، والمصدر الوحيد لمفهوم العدل؛ ولا
يُستَوحى ولا يُستنبَط العدل إلا من الحق فقط؛ والعدل هو
التجسيد الكامل للحق؛ ولا توجد مفردة من مفردات الحق إلا
والعدل صبغتها؛ ولقد خلق الله الكون أجمع، وشرع التشريعات كلها
على أساس العدل؛ وبالعدل اكتمل وتمَّ الكون والتشريع. يقول
الله سبحانه وتعالى: ﴿وَتَمَّتْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ
لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
وكل ما في هذا الوجود ينطق ويلهج ويسبح
بعدل الله الذي أحاط بالكون وما فيه؛ فكل ما في الوجود قائم
بالعدل والقسط الإلهي؛ فالله يُدَبِّر الكون بالقسط، ويحيِّ
المخلوقات بالقسط، ويرزقها بالقسط، ويعطي كل شيء بالقسط؛ فلكل
شيء في هذا الوجود جزء وحصَّة وقسط من الوجود والحياة والمعرفة
والرزق والمقام والذِّكر والسعادة والرفاه والسلطة والصحة
والثروة والماء والطعام و... و...؛ وإن اختلال الكون، وعقم
التشريعات ما هو إلا نتيجة تغييب العدالة، وتجاوز القسط بسبب
اغتصاب البغاة لحق وحصة الآخرين من الرزق أو السلطة أو الغذاء
أو الثروة أو... أو... يقول الله سبحانه وتعالى:﴿شَهِدَ
اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ
وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ
إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 18 إِنَّ الدِّينَ عِندَ
اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ
الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا
بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ
سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.
ولن ينتظم الكون، ولن تثمر التشريعات إلا
بالقيام بالعدل والقسط، والامتناع عن البغي والفحش؛ ولذلك
أمَرَ اللهُ الجميع ومن دون استثناء أحدٍ وفي جميع الأحكام
والموضوعات والأزمنة والأمكنة والظروف والأبعاد والمجالات
بالعدل والقسط، ونهى عن البغي والفحش. يقول الله سبحانه
وتعالى: ﴿إِنَّ
اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي
الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ
وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.
ويقول الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ
أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ .....﴾.
ولكي لا يكون العدل والقسط أمْراً مثالياً لا واقع له، أو
حروفاً بلا معاني، أو نظريةً بلا تطبيق أمَر الله أنبياءه
ورسله وأولياءه بالعدل والقسط لكي يكونوا القدوة والأسوة التي
تأمر بالعدل والقسط، وتطبقه على نفسها أولاً، وتجسده على
الواقع الخارجي؛ وبهذا تتمُّ الحجة على العباد. يقول الله
سبحانه وتعالى:﴿فَلِذَلِكَ
[أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ] فَادْعُ
وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ
وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ
لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ..... اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ
السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾.
ويقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنْ
حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ
يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.
ولقد أرسل الله الرسل بالبينات، والدلائل
الواضحة، والبراهين الساطعة، وأنزل مع الرسل الكتاب بالشريعة
الجامعة، والمنهاج الأبلج، وأنزل الميزان بالمعايير والمقاييس
التي بها يُعْرَف الحقُّ من الباطل في أمور العقيدة، والصوابُ
من الخطأ في الشأن الفكري، والقلبُ السليم من القلبِ السقيم،
والعملُ الصالح من العملِ الفاسد؛ كل ذلك من أجل إقامة العدل،
وبسط القسط بين الناس، ومن أجل أن يلتزم ويقوم الناس أنفسهم
بالعدل والقسط، ولكي لا يعتدي أحد على حق أحد، ويعمُّ العدل،
ويقام القسط؛ أنزل الله مع الرسل الحديد كأداة لبناء القوة
العسكرية الدفاعية والهجومية للردع والحرب والقتال فضلاً عن
التأديب والقصاص؛ كما أنَّ للحديد منافع أخرى ككونه الأداة
الرئيسية لتشييد الصناعات والعمران و... و... التي تؤسس البنية
التحتية لتطوير ورفاه حياة الناس والقوة العسكرية. يقول الله
سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ
أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ
الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ
وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ
لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ
بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾.
