القاسِمُ بن الحسن وجههٌ يَشبهُ القَمَر

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 بحمدك يا بارئ العالمين

انت الرحيم ، و انت المعين...

و اياك يا ربّنا نستعين...

بنعماك نحيا و انت الاله

تعاليت يا ارحم الراحمين...

حياة البحار ، و صخر الجبال

تنادي بحمدك يا ذا الجلال...

تباركت يا أحسن الخالقين

 

الاهداء

إلى كل الذين سارو على خط الحسين في الطريق إلى كربلاء ...

 

استشهد عليّ الأكبر ... و ما تزال راية الإسلام و الجهاد و المقاومة تخفق في يد العباس بن عليّ .

خرج عبد الله بن مسلم بن عقيل ، و راح يقاتل كالأبطال . كانت السهام تتّجه إليه من كلّ صوب . جاء سهم غادر من بعيد . أراد عبد الله أن يصدّ السهم بكفّه اليسرى ، فاخترق السهم الكفَّ ، و سمّرها إلى جبينه . حاول أن ينتزعه و لكن دون فائدة .

اِستغلّ أحد الجبناء هذه الفرصة ، و سدّد لعبد الله رمحاً . اخترق الرّمح الغادر قلب الشاب ، فهوى على الأرض شهيداً .

و في هذه اللحظات هجم آل أبي طالب ، لقد انفجر بركان الغضب في نفوسهم .

هجم عون بن عبد الله بن جعفر الطّيار ـ و أمّه زينب بنت عليّ بن أبي طالب ـ و هجم أخوه محمّد ، و التحق بهما عبد الرحمن بن عقيل ، و أخوه ابن عقيل ، و تبعهم الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب .

هتف الحسين و هو يودّعهم بنظرات حزينة :

ـ صبراً على الموت يا بني عمومتي ، و الله لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم .

و دارت معارك ضارية ، و كان الأبطال يتساقطون شهداء فوق الرمال الملتهبة ، كما تتساقط الفراشات في النار المجنونة . الدماء تلوّن الأرض ، و أرواح الشهداء تعرج إلى السماء ، تشكوا إلى الله ظلم المجرمين .

القاسم بن الحسن

ما إن استشهد آل أبي طالب ، حتّى تقدّم محمّد بن الحسن بن عليّ ( عليه السَّلام ) ، و أُمّه " رملة " ، و راح يقاتل ببسالة حتّى هوى على الأرض شهيداً .

و هنا جاء شقيقه القاسم ، فتىً في الرابعة عشرة من عمره ، وجهه يشبه القمر ، جاء القاسم ليودّع عمّه العظيم ، قبل أن ينطلق إلى ميادين الشرف و الكرامة و الاستشهاد .

احتضن سيّدُنا الحسين ابنَ أخيه و بكى ، بكى من أجل فتىً في عمر الربيع ، بكى ذكرى أخيه الحسن .

و لكن القاسم لم يكن يفكّر في الدنيا ، حتّى يحزن من أجل فراقها ، فالدنيا التي يحكم فيها يزيد لا تساوي شيئاً ، و الدنيا التي يرفضها عمّه ، سيد الأحرار ، دنيا لا قيمة لها . من أجل ذلك استلّ القاسم سيفه ، و تقدّم نحو آلاف الذئاب ، تقدّم دون أن يخامره شعور بالخوف ، فهو سليل عليّ بن أبي طالب بطل الإسلام الخالد .

كان ما يزال في مقتبل العمر ، ليست لديه تجارب المحاربين . خرج القاسم ماشياً ، عليه قميص و إزار ، و في كفّه سيف ، و في قدميه نعلان .

جيش يزيد لا يساوي نعلاً

راح القاسم يقاتل آلاف الفرسان و آلاف المشاة ، و فيما هو مشغول بالقتال ، انقطع شسع نعله اليسرى ، و كان أمام خيارين ، إما أن يقاتل حافياً ، أو أن يصلح نعله .

لم يكترث لآلاف الجنود ، و هم يدورون حوله كالذئاب المجنونة . توقف ... ركز سيفه في الرمال ، و انحنى ليصلح شسع نعله .

لقد أَنِفَ القاسم أن يقاتل حافياً ، أراد أن يقول لجيش يزيد أنّه لا يهتمّ ، و لا يكترث ، و لا يخاف ، و إنّ جيش يزيد لا يساوي حتّى هذا النعل .

و في هذه اللحظات هجم أحد الذئاب و في يده رمح غادر ، فطعن الفتى العلوي الطاهر . فصاح :

ـ يا عمّاه !

كان الحسين يراقب من بعيدٍ غبار المعركة ،فهبّ يلبّي استغاثة ابن أخيه .

الذين شاهدوا سيّدنا الحسين في تلك اللحظات ، و هو ينطلق كالسهم باتجاه القاتل ، أدركوا غضب الإمام .

و أهوى الإمام بسيفه على العدو الغادر ... لمع سيف الحسين وسط الغبار كالصاعقة ، و سقط القاتل فوق الأرض . و في هذه اللحظة اندفع عشرات الفرسان لإنقاذه ، و داسته الخيول بحوافرها و مات .

و جاء الحسين إلى ابن أخيه . كان ما يزال يتنفّس ، و جراحه تنزف دماً . اعتنق الإمام الفتى ، شمّ رائحة أخيه الحسن .

قال سيّدنا الحسين و هو يمسح غبار المعركة عن وجه القاسم :

ـ بعداً لقوم قتلوك ، خصمهم يوم القيامة جدّك .

ثمّ تمتم آسفاً :

ـ عزَّ و الله على عمّك ، أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا ينفعك .

و أغمض القاسم عينيه . عرجت روحه الطاهر إلى السماء إلى حيث يذهب الشهداء .

رفع سيدنا الحسين عينيه إلى السماء ، ليستمطر اللعنة على هؤلاء الوحوش ، الذين جاءوا لقتل أبناء النبي دون ذنب ، هؤلاء الذين يطيعون يزيد ، و يعصون الله و رسوله .

و قال :

ـ اللّهم أحصهم عدداً ، و لا تغادر منهم أحداً ، و لا تغفر لهم أبداً .

خيمة الشهداء

حمل الإمام الحسين ( عليه السَّلام ) ابن أخيه الحبيب . لم يضعه فوق فرسه ، كما فعل مع ابنه عليّ الأكبر ، بل حمله بنفسه . كان صدر القاسم غافياً على صدر عمّه ... وجهه ما يزال يتألّق كالقمر .

الرمال مليئة بالسهام المتكسّرة و الدماء .

وضع الإمام جسد الشهيد إلى جانب جسد عليّ الأكبر في خيمة الشهداء .

نظر الحسين إلى القاسم . بدا الفتى الشهيد كما لو كان نائماً .

تذكر الإمام طفولته ، كان عمره أربع سنوات عندما استشهد أبوه الحسن مسموماً .. جاء يبكي إلى عمّه ، يريد أن يقول له أنّه أصبح يتيماً ، و ها هو الآن يلتحق بأبيه الشهيد .

طبع العمّ قبلة على جبين ابن أخيه الشهيد ، و غادر الخيمة حزيناً .

راية الإسلام ما تزال تخفق في كفّ العبّاس . لم يبق مع الحسين إلاّ إخوته ، كانوا أربعة :

عبد الله ، و عثمان ، و جعفر ، و شقيقهم العباس .

قال العباس لأشقّائه :

ـ تقدّوا بني أمّي ... حتّى أراكم نصحتم لله و لرسوله .

و التفت إلى عبد الله ، و كان أكبرهم و قال :

ـ تقدّم يا أخي .

و دّعوا أخاهم ، و انطلقوا إلى قلب المعركة . و تصاعد مرّة أُخرى غبار المعارك الضارية ، و كان صