الزهراء سلام الله عليها والولاية التكوينية والتشريعية

كلما ازداد المرء استغراقاً في البحث عن كنه سيدة نساء العالمين سلام الله عليها، ازداد حيرة، بدلاً من أن يزداد فهماً! فمن بين جميع من اصطفاه الله تبارك وتعالى؛ تبرز شخصية أم أبيها وحدها، عصيَّةً على الفهم، عالية على الإدراك، أوسع من أن يحوطها نظر، أجلّ من أن يستوعبها بشر.
ومهما أتعب الجهبذ الخبير نفسه في البحث والتحقيق، ومهما بذل العالم الفطحل من الجهد الجهيد، في سبيل أن يرسم لشخصية الزهراء سلام الله عليها صورة متكاملة الأبعاد، ولو بنحو الإجمال؛ كان الإقرار بعجز العقل البشري عن بلوغ غاية إدراك كنه فاطمة سلام الله عليها هو النتيجة العلمية الوحيدة التي يمكن أن تسلم من الإشكال! ذلك لأن كل ما أمكن أهل البحث التوصل إليه في شأن البتول على مرّ الزمان؛ تثبيتاً لمقام أو فضيلة، توجّهت إليه في ما بعد، عشرات الردود والإشكالات والتنقيحات من باب أن ما استفيد هنا ليس وافياً، وأن ما تقرّر هناك ليس كاملاً، فهناك دوماً استفادات أعظم ووجوه أتمّ تعطي مقاماً أكبر وتثبت فضيلة أعظم. هذا ناهيك عما يُكتشف لاحقاً من كنوز التراث والمخطوطات التي ترفد الباحثين بمزيد من المعلومات والمعطيات، وبسببها كم من مرّة وقعت فيها عين المتخصّص في سيرة الزهراء سلام الله عليها على مخطوطة مكتشفة أخيراً؛ فرأى فيها حديثاً من سطر واحد عنها(روحي فداها) فانقلبت عنده موازين الفكر إلى درجة أنه وبعد عمر طويل من البحث والتحقيق في سيرة الزهراء، والتي رتّب عليها النتائج والاستفادات العقيدية التي كان يظنّ أنه قد عرف بها شيئاً يُعتدّ به من كنه الزهراء.. بعد هذا كلّه يكتشف أخيراً أنه لم يغرف من بحر عظمتها إلا أقلّ من مقدار قطرة! وأن ما استفاده وثبّته من نتائج كانت ناقصة، وربما معتلّة! إذ هناك المزيد وما هو أعظم مما كان يتصوّر.
واعتراف الباحث في كنه البتول ومقامها الربّاني بعجز العقل البشري؛ يترافق عنده بشعور تطغى عليه الرهبة ويموج فيه التواضع، عندما يطلب منه التعبير عن سيدة نساء العالمين سلام الله عليها، إذ لا يجد مفردات الكلام إلا قاصرة عن ذلك. وكذا عندما يلتمس منه بيان جوانب من عظمة شخصيتها، فإنه يطغى عليه حينها الارتباك، لا من جهة عدم الورود، وإنما من جهة تقديم التفسير المنطقي الصحيح الشامل لما ورد، ومعناه ومدلوله.
إنها فاطمة بنت محمد.. يصعب حتى القول بأنها من جنس البشر، فذاتيتها غير ذاتيتنا، وصفاتها غير صفاتنا. وها هو إعلان خاتم الأنبياء صلّى الله عليه وآله يدوي بصداه: {إنّ فاطمة خلقت حورية في صورة إنسية}!(عوالم العلوم ج11/1 ص83).
فهي إذن ليست إنسية ولا من جنس البشر، وإنما قد أظهرها الله تعالى بهذه الصورة، وإلا فجوهرها جوهر آخر، عبِّر عنه هنا بالحورية، مع أن ثمة تعبيراً آخر أعلى، إذ عبِّر (صلّى الله عليه وآله) عنها (سلام الله عليها) بالنور الذي سبق الخلق بآلاف السنين!
وإن أردت معاضداً فتمعّن في ما أفهمه صلّى الله عليه وآله لعائشة حين قال لها: {يا حميراء! إن فاطمة ليست كنساء الآدميين}! (مناقب ابن شهراشوب ج3 ص110).
وهذا ما قد يفسر أنها سلام الله عليها مختلفة في صفاتها الذاتية والفعلية عن سائر نساء البشر. وهذا ما قد يفسر الدهشة التي انتابت أسماء بنت عميس حينما تولّت أمرها سلام الله عليها ساعة ولادة الإمام الحسن المجتبى سلام الله عليه، إذ تقول: {قبلت ـ أي ولدت ـ فاطمة سلام الله عليها بالحسن سلام الله عليه، فلم أر لها دماً! فقلت: يا رسول الله.. إني لم أر لها دماً في حيض ولا نفاس؟ فقال صلّى الله عليه وآله: أما علمت أنّ ابنتي طاهرة مطهَّرة، لا يُرى لها دم في طمث ولا ولادة}! (صحيفة الرضا سلام الله عليه ص289).
والأعجب من هذا ما روي من أنها قد ولدت الحسن والحسين سلام الله عليه من فخذها الأيسر! (عيون المعجزات ص59).
ولئن كانت هذه صفات ذاتية فعلية لها، تختلف فيها عن سائر البشر، وتنحصر آثارها على نفسها؛ فإنّ لها (أرواحنا فداها) صفات أخرى تتعدى آثارها إلى سائر الموجودات، وهي صفات تكوينية تؤثر في عالم الإمكان تأثيراً لازماً.
من تلك التي بلغنا نبأها؛ تأثيرات إشعاعات نور وجهها سلام الله عليها، تلك الإشعاعات التي كانت تنبعث انبعاثاً هائلاً من وجهها الشريف فتترك آثارها على الحيطان والفرش والثياب وحتى على ألوان الناس! فكانت حيطان المدينة المنوَّرة تبيضّ أوّل الفجر من كلّ يوم، ثم تصفرّ عند الزوال، وكذلك تصفرّ ألوان الناس وألوان ثيابهم، ثم كانت الحيطان تحمرّ عند غروب الشمس، كلّ ذلك في ظاهرة غير طبيعية ذهل أهل المدينة منها، فلما فتّشوا عن سببها، وجدوه.. نور وجه فاطمة الزهراء!
هذا ما كشفه إمامنا الصادق سلام الله عليه عندما سأله أبان بن تغلب: {يابن رسول الله.. لم سُمّيت الزهراء؛ زهراء}؟ فقال سلام الله عليه: {لأنها تزهر لأمير المؤمنين سلام الله عليه في النهار ثلاث مرّات بالنور. كان يزهر نور وجهها صلاة الغداة والناس في فرشهم، فيدخل بياض ذلك النور إلى حجراتهم بالمدينة، فتبيضّ حيطانهم! فيعجبون من ذلك، فيأتون النبي صلّى الله عليه وآله فيسألونه عمّا رأوا، فيرسلهم إلى منزل فاطمة سلام الله عليها، فيأتون منزلها فيرونها قاعدة في محرابها تصلّي والنور يسطع من محرابها! من وجهها! فيعلمون أن الذي رأوه كان من نور فاطمة!
فإذا انتصف النهار وترتبت للصلاة، زهر نور وجهها سلام الله عليها بالصفرة، فتدخل الصفرة في حجرات الناس فتصفرّ ثيابهم وألوانهم! فيأتون النبي صلّى الله عليه وآله ويسألونه عما رأوا، فيرسلهم إلى منزل فاطمة سلام الله عليها، فيرونها قائمة في محرابها وقد زهر نور وجهها بالصفرة! فيعلمون أنّ الذي رأوا كان من نور وجهها!
فإذا كان آخر النهار وغربت الشمس، احمرّ وجه فاطمة، فأشرق وجهها بالحمرة فرحاً وشكراً لله عزّ وجلّ، فكان تدخل حمرة وجهها حجرات القوم وتحمر حيطانهم! فيعجبون من ذلك، ويأتون النبي صلّى الله عليه وآله ويسألونه عن ذلك، فيرسلهم إلى منزل فاطمة، فيرونها جالسة تسبّح الله وتمجّده، ونور وجهها يزهر بالحمرة! فيعلمون أن الذي رأوا كان من نور وجه فاطمة سلام الله عليها!
فلم يزل ذلك النور في وجهها حتى ولد الحسين سلام الله عليه، فهو يتقلّب في وجوهنا إلى يوم القيامة في الأئمة منّا أهل البيت، إمام بعد إمام}. (علل الشرائع ج1 ص180).
فهذا التأثير التكويني المذهل التي تركه نور وجه الزهراء سلام الله عليها على حيطان ومباني ودور وحجر وفرش مدينة بأكملها، بل وعلى الألوان الطبيعية لأجساد أناسها وثيابهم؛ لم تر البشرية كلّها له مثيلاً من أحد، لا من نبيّ ولا من وصيّ، سيّما وأن تلك التأثيرات الإشعاعية التي انبعثت من وجهها الشريف، إنما انبعثت حال كونها في محرابها تصلّي داخل الدار لا خارجه! ما يعني أن الإشعاعات اخترقت الحيطان وسائر الحجب المادية! وهذه قوة نورانية هائلة لا تملكها حتى الشمس! والأمر يعني في جملة ما يعنيه، أن الآثار التكوينية لهذه الصديقة الطاهرة تتعدّى حدود الخيال! ولذا قيل إن الإحاطة بكنهها وجوهرها محال!
وثمة شاهد آخر يبهرنا في خصوص النور الفاطمي الاستثنائي هذا، والذي بمقدوره تحويل ظلمة الليل إلى ضياء النهار! وتشهد به عائشة حيث قالت باعتراف صريح رواه المخالفون: {كنا نخيط، ونغزل، وننظم الإبرة بالليل في ضوء وجه فاطمة}!! (أخبار الأول وآثار الدول لأحمد بن يوسف الدمشقي ص87).
ثم إن ذهولنا يزداد عندما نعلم بأن الزهراء سلام الله عليها لا تنحصر آثارها التكوينية في زمان وجودها على قيد الحياة، بل تستمرّ وتبقى إلى ما بعد ذلك! وهكذا لا تعترف آثار الزهراء بحدود المكان أو الزمان أيضاً!
كان بيت الزهراء سلام الله عليها هو الوحيد المفتوح على المسجد النبوي الشريف، وذلك بأمر من الله ورسوله صلّى الله عليه وآله، واستمرّ الوضع على هذه الحال إلى زمان الوليد بن عبد الملك، الذي عزم آنذاك على إظهار نصبه وعداوته لآل النبي سلام الله عليهم بهدم ذلك البيت وإخراج من فيه لتكون مساحته قد دخلت في مساحة المسجد! وقد شاركه في تلك المؤامرة الخبيثة واليه على المدينة عمر بن عبد العزيز - الخليفة العادل كما يزعمون - الذي تولّى بنفسه أمر الإشراف على هدمه!
ويحدّثنا التاريخ أنّ من كانوا فيه حينها هم فاطمة بنت الحسين سلام الله عليه وزوجها الحسن بن الحسن، وأبناؤهما، وقد رفضوا جميعاً بيع البيت، لأنه دار النبوة، ولا يجوز المساس بها، إلا أنهم أُخرجوا منها كرهاً! وبدأ بعد ذلك الشروع في هدم دار الزهراء البتول! وتحقّق الحلم الذي كان يحلم به من هدّد وتوعّد سابقاً بقوله: {والذي نفس عمر بيده، لتخرجَنّ أو لأحرقنّها على من فيها! فقيل له: يا أبا حفص.. إنّ فيها فاطمة! فقال: وإن}!! (الإمامة والسياسة ج1 ص19).
فإن كان المعتدي الأوّل قد تمكّن فقط من إحراق باب الدار دون هدمها، مع ما رافق ذلك بطبيعة الحال من فجائع بحقّ بضعة أبيها، فإنّ المعتدي الثاني الذي تبعه على خطاه الإجرامية، وهو الوليد بن عبد الملك، قد أكمل المهمة وهدم الدار من أساسها!
وأثناء ذلك، أي أثناء قيام السلطة الأموية بإشراف من عمر بن عبد العزيز بهدم الدار الفاطمية، بعث الحسن بن الحسن ابنه جعفراً الذي كان أسنّ ولده لاستطلاع أمر هو بمثابة السرّ، إذ قال له: {اذهب ولا تبرحن حتى يبنوا، فتنظر الحجر الذي من صفته كذا وكذا، هل يدخلونه في بنيانهم}؟
جاء جعفر إلى أبيه بعد مدة ليخبره بأنهم قد رفعوا الأساس وأخرجوا ذلك الحجر، فبقى ظاهراً ملاصقا لجدار قبر النبي صلّى الله عليه وآله قريباً من المربعة، فما كان من الحسن بن الحسن إلا أن خرّ ساجدا!
وبعد زمن رأى الناس الحسين بن عبد الله بن عبد الله بن الحسين عليلا يشتكي موضعاً من جسده، فذهب إلى حيث يقع ذلك الحجر، وكشف الحصى عنه، فمسح به ذلك الموضع فشفي تماماً!
سأل الناس الإمام علي بن موسى الرضا سلام الله عليه عن سرّ ذلك الحجر فأجاب: {ولَدت فاطمة (سلام الله عليها) الحسن والحسين (سلام الله عليهما) على ذلك الحجر}!! (وفاء الوفاء ج2 ص572).
فهذا إذن مجرد حجرٍ. وضعت عليه الزهراء سلام الله عليها حملها، فإذا به يتأثّر تكوينياً بما جرى فيصبح مشفىً للناس من كلّ داء وعلة! ويبقى كذلك حتى بعد استشهاد الزهراء سلام الله عليها وانتقالها للدار الآخرة بسنوات عديدة! وقد روى الرواة من أهل الخلاف أنهم كانوا يرون ذلك الحجر حتى جاءت عمارة ثانية للمسجد النبوي الشريف، ففقدوه عندما أزر قبر النبي بالرخام! (المصدر السابق).
ولا تنحصر قدرات سيدة نساء العالمين سلام الله عليها في الدائرة التكوينية فحسب، بل تتعداها أيضا لتشمل الدائرة التشريعية أيضاً، في صلاحية مطلقة، منحها الله تعالى للزهراء سلام الله عليها إذ فوّض لها أمر دينه، إلى درجة أنها تتمكن من أن تحلّل ما تشاء وتحرّم ما تشاء! فتسنّ الأحكام الشرعية بتفويض إلهيّ مطلق. ويبدو من منطوق الروايات أنه أوسع من ذلك التفويض الممنوح لسائر الأئمة المعصومين ما خلا رسول الله وأخاه أمير المؤمنين سلام الله عليه وعلى آلهما الطيبين الطاهرين. أو أن الولاية التشريعية الممنوحة لسائر الأئمة من الحسن المجتبى إلى المهدي المنتظر سلام الله عليهم هو تابع بالأصل للولاية التشريعية الممنوحة للنبي الأعظم وأمير المؤمنين وسيدة نساء العالمين سلام الله عليهم.
وهذا هو ما بيّنه الإمام أبو جعفر الجواد سلام الله عليه عندما أتاه محمد بن سنان وذكر له الاختلافات العقيدية عند بعض الشيعة، إذ قال: {كنت عند أبي جعفر الثاني سلام الله عليه فأجريت اختلاف الشيعة، فقال: يا محمد.. إن الله تبارك وتعالى لم يزل متفرداً بوحدانيته، ثم خلق محمداً وعلياً وفاطمة سلام الله عليهم، فمكثوا ألف دهر، ثم خلق جميع الأشياء، فأشهدهم خلقها، وأجرى طاعتهم عليها، وفوّض أمورها إليهم، فهم يُحلّون ما يشاءون ويحرّمون ما يشاءون! ولن يشاءوا إلا أن يشاء الله تبارك وتعالى. يا محمد.. هذه الديانة من تقدَّمها مرق، ومن تخلَّف عنها محق، ومن لزمها لحق، وخذها إليك يا محمد}. (الكافي ج1 ص441).
وهذا التفويض الإلهي العظيم، لم يمنح لامرأة من الصالحات غير فاطمة بنت محمد صلّى الله عليه وآله. ومن نافلة القول أنه تفويض لا بمعنى الاستقلال عن إرادة ومشيئة الله تبارك وتعالى، أو في عرض إرادته، بل في طول إرادته، وذلك واضح من قوله سلام الله عليه: {ولن يشاءوا إلا أن يشاء الله تبارك وتعالى}. يبقى بعد هذه الومضات اعترافنا بأن ما استفدناه هنا ليس سوى أقلّ من قطرة! ونشهد قائلين: إننا يا فاطمة عاجزون عن إدراك كنهك، أوليس قد فطمنا عن معرفتك؟! فسبحان الله الذي خلق فاطمة سلام الله عليها... .

 

موقع يازهراء سلام الله عليها يهتم بكل جديد ينفع في خدمة أهل البيت سلام الله عليهم كي نرقى ونسمو في افكارنا وآراءنا فلا تبخلوا علينا في افكاركم وآراءكم