إن الظَّلَمَة والطغاة والبغاة لا يحكمون
الناس إلا بالجور ولا يقضون بينهم إلا بالظلم؛ ولكن حينما يحكم
الرسل أو الأنبياء أو الأولياء أو العلماء الربانيين سيحكمون
ويقضون بين الناس بالعدل والقسط. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلِكُلِّ
أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم
بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾.
إن منهاج كل رسالات الأنبياء هو بناء
الإنسان الذي يتحلى بخصلة الإيمان بالله، وخصلة النفع لعباد
الله. قال الإمام
: ﴿خصلتان
ليس فوفهما خير منهما الإيمان بالله، والنفع لعباد الله ﴾.
ولذلك تمحورت رسالات الأنبياء حول بعدين رئيسيين:
البعد الأول: علاقة الإنسان مع الله؛ ومحوره التحرر من عبودية
الهوى والشهوات، وعدم اتخاذ الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون
الله، واجتناب الطاغوت، والكفر به لكي يعرج الإنسان إلى قمة
العبودية الخالصة لله وحده.
البعد الثاني: علاقة الناس مع بعضهم بعضاً؛ ومحور هذا البعد هو
العدل والقسط في كل مفردات العلاقة المادية والمعنوية؛ حيث يجب
على الناس أن يقيموا أصول الموازين والمعايير والمقاييس
للتبادل التجاري، والمعاملات المعيشية، والتعاملات الاجتماعية
على أساس العدل والقسط؛ ولا يجوز أن يُعْمَل بالأعراف
والتقاليد والعادات والقوانين التي تستنقص أو تحجب أو تضعف أو
تشوش الموازين والمعايير والمقاييس التي أقيمت بالعدل والقسط؛
ليسلبوا قسط وحقوق الآخرين المعنوية أو المادية. يقول الله
سبحانه وتعالى: ﴿وَأَقِيمُوا
الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾.
ولقد قطع الله الطريق على أصحاب الثقافات
التبريرية، والحجج الواهية حينما أكد بأن الالتزام بأصول
الموازين والمعايير والمقاييس المستوحاة من العدل والقسط تكليف
مقدور عليه، وهو في وسع المكلفين جميعاً. يقول الله سبحانه
وتعالى:﴿وَأَوْفُواْ
الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا
إِلاَّ وُسْعَهَا .....﴾.
ولذلك أوجب الله على الناس جميعاً
الالتزام بأصول الموازين والمعايير والمقاييس المستوحاة من
العدل والقسط؛ ولتأكيد هذا الواجب حرم الله بخس واستنقاص حق
وقسط الناس المعنوي والمادي ولو بمقدار حبة من خردل، أو جلب
شعيرة، أو مثقال ذرة؛ وزيادة في التأكيد لوجوب القسط والعدل
على جميع الناس شدَّد الله الحكم وغلَّظ الحرمة حين جعل مَنْ
يبخس ويستنقص حق وقسط الناس من المفسدين الذين يعيثون في الأرض
فساداً. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَا
قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ
وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي
الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾.
والالتزام بأصول الموازين والمعايير
والمقاييس المستوحاة من العدل والقسط ستجلب الخير الوافر
والشامل للجميع، وستؤدي إلى أجمل النتائج، وتعطي أفضل الثمار،
والنهاية الأحسن في كل شيء. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَوْفُوا
الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ
الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾.
ومع إطلالة النصف من شهر شعبان تتجدد
الحياة، وتشرق الروح بنورها بازغة بالأمل، وتحمل على جناحيها
شمس العدالة، وقمر الحرية، لتحقيق الوعد الإلهي، وتنفيذ
الإرادة الإلهية بإقامة دولة الحق، دولة صاحب الزمان المهدي
المنتظر القائم عجل الله فرجه الشريف، دولة المستضعفين الذين
رفضوا الظلم، وقاوموا الجور، وأبَوا الخنوع أو الذل أو
الاستسلام، وتمسكوا بالحق، وسعوا لتحكيم القسط وحاكمية العدل،
وبسط شراع الحرية، واتساع رقعة التحرر.
ومع ذكرى ميلاد باسط القسط والعدالة،
ومقتلع الظلم والجور أمل الأمة المؤمنة، والشعوب المستضعفة،
الإمام القائم بالعدل، المهدي للحق، المنتظر لاجتثاث جميع
أنواع الظلم، وأشكال الجور، تتجدد الروح إرادةً وعزيمةً
وصبراً، ويتفتق الذهن علماً وفكراً ومعرفةً، ويتضاعف السعي،
ويتطور العمل، وتزداد الثقة بنصر الله لعباده الصالحين.
إن الله أمر بالعدل والإحسان، وأمر بالقسط
وأنزل الميزان، ووعد عباده المستضعفين بجعلهم أئمة وبجعلهم
الوارثين، ووعدهم بالتمكين في الأرض، واجتثاث الطغاة والجبابرة
وفلولهم أجمعين. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَنُرِيدُ
أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ
وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ 5
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ
وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾.
إن الله جعل المهدي من الأمة الإسلامية،
من عترة النبي محمد صلى الله عليه وآله، ومن وُلْدِ فاطمة
عليها السلام ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً
وجوراً.
إن العالم اليوم يعيش حياة الغاب حيث
يَسُود القوي، ويُهْضَم الضعيف، ويُعان الظالم، ويستعان على
المظلوم، فلم تبقى بقعة على وجه الأرض إلا ولوثت بالظلم والجور
والبغي والعدوان؛ حيث سُفكت الدماء البريئة؛ فشَقَتْ هذه
الدماء الطاهرة الزكية أخاديدَ من المظلومية، وتَدَفَّقَتْ
أنهاراً من الحرمان تصب في بحار الحاضر رفضاً وإباءً؛ لتكمل
محيطات التاريخ عزّاً وكرامة من أجل حكم القسط والعدل، ونشر
شراع الحرية والتحرر.
ولذلك يتطلع المؤمنون والمستضعفون لدولة
الحق والعدالة والقسط التي سيشيدها الإمام القائم عجل الله
فرجه الشريف؛ حيث سيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً
وظلماً؛ وهذه العبارة هي عنوان وشعار وهدف دولته دولة الحق
والعدل.
قال رسول الله
: ﴿ إن
علي بن أبي طالب
إمام
أمتي وخليفتي عليها من بعدي، ومن وُلْدِه القائم المنتظر؛
يملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً ﴾.
وقال
: ﴿ يغيب
عنهم الحجة حتى يأذن الله في خروجه؛ يملأها عدلاً وقسطاً كما
ملئت جوراً وظلماً ﴾.
وقال
: ﴿ لن
تنقضي الأيام والليالي حتى يبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها
عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً ﴾.
وقال
: ﴿ المهدي
من ولدي، يأتي بذخيرة الأنبياء عليهم السلام فيملأها عدلاً
وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً ﴾.
وقال
: ﴿ المهدي
من ولدي، يُقْبِل كالشهاب الثاقب يملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت
جوراً وظلماً ﴾.
قال الإمام محمد بن علي الجواد
: ﴿ إن
القائم منا هو المهدي الذي يجب أن يُنْتَظَر في غيبته، ويُطَاع
في ظهوره، ..... فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً
وظلماً ﴾.
وقال
: ﴿ ما
مِنَّا إلا وهو قائم بأمر الله عز وجل، وهاد إلى دين الله،
ولكن القائم الذي يُطَهِّر الله عز وجل به الأرض من أهل الكفر
والجحود، ويملأها عدلاً وقسطاً هو الذي تُطوى له الأرض، ويُذل
له كل صعب ﴾.
وعن عمار الساباطي قال: قلت لأبي عبد الله
:
العبادة مع الإمام منكم .... في دولة الباطل أفضل؟ أم العبادة
في ظهور الحق ودولته مع الإمام الظاهر منكم؟ فقال: ﴿ يا
عمار عبادتكم .... أفضل، لخوفكم من عدوكم في دولة الباطل ....،
ممن يعبد الله في ظهور الحق مع الإمام الظاهر في دولة الحق
وليس العبادة مع الخوف في دولة الباطل مثل العبادة مع الأمن في
دولة الحق. قال: فقلت: .... كيف صرنا .... أفضل أعمالاً من
أصحاب الإمام منكم الظاهر في دولة الحق ....؟. فقال: إنكم ....
منتظرون لدولة الحق، خائفون على إمامكم وعلى أنفسكم من الملوك
تنظرون إلى حق إمامكم وحقكم في أيدي الظلمة، قد منعوكم ذلك
واضطروكم إلى جذب الدنيا وطلب المعاش، مع الصبر على دينكم،
وعبادتكم وطاعة ربكم، والخوف من عدوكم.... قال: فقلت: جعلت
فداك فما نتمنى إذاً أن نكون من أصحاب القائم
في
ظهور الحق؟ ونحن اليوم في إمامتك وطاعتك أفضل أعمالاً من أعمال
أصحاب دولة الحق؟ فقال: سبحان الله أما تحبون أن يُظْهِرَ
اللهُ عز وجل الحق والعدل في البلاد ويحسن حال عامة الناس،
ويجمع الله الكلمة، ويؤلف بين القلوب المختلفة، ولا يُعصى الله
في أرضه، ويقام حدود الله في خلقه، ويرد الحق إلى أهله،
فيظهروه حتى لا يستخفي بشيء من الحق مخافة أحد من الخلق؟ ﴾.
إن دولة الإمام القائم المنتظر هي دولة
الحق والقسط والعدالة؛ وبالحق والعدل تتحسن أحوال جميع الناس،
وتتحد الكلمة، وتَأتَلِف القلوب، ويطاع الله، وتقام الحدود،
وتسترد الحقوق إلى أهلها، وتجف منابع الجور والظلم، وتأمن طرق
الحياة والمعيشة، ويرتفع الخوف، ويُنْصَف المظلوم.
إن اتخاذ حكم الهوى بدلاً عن حكم الحق أدى
إلى تغييب حاكمية القسط والعدالة؛ وبغياب القسط والعدالة لن
يكون هناك إلا حكم الظلم والجور؛ وحينما يحكم الظلم والجور
سيضطرب الأمن، ويتزعزع السلم؛ وباضطراب الأمن وتزعزع السلم
تنهار الأسواق؛ وبانهيارها يصاب الاقتصاد بالركود، ثم
الانكماش، ثم الكساد، ثم تختل وتضعف المعيشة المادية؛ وحينها
ينتشر النهب والسلب، وتصادر الحقوق؛ وحينما يرتع الناس على
مصادرة الحقوق لن يسعوا لاكتشاف واستخراج كنوز الأرض وخيراتها.
ولن يكون هناك حل جامع لصلاح وتحسين وضع الناس إلا بحكم الحق
الذي به يحكم القسط والعدل؛ وبحكم العدل يُقتلع الظلم والطغيان
والجور والعدوان؛ وباقتلاع الجور يتحقق السلم والأمن الشامل
لجميع الناس، وتأمن كل سبل وطرق المعيشة؛ وبالأمن سيسعى الناس
لرزقهم، ويتمكنون من اكتشاف كنوز الأرض وخيراتها، ويتحقق الغنى
والسعة في العيش والرفاه الاقتصادي، وطيب الحياة مما يؤدي إلى
الغناء واستغناء الجميع عن نهب ومصادرة حقوق الآخرين؛ ولذلك
ستُرَد الحقوق إلى أهلها، وتُقْبِل الناس بإرادتها وقناعتها
على العقيدة الإسلامية، وتؤمن بها؛ وبالإيمان ستتضاعف وتشتد
القدرة الإنسانية، ويتطور ويتألق الإبداع الذهني، وسيتحرر
ويسمو العقل إلى النفوذ من أقطار السموات والأرض الذي يسخر
الكون وما فيه من خيرات ونعم لا تحصى. وقال الإمام الصادق
: ﴿ إذا
قام القائم حكم بالعدل، وارتفع في أيامه الجور، وأمِنَتْ به
السُّبل، وأخرجت الأرض بركاتها، ورُدَّ كل حق إلى أهله، ولم
يبق أهل دين حتى يظهروا الإسلام، ويعترفوا بالإيمان؛ أما سمعت
الله عز وجل يقول: ﴿وَلَهُ
أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾.
وحكم في الناس بحكم داود، وحكم محمد
؛
فحينئذ تظهر الأرض كنوزها، وتبدي بركاتها؛ فلا يجد الرجل منكم
يومئذ موضعا لصدقته، ولا لِبُرِّه لشمول الغناء جميع المؤمنين.
ثم قال: إن دولتنا آخر الدول ولم يبق أهل بيت لهم دولة إلا
ملكوا قبلنا لئلا يقولوا: إذا رأوا سيرتنا إذا ملكنا سرنا بمثل
سيرة هؤلاء وهو قول الله عز وجل: ﴿وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ﴾﴾.
وهذا وعد إلهي؛ والله لا يخلف وعده؛ ولقد
أوجب الله على نفسه أن الأرض يرثها الإمام القائم المهدي
المنتظر باقتلاع واجتثاث الظلمة والجائرين ليحكم بالقسط
والعدل. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ
كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ
الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾.
ومع هذا الوعد الإلهي القاطع، والنص
القرآني الصريح إلا أن هناك مِنَ الجهال عديمي العلم، والحمقى
ناقصي العقل، والمفلسين من المعرفة؛ والمرضى بنفاق القلوب؛ ممن
يزعم العلم وهو جاهلٌ حتى بجهله، ويزعم العقل وهو لا يشعر
بسفاهته وحماقته، ويزعم المعرفة وهو لا يبصر إفلاسه، فيشكك
ويرتاب في القائم. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَارْتَابَتْ
قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾.
إن الاعتقاد واليقين بظهور الإمام القائم
والانتظار لخروجه هو أفضل أعمال الأمة على الإطلاق. قال رسول
الله
:﴿أفضل
أعمال أمتي انتظار الفرج ﴾.
والانتظار الحقيقي هو إعداد العدة التي
تُعَبِّد الطريق والسبيل لملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وتطهيرها
باقتلاع الجور والظلم واجتثاث الظالمين والجائرين؛ وهذا
الإعداد وهذه العدة هي القوة الحقيقية التي تعجل بظهور القائم
.
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْ
أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن
كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ
مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾.
ويقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ
لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ
الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ
وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ
يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ
يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾.
والانتظار الحقيقي هو الاستعداد لنصرته
وطاعته في غيبته قبل خروجه وذلك من خلال القول بالعدل،
والشهادة بالقسط، وتولي ونصرة العلماء الربانيين الذين يقومون
بالقسط والعدل، ويأمرون بهما، ويكفر بالطاغوت، ويتجنب الرجس من
الأوثان. قال رسول الله
: ﴿ طوبى
لمن أدرك قائم أهل بيتي وهو مقتد به قبل قيامه، يتولى وليه،
ويتبرأ من عدوه، ويتولى الأئمة الهادية من قبله، أولئك رفقائي
وذوو ودي ومودتي، و أكرم أمتي علي ﴾.
وقال رسول الله
: ﴿ طوبى
لمن أدرك قائم أهل بيتي وهو يأتم به في غيبته قبل قيامه ويتولى
أولياءه، يعادي أعداءه، ذلك من رفقائي وذوي مودتي وأكرم أمتي
علي يوم القيامة ﴾.
قال رسول الله
: ﴿ طوبى
لمن أدرك قائم أهل بيتي وهو مقتد به قبل قيامه، يأتم به وبأئمة
الهدى من قبله، ويبرء إلى الله عز وجل من عدوهم أولئك رفقائي
وأكرم أمتي علي ﴾.
ولكي نشارك الإمام القائم المهدي المنتظر
رسالته في بسط القسط والعدل، واقتلاع الظلم والجور لا بدَّ أن
نعدَّ ونستعدَّ لنصرته وطاعته في غيبته قبل خروجه وذلك عبر
البرنامج الرسالي القرآني التالي:
أولاً: التطلع إلى القسط والعدالة.
إن العدالة ليست سلعة تُباع أو تشترى، وإنما هي قيمة مثلى،
وثقافة إنسانية، وصبغة عُلْيَا، وأصل الوجود، والميزان
للتشريع، وروح الإنسان، وقلب كرامته، فلا يمكن أن تنفصل عنه،
أو تغيب عن ثقافته إلا إذا انفصل عن الإنسانية، وتحول إلى حياة
الغاب. وإن الغفلة عن العدالة، أو تهميشها من الثقافة
الإنسانية، أو الاستخفاف بأهميتها هي التي تغرس نبتة الظلم
وتكرس الجور. يقول أهل بيت النبوة عليهم السلام: ﴿ العدل
أحلى من الماء يصيبه الظمآن ﴾. ﴿ العدل
أحلى من الشهد وألين من الزبر وأطيب ريحاً من المسك ﴾. ﴿ ما
أوسع العدل وإن قلَّ ﴾. ﴿ بالعدل
تتضاعف البركات ﴾. ﴿ فرض
الله العدل مسكاً للقلوب ﴾. ﴿ العدل
أساسٌ به قِوام العالَم ﴾. ﴿ العدل
أقوى أساس ﴾.
ثانياً: القول بالقسط والعدل.
إن المساحة الكبرى من حياة الإنسان يرسمها
لسانه الذي ينطق به وأنامله التي يخطُّ بها وفي الحديث ﴿ المرء
بأصغريه قلبه ولسانه ﴾.
وفي حديث آخر ﴿ وهل
يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم ﴾.
وهذا يوجب على الإنسان أن يكون رقيباً على لسانه؛ فلا يتفوه
بكلمة إلا بعد أن يمررها على قلبه وعقله فإن أجازها نطق بها،
وإلا وجب عليه تقوى الله بكتمها وإلغائها من قاموسه. يقول الله
سبحانه وتعالى: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا
قَوْلًا سَدِيدًا﴾ والقول
السديد هو قول القسط والعدل الذي لا ظلم فيه على أحد. يقول
الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلْيَخْشَ
الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا
خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ
قَوْلاً سَدِيدًا﴾.
ولا يجوز للإنسان أن يتفوه بكلمة في أي شيء إلا إذا كانت كلمة
قسط وعدل؛ فإذا استلم زمام الكلام وجب أن يكون قولُه قولاً
عدلاً ولو كان القول العدل يدين نفسه أو أقرباءه أو حزبه أو
عشيرته أو وطنه أو زعيمه أو أصدقاءه أو تجمعه؛ ويجب أن يكون
قولُه قولاً عدلاً فلا يغلو في مَنْ يُحِب، ولا يبخس من يكره؛
لأن الغلو والبخس كلاهما ظلم للناس، وفساد في الأرض، وإفساد
للحياة. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا
قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ....﴾.
ثالثاً: الشهادة بالقسط والعدل.
إن الحياة مليئة بالانتهازية والخصومات؛
والإنسان يشاهد فيها الكثير من هذه الانتهازية، وهذه الخصومات
في كل مكان وزمان، وفي مختلف الظروف والموضوعات؛ وفي ظل تلك
الحالات السوداوية يجب على المؤمن: