بسم الله الرحمن
الرحيم
بحمدك يا بارئ
العالمين
انت الرحيم ، و
انت المعين...
و اياك يا ربّنا
نستعين...
بنعماك نحيا و انت
الاله
تعاليت يا ارحم
الراحمين...
حياة البحار ، و
صخر الجبال
تنادي بحمدك يا ذا
الجلال...
تباركت يا أحسن
الخالقين
الاهداء
إلى كل الذين سارو
على خط الحسين في الطريق إلى كربلاء ...
لم يبق مع سيدنا
الحسين
( عليه السَّلام )
أحد ، لقد استشهد أصحابه ، و أهل بيته هوت أجسادهم فوق رمال الصحراء ... و
عرّجت أرواحهم نحو السماء ، لم يبق مع الإمام أحد سوى أخيه العباس .
الراية ما تزال
تخفق في يده ، و لو قُدّر للمرء أن يشاهد العباس في تلك اللحظات الرهيبة ، لرأى
فارساً في الرابعة و الثلاثين من عمره ، يقف إلى جانب أخيه ، ينتظر لحظة
الانقضاض على أولئك الأوغاد الذين تنكّروا لكلّ المبادئ و المثل الإنسانية .
لم يعد العباس
يتحمّل أكثر ممّا رأى من الأهوال ، و هو يشاهد تساقط الرجال المؤمنين ، شهداء
بأيدي الأوغاد ، لقد حانت لحظة الثأر ، من أجل كلّ المظلومين و المقهورين .
التفت العباس إلى
أخيه العظيم و قال بأدب :

ـ يا سيدي ! ضاق
صدري من هؤلاء المنافقين ، و أُريد أن آخذ ثأري .
سكت سيدنا الحسين
لحظات قبل أن يجيب . لم تسمح له نفسه أن يأذن لأخيه بالانطلاق إلى الموت ، فقال
:
يا أخي أنت صاحب
لوائي !
أراد أن يقول له
أن راية المقاومة في كفّك ، فإن سقطتَ شهيداً ، فستسقط معك ، و سوف يهجم آلاف
الذئاب على الأطفال و النساء ، سيحرقون الخيام .
كان العباس ينظر
إلى أخيه ، ينتظر الإذن ليبدأ الهجوم .
قال الإمام بحزن :
ـ اطلب لهؤلاء
الأطفال ماءً .. إنهم يذوبون عطشاً .
تقدّم الفارس إلى
حيث العساكر تنتظر . نادى العباس بصوت مرتفع :
ـ يا عمر بن سعد !
هذا الحسين ابن
بنت رسول الله .... قد قتلتم أصحابه و أهل بيته ، و هؤلاء عياله و أولاده عطاشى
، فاسقوهم من الماء ... لقد أحرق الظّمأ قلوبهم .
و لكن لا جواب ..
بقي نداء العباس دون جواب ، لقد تحوّل أولئك الأوغاد إلى وحوش ، بل إلى أسوأ من
الوحوش .
صاح الشّمر كخنزير
متوحّش :
ـ يا بن أبي تراب
! ... لو كان وجه الأرض كلّه ماءً ، و هو تحت أيدينا ، لما سقيناكم منه قطرة ،
حتى تبايعوا يزيد بن معاوية !
عاد العباس ليخبر
أخاه الحسين بوقف اولئك الأوغاد ... امتطى الفارس صهوة جواده ، و تأهّب للهجوم
، ألقى نظرة وداع على المخيم ، كان الأطفال يبكون بمرارة ... و كانت النساء
تبكي ... الأطفال يبكون من أجل آبائهم و إخوانهم و أعمامهم ، يبكون من ألم
العطش ، يبحثون عن قطرة ماء .
تفجّر في قلب
العباس بركان غضب .
غضب ابن عليّ من
أجل الأطفال ، من أجل ظمأهم ، و غربتهم في هذه الصحراء .
إلى الفرات
أخذ الفارس "
القِربة " و انطلق باتجاه الفرات ، كان هدفه أن يسقي هؤلاء الأطفال الأبرياء
قطرات ماء .
ها هو العباس
يندفع باتجاه الشواطئ ... مخترقاً غابة من أشجار النخيل ، و آلاف الذئاب التي
تحاصر النهر .
كانت الراية تخفق
عالياً فوق هامة الفارس الهاشمي ، و هو يتقّدم باتّجاه الفرات .
و دارت معارك
ضارية ... و الجنود الأوغاد يعوون كالذّئاب ، و هم يعترضون فارس كربلاء ... و
كان سيف العباس كالصاعقة ، تحرق الذئاب و الخنازير ... و كانت السهام تنهال على
الفارس كالمطر ، و كان الفارس يمضي قدماً باتجاه الشواطئ .
عجز مئات الفرسان
عن إيقاف تقدّم فارس بني هاشم .
و ها هو العباس
يقتحم نهر الفرات ... و ها هو رشاش المياه يتطاير بين حوافر الحصان .
شعر الحصان ببرودة
المياه ، فراح يرتشف من المياه المتدفّقة .

مدّ العباس كفّه و
ملأها ماءً ... أراد الفارس الظامئ أن يشرب من الماء ليطفئ لهيب قلبه . تذكر
العباس عطش أخيه الحسين
( عليه السَّلام )
، تذكر عطش الأطفال ، فَقذف الماء بعيداً ، و ملأ القربة بالمياه الباردة .
كان العباس لا
يحبّ أحداً في الدنيا مثلما يحبّ أخاه الحسين
( عليه السَّلام )
، و كان لا يخاطبه إلاّ و يقول : يا سيدي ... أو يا ابن رسول الله !
لنترك الفارس
يقاتل بين أشجار النخيل في طريق العودة ... لنعود إلى الماضي ... إلى طفولة ذلك
البطل .
قمر بني هاشم
ولد العباس بن
عليّ في المدينة المنورة في 4 / شعبان / سنة 26 هجرية ، أمّه فاطمة بنت حزام ،
كنيته أبو الفضل .
كان عقيل بن أبي
طالب ، و هو أبو مسلم ، عالماً بأنساب العرب ، لهذا استشار عليّ بن ابي طالب
أخاه في الزواج من امرأة أصيلة .

نصح عقيل أخاه أن
يتزوّج فاطمة بنت حزام ، و كانت امرأة جليلة القدر . و كانت قبيلتها معروفة
بالشجاعة و الإقدام ، لهذا جمع العباس شجاعة والديه ، فكان بطلاً مقداماً .
في الرابع من
شعبان فتح الصّبي عينيه ليرى والديه يبتسمان له ، و يغمرانه حبّاً و رحمة ... و
عندما نشأ عرف أن له إخوة و أخوات فأحبّهم جميعاً .
و عندما بلغ
الرابعة عشرة من عمره ، اندلعت حرب صفين بين أبيه أمير المؤمنين ، و بين معاوية
ابن أبي سفيان .
وقف إلى جانب
والده و اشترك في المعارك رغم صغر سنّه .
و في رمضان سنة 40
هجري ، فجع العباس باستشهاد والده في محراب المسجد . و من ذلك الوقت لازم أخاه
الحسين بن عليّ .
كان يحبّ أخويه
الحسن و الحسين ، لأنّهما ابنا رسول الله
( صلى الله عليه وآله )
، و كان لا يخاطبهما إلاّ بـ " يا سيدي " و كان الحسن و الحسين يحبّانه لإيمانه
و أخلاقه . لهذا أشرفا على تربيته ، حتى أصبح عالماً و فقيهاً .
و في سنة 50
للهجرة ، دسّ معاوية السمّ إلى الإمام الحسن
( عليه السَّلام )
لهذا لم يفارق العباس أخاه الحسين لحظة واحدة .
كان بنو هاشم
جميعاً يحبّون العباس ، و يفخرون به و يسمّونه " قمر العشيرة " .
الطريق إلى كربلاء
عندما مات معاوية
، جاء إلى الحكم بعده يزيد . أصبح يزيد خليفة على المسلمين بالقوّة . كان يزيد
رجلاً فاسقاً ، يشرب الخمر ، و يقضي وقته في اللعب مع الكلاب و القرود ... فكيف
يصبح خليفة على المسلمين ؟!
لهذا رفض سيدنا
الحسين أن يبايع يزيد .
و من ذلك الوقت و
العباس لم يفارق أخاه الحسين . ذات ليلة و عندما أراد حاكم المدينة المنورة أن
يأخذ البيعة من سيدنا الحسين بالقوّة ، جمع الإمام أهل بيته ، و كان عددهم
ثلاثين رجلاً .

و أمرهم أن
ينتظروا أمام قصر الحاكم ، فإذا سمعوا صوت الإمام يعلو فعليهم أن يقتحموا القصر
.
وقف سيدنا العباس
بن عليّ على أهبة الاستعداد ، و هو يصغي إلى ما يدور داخل القصر .
مضت ساعة بعدها
سمعوا سيدنا الحسين يهتف :
ـ أيّها الأمير
إنّا أهل بيت النبوّة ، و معدن الرسالة ، و مختلف الملائكة ، بنا فتح الله ، و
بنا يختم ، و يزيد رجل شارب الخمور ، و قاتل النفس المحرّمة ، معلن بالفسق ، و
مثلي لا يبايع مثله ، و لكن نصبح و تصبحون ، و ننظر و تنظرون ، أيّنا أحقّ
بالخلافة .
و هنا اقتحم
العباس القصر ، و طرد الحراّس ، و دخل إلى مكان الاجتماع ، و نهض الحسين ليغادر
القصر ، وسط الرجال المسلّحين من بني هاشم .
رافق سيدنا العباس
أخاه الحسين
( عليه السَّلام )
في كل مكان كان يذهب اليه ... ذهب معه إلى مكة ، و من مكة غادرت قافلة سيدنا
الحسين إلى الكوفة ، استجابة لأهاليها .
كان أهالي الكوفة
يشكون ما حلّ بهم من ظلم على يد معاوية ، و ابنه يزيد ... كانوا يحنّون إلى عدل
عليّ
( عليه السَّلام )
.
لهذا بعثوا آلاف
الرسائل إلى ابنه الحسين
( عليه السَّلام )
من أجل أن يأتي و يحرّرهم من الظلم و القهر و الاستبداد .
في كربلاء
قُطع الطريق على
قافلة الحسين في منطقة تدعى كربلاء ... و ذلك في 2 / محرم / سنة 61 هجري ، ( 2
/ تشرين الاول / 680 / ميلادي ) .
و في يوم 7 /
محرّم ، فرض جيش يزيد الحصار على معسكر الحسين ، و قطعوا عنهم الماء .

كان الأطفال يبكون
من أجل الماء ... لم يتحمّلوا عطش الصحراء .
لهذا استدعى سيدنا
الحسين أخاه أبا الفضل ، و أمره أن يقصد نهر الفرات ، و يجلب الماء للأطفال و
النساء .
و في منتصف الليل
امتطى العباس مع ثلاثين فارساً صهوات جيادهم و معم عشرون من المشاة يحملون
القِرَب ... و انطلقوا صوب النهر ... و في قلب الليل خاض العباس و فرسانه معركة
ضارية ، تمكّنوا فيها من اقتحام شواطئ النهر .
و هكذا راح عشرون
رجلاً من أصحاب الحسين يملأون القرب ، فيما كان العباس و قوّاته يقاتلون دفاعاً
عنهم ، حتى إذا ملأوا القرب بالماء عادوا إلى المخيم .
و في تلك الليلة ،
شرب الأطفال ماءً بارداً عذباً ، و ناموا بسلام .
الاربعاء 8 /
محرّم
حل المساء ، و
انتشر الظلام ، و امتلأت السماء بالنجوم . أراد سيدنا الحسين أن ينصح قائد جيش
يزيد " عمر بن سعد " ، و يحذّره من طاعة يزيد الفاسق .
أرسل سيدنا الحسين
أحد أصحابه و هو " عمرو بن قرظة الأنصاري " اليه ليجتمع معه بين العسكرين .
خرج الإمام الحسين
و معه عشرون فارساً ، و جاء عمر بن سعد في عشرين فارساً أيضاً .
نزل سيدنا الحسين
عن جواده ، و أمر فرسانه بالعودة ، باستثناء أخيه العباس ، و ابنه عليّ الأكبر
.
فعل عمر بن سعد
ذلك أيضاً فأمر بعودة الفرسان ، ما عدا ابنه حفص و مولاه ذويد .
بدأ سيدنا الحسين
الحوار فقال :
ـ يا ابن سعد !
أتقاتلني أما تتّقي الله الذي إليه معادك ؟
فأنا ابن من قد
علمت ! ألا تكون معي و تدع هؤلاء فإنّه أقرب إلى الله تعالى ؟
قال عمر بجُبن :
ـ أخاف أن يهدموا
داري !
قال سيدنا الحسين
:
ـ أنا أبنيها لك .
قال عمر :
ـ أخاف أن يصادروا
بساتيني .
أجاب الإمام :
أنا أعطيك خيراً
منها في الحجاز .
قال عمر بخنوع :
أخاف على عيالي
بالكوفة ... فقد يقتلهم ابن زياد !
أدرك سيدنا الحسين
أن ابن سعد رجل جبان ، يحبّ الدنيا ، و يريد أن يعيش على فُتات موائد الظالمين
.
قال الإمام و هو
يكشف عن مستقبل ابن سعد في ظلّ يزيد :
ـ ما لك ! ذبحك
الله على فراشك عاجلاً ، و لا غفر لك يوم حشرك . فوالله إنّي لارجو أن لا تأكل
من برّ ( قمح ) العراق إلاّ يسيراً ( قليلاً ) .
قال ابن سعد
ساخراً :
ـ في الشعير كفاية
.
و هكذا انفضّ
الاجتماع ، و عاد سيدنا الحسين مع أخيه و ابنه إلى المخيم .
كانت الكتائب تصل
تباعاً من الكوفة ، كتائب مؤلفة من مئات الجنود ، كلّهم من أهالي الكوفة ،
جاءوا يحاربون ابن الرسول
( صلى الله عليه وآله )
!!
و أخيراً وصل شمر
بن ذي الجوشن على رأس أربعة آلاف مقاتل ... و هكذا أصبح جيش عمر بن سعد ثلاثين
ألفاً من الجنود .
كان الشمر يحمل
رسالة هامّة من أمير الكوفة عبيد الله بن زياد و فيها : أن يعرض على سيدنا
الحسين أمرين لا ثالث لهما :
أن يسلّم نفسه دون
قيد أو شرط ، أو الحرب " فإن قُتل الحسين فأوطى الخيل صدره و ظهره ، فإن أنت
مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع ، و إن أبيت فاعتزل عملنا و جندنا ،
و خلّ بين شمر بن ذي الجوشن و بين العسكر ، فانّا قد أمرنا بذلك " .
قرأ ابن سعد
الرسالة و قال :
ـ و الله لا
يستسلم حسين ، فإنّ نفس أبيه بين جنبيه .
كان الشمر ينتظر
استقالة بن سعد ليتولّى بنفسه قيادة الجيوش ، ولكن عمر ابن سعد ، كان أكثر
دناءة من الشمر ، و أصرّ على قيادة الجيش ، و عيّن الشمر قائداً للمشاة .
الأمان
أبرز الشمر رسالة
أخرى فسأله بن سعد قائلاً :
ـ ما هذا ؟
قال الشمر :
ـ هذا أمان العباس
و إخوته عبد الله و عثمان و جعفر ، فوالدتهم من قبيلتي ، و نحن أخواله .
جاء الشمر يحوطه
الجنود ، و وقف قريباً من معسكر الحسين
( عليه السَّلام )
و صاح :
ـ أين بنو أُختنا
! أين العباس و إخوته ؟
سمع العباس صياح
الشمر ، لكنّه لم يجبه . كان العباس ( رضوان الله عليه ) يحتقر الشمر ، لأنّه
رجل نذل أطاع يزيد ، و عبيد الله بن زياد ، وعصى الله عز وجلّ و رسوله ، و جاء
يحارب سبط النبي
( صلى الله عليه وآله )
. لهذا احتقره الجميع و لم يكترثوا له .
قال سيدنا الحسين
:
ـ أجيبوه ... و لو
كان فاسقاً .
نهض العباس و
إخوته وتقدّموا نحوه .
قال العباس :
ـ ما تريد ؟!
أجاب الشمر و هو
يحاول خداعهم و تخويفهم :
ـ يا بني أُختي
أنتم آمنون ، فلا تقتلوا أنفسكم مع الحسين ، و الزموا طاعة ( أمير المؤمنين )
يزيد !
شعر العباس بالغضب
، و هو يصغي إلى كلمات الشمر التي تنضح نفاقاً ، كيف يكون يزيد الفاسق القاتل
أميراً للمؤمنين ؟!
قال العباس و هو
يدير ظهره :
ـ لعنك الله و لعن
أمانك ، أتؤمننا و ابن رسول الله لا أمان له !!
و تأمرنا أن ندخل
في طاعة اللعناء و أولاد اللعناء !!
عاد العباس إلى
المخيم ... و استقبله أحد أنصار الحسين
( عليه السَّلام )
و هو زهير بن القين . كان زهير قد تذكّر حاثة قديمة . قال زهير للعباس :
ـ أتحبّ أن أحدّثك
بحديث وعيته ؟
أجاب العباس :
ـ نعم .
قال زهير :
ـ لمّا أراد أبوك
أن يتزوج ، طلب من أخيه عقيل ، و كان عارفاً بأنساب العرب ، طلب منه أن يختار
له امرأة ولدتها الفحولة من العرب ، لتلد له فتىً شجاعاً ... فاختار له أُمك
فاطمة .
لكأنّ أباك يا
عباس ادّخرك لهذا اليوم .
فقال العباس ، و
قد امتلأت نفسه حماساً و تألّقت في عينيه شجاعة أبيه :
ـ أتشجعني يا زهير
في مثل هذا اليوم ؟! و الله لأرينّك شيئاً ما رأيته !
قال زهير :
ـ لقد رأيتك
بالأمس كيف تشقّ الصفوف ، و تقتحم الفرات .
إعلان الحرب
في مساء التاسع من
المحرّم ، أصدر عمر بن سعد أوامره بالزحف نحو مخيم سيدنا الحسين .

كان سيدنا الحسين
جالساً أمام خيمته . سمعتْ أخته زينب أصوات الرجال فقالت لأخيها الحسين :
ـ العدو يزحف
باتّجاهنا !!
قال الحسين لأخيه
العباس :
ـ اركب إليهم و
اسألهم ما الذي يريدون ؟
امتطى العباس
جواده ، و معه عشرون فارساً ... كان حبيب بن مظاهر الأسدي يسير إلى يمينه ، و
زهير بن القين إلى يساره .
اعترض الفرسان
تقدم جيش يزيد ، و نادى العباس :
ـ ما الذي تريدون
؟!
أجاب عمر بن سعد :
ـ جاء أمر الأمير
عبيد الله بن زياد ، أن نعرض عليكم الاستسلام او الحرب .
عاد العباس بمفرده
إلى المخيم ليحيط سيدنا الحسين علماً بذلك .
حاول حبيب أن ينصح
جنود الكوفة ... هؤلاء الذين أرسلوا إلى سيدنا الحسين آلاف الرسائل يستغيثون به
، و يستنجدون به ليخلّصهم من الظلم . و لمّا لبّى استغاثتهم جاءوا يحاربونه !!
و لكن لا فائدة ..
لم يعد هؤلاء الأوغاد يسمعون شيئاً سوى أوامر عبيد الله بن زياد .
قال سيدنا الحسين
لأخيه :
ـ ارجع إليهم و
استمهلهم هذه العشيّة إلى غد لعلّنا لربّنا الليلة ، و ندعوه و نستغفره ... فهو
يعلم أنّي أُحب الصلاة له ، و تلاوة كتابه .
رجع العباس و طلب
من عمر بن سعد مهلة إلى صباح غد .
استشار ابن سعد
قادته ، فطلبوا منه أن يوافق على ذلك ، كان بعضهم يظنّ أن سيدنا الحسين سوف
يستسلم .
فليس من المعقول
أن يحارب الإنسان بسبعين مقاتلاً فقط جيشاً مؤلفاً من ثلاثين ألف مقاتل !!
و أخيراً قال ابن
سعد للعباس :
ـ إنا أجّلناكم
إلى غد ، فإن استسلمتم ذهبنا بكم إلى الأمير ابن زياد ، و إلاّ فالحرب .
الليلة الأخيرة
و في تلك الليلة ،
جمع سيدنا الحسين أصحابه و أهل بيته ، و تحدّث إليهم قائلاً :
ـ أُثني على الله
، أحسن الثناء ، أحمده على السرّاء و الضرّاء ، اللهم إني احمدك على أن أكرمتنا
بالنبوّة ، و علمتنا القرآن ، و فقّهتنا في الدين ، و جعلت لنا أسماعاً و
أبصاراً و أفئدة ، و لم تجعلنا من المشركين .
أما بعد :
فإنّي لا أعلم
أصحاباً أولى و لا خيراً من أصحابي ، و لا أهل بيت أبرّ و لا أوصل من أهل بيتي
، فجزاكم الله عنّي جميعاً .
كان سيدنا الحسين
يعرف أنّ هذا هدف يزيد هو قتله ، لهذا قال لأصحابه :
ـ ألا و إنّي أظنّ
يومنا من هؤلاء الأعداء غداً ، و إنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ،
ليس عليكم منّي ذمام ... و هذا الليل قد غشيكم ، فاتّخذوه جَمَلاً ، و ليأخذ
كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً خيراً ! ، و تفرّقوا في
مدائنكم ، فإنّ القوم إنّما يطلبونني ، و لو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري .
و هنا نهض سيدنا
العباس و قال بحزن :
ـ لِمَ نفعل ذلك
؟! لنبقى بعدك ؟! لا أرانا الله ذلك أبداً .
و تتابع إخوة
الحسين و أبناؤه و أبناء أخيه بكلمات كلّها إيمان و شجاعة و استبسال قائلين :
إنّ الحياة بدون سيدنا الحسين لا قيمة لها ، و إنّ الدنيا التي يحكم فيها يزيد
بن معاوية لا تساوي شيئاً .
رؤيا
في تلك الليلة
...غفا سيدنا الحسين وقت السحر ، فرأى في عالم النوم عشرات الكلاب تهاجمه و
تنهشه ، و رأى كلباً أبقع اللون متوحشاً ، كان ينهشه في عنقه . استيقظ سيدنا
الحسين من نومه .
و أمضى سيدنا
الحسين تلك الليلة في قراءة القرآن و الدعاء و الاستغفار ... كان يفعل ذلك و هو
يصلح سيفه .
أمّا سيدنا العباس
فكان يدور حول خيام الأطفال و النساء يحرسهن من غدر العدوّ .
و في تلك الليلة ،
أمر سيدنا الحسين أن يقاربوا بي الخيام ، و راح سيدنا الحسين و أصحابه يحفرون
خندقاً وراء المخيم ، ثمّ ملأوا الخندق بالحطب ، لإشعال النار فيه وقت الحاجة .
يوم عاشوراء
أشرقت شمس العاشر
من المحرم حزينة ، كأنها تبكي من أجل الأبرياء ، تبكي من أجل الأطفال و
الأُمهات و الآباء الظامئين ... تبكي من أجل سبط سيدنا محمد
( صلى الله عليه وآله )
.
أصدر عمر بن سعد
أمره بالهجوم ، و بدأت السهام تنهال على مخيم سيدنا الحسين كالمطر . و هكذا
اشتعلت المعركة .
اشتبك جيش سيدنا
الحسين القليل العدد مع جيشٍ جرّارٍ مؤلَّفٍ من ثلاثين ألف جندي .
و تساقط الشهداء
فوق الرمال ، كما تتساقط النجوم و تنظفئ .
استشهد أصحاب
الحسين ... استشهد الحرّ الرياحي و حبيب بن مظاهر الأسدي ، و زهير بن القين ، و
مسلم بن عوسجة ، و نافع بن هلال ، تساقطوا جميعاً دفاعاً عن سيدهم الحسين
( عليه السَّلام )
.
و جاء دور أهل
البيت ، فانطلقوا يتسابقون إلى الشهادة ، الواحد بعد الآخر . فاستشهد عليّ
الأكبر ، و عبد الله بن مسلم و إخوته ، و استشهد إخوة سيدنا الحسين عبد الله ،
و عثمان و جعفر . و لم يبقَ مع سيدنا الحسين سوى أخيه بطل كربلاء ، العباس بن
عليّ
( عليه السَّلام )
.
كان سيدنا الحسين
قد سلّم الراية لأخيه ، فكانت تخفق عالياً منذ اشتعال المعارك الضارية .
و ها هي الساعات
تمرّ ، و العباس يقاتل ببسالة ، و في كلّ مرّة كان العباس يهاجم الآلاف لينقذ
بعض أصحاب الحسين ممّن يحاصرون أثناء القتال ، أو يحمل أجساد الشهداء ليأتي بها
إلى المخيم ، حتى لا يمثّل بها أولئك الأوغاد .
و هكذا ظلّ يقاتل
إلى أن تساقط الشهداء ، و عرجت أرواحهم إلى السماء . و عندما لم يبق مع سيدنا
الحسين سواه ، تقدّم إلى أخيه ، يطلب منه الإذن بالهجوم .
سمع سيدنا العباس
بكاء الأطفال ... كانوا يبحثون عن قطرة ماء في وسط الصحراء . و لكن الذئاب كانت
تحاصر النهر ، و لا تسمح لأطفال الحسين أن يشربوا منه حتى قطرة واحدة !!
أخذ سيدنا العباس
القربة ، و امتطى صهوة جواده ، و اندفع باتجاه الفرات .
كان ابن عليّ
يقاتل آلاف الأوغاد الذين يحاصرون النهر . و كان العباس يتقدّم باتجاه الفرات ،
حتى وصل الشواطئ ، و دارت معارك ضارية وسط النخيل ... العباس يندفع باتجاه نهر
الفرات ... ها هو يقتحم المياه فيتطاير رشاش الماء .
كان الحصان عطشان
فغص في المياه ، و راح يشرب .
مدّ العباس كفّه
ليشرب ، و لكنّه تذكّر الأطفال الظامئين ، تذكّر أخاه الحسين ، فرمى الماء
بعيداً ... و ملأ القربة .
الجبناء يختبئون
وراء أشجار النخيل ، إنّهم لا يجرأون على مواجهة فارس كربلاء .
الغدر
فيما كان العباس
يشقّ طريقه بين أشجار النخيل ، كان أحد الأوغاد يختبئ وراء نخلة ... في يده سيف
مسموم ... كان ينتظر أن يمرّ العباس قريباً من النخلة ليغدر به .
و في تلك اللحظة
ظهر المجرم و أهوى بالسيف على يمين سيدنا العباس . سقطت يد العباس ، و سقط
السيف .
كان العباس لا
يفكّر في تلك اللحظات إلاّ في شئ واحد هو أن يوصل الماء للأطفال ، لكي يشربوا و
يرتووا ، و لهذا اندفع يشقّ طريقه بين النخيل .
اختبأ و غدٌ آخر
خلف نخلة ، و انتظر اقتراب الفارس الجريح .
عندما صار العباس
قريباً اندفع الوغد ، و أهوى بسيفه الغادر على يده اليسرى ، فسقطت . و أضحى
سيدنا العباس دون يدين .
كيف سيقاتل إذن ؟!
كانت قربة الماء ما تزال سليمة ، و كان العباس يشعر بالأمل .

و لكن الأوغاد
تجرّاوا و هم يرون فارس كربلاء بلا يدين ، فراحت السهام تنهال عليه من كلّ جانب
.
تمزّقت القربة ، و
أريق الماء . و شعر العباس بالآلام .. آلام الأطفال ، و آلام جراحه .
و فيما هو يشق
طريقه ، جاءه سهمه فنبت في قلبه . و شعر العباس بأنه يموت ، و جاء وغد و في يده
عمود فضرب سيدنا العباس على رأسه ، و هنا سقط الفارس .
و عندما يسقط
الفارس من فوق جواده فإنّه يتلقّى الأرض بيديه ، حتى يخفّف من شدّة السقوط . و
لكن سيدنا العباس لم تكن عنده يدان ، لهذا سقط على رأسه فتضاعفت آلامه .
و أطلق سيدنا
العباس صيحة الوداع :
ـ عليك منّي
السلام يا أبا عبد الله !
سمع سيدنا الحسين
نداء أخيه فاندفع نحو شواطئ الفرات ، و فرّ الأوغاد مذعورين ، و هم يشاهدون سيف
الحسين يهوي كالصاعقة .
وصل سيدنا الحسين
إلى أخيه ، كان العباس في اللحظات الأخيرة من حياته ، كان ينتظر أخاه ليودّعه
الوداع الأخير .
جلس الحسين عند
رأسه ، و حاول أن يوقف تزف الدماء . و لكن لا فائدة ، فعشرات الجراح كانت تتدفق
دماً .
أراد أن يحمله .
قال العباس بصوت واهن :
ـ يا أخي دعني في
مكاني .
و لأوّل مرّة
يخاطب سيدنا العباس أخاه قائلاً : يا أخي . لقد كان يخاطبه قائلاً : يا سيدي .
و في هذه المرّة شعر أنّه سيموت بعد لحظات فقال له : أخي لأنّها كلمة تخرج من
القلب .

و شيئاً فشيئاً
أغمض سيدنا العباس عينيه ، و صعدت روحه إلى السماء ، تشكو إلى الله ظلم يزيد .
عاد الحسين إلى
المخيم وحيداً ، كان يبكي ، و كانت الدموع تسيل على وجهه . همس الحسين مع نفسه
قائلاً :
ـ الآن انكسر ظهري
.
شعر سيدنا الحسين
أنّه لم يعد قادراً على تحمّل كلّ هذه المصائب ، و ها هو أخوه بطل الفرات ، و
فارس كربلاء يستشهد ، و يتركه وحيداً .
عندما سقط العباس
شهيداً ، تجرّأ الأوغاد ، و راحوا يهاجمون مخيّم الحسين بوحشيّة . اندفعت عشرات
الذئاب ، و قد كشّرت عن أنيابها تريد أن تأكل الأطفال !.
ها هو الحسين يبقى
وحيداً . سقطت الراية ، و لم يحملها بعده أحد .
و ها هو العباس
بين أشجار النخيل نائم ... روحه تسبح في السماء ... ها هو يطير بجناجين كما
يطير عمّه جعفر الشهيد بمؤتة ... و كلاهما قطعت يداه في الجهاد .
واضيعتنا بعدك
عاد سيدنا الحسين
يبكي إلى المخيم . جاءت سكينة تستقبل عمّها العباس . فرأت أباها وحيداً ...
أدركت سكينة أنّ عمّها قد ذهب و لن يعود . تركهم وحدهم وسط آلاف الذئاب ، لهذا
صاحت بلوعة :
ـ يا عمّاه !
و سمعت زينب بكاء
سكينة فصاحت بحزن :
ـ وا أخاه وا
عباساه ! ... وا ضيعتنا بعدك .
تمتم سيدنا الحسين
بأسىً قائلاً :
ـ وا ضيعتنا بعدك
.
العباس ما يزال
يقاتل
و في هذا الزمن و
بعد عشرات القرون يرى الزائر لكربلاء و على مقربة من نهر الفرات ، و وسط أشجار
النخيل ، قبّة و منائر ذهبية ، ترتفع في السماء و تتألق تحت أشعة الشمس .
نعم ... إنّه مرقد
سيدنا العباس ... فارس كربلاء ، و بطل عاشوراء .
و عندما يزور
المرء ضريحه اليوم ، تتوهج أمام عينيه بطولات ذلك الفارس المؤمن الذي جسّد أسمى
آيات التضحية و الفداء و الاستبسال .
لقد مضى العباس
شهيداً في سبيل الإسلام ، إنّه الآن يطير في جنات الفردوس ، أمّا ذكراه فما
تزال خالدة في ذاكرة الأجيال .
العودة
لنعد الآن إلى
الوراء قروناً ... لنعد إلى كربلاء عندما كانت صحراء ... إلى شواطئ الفرات .
الحسين ما يزال
يقاتل ... يصدّ هجمات آلاف الذئاب ، و آلاف الأوغاد و الجبناء ... ها هو يواجه
بمفرده ثلاثين ألف مقاتل . تُرى ما ذا حصل بعد استشهاد أخيه العباس
( عليه السَّلام )
؟!
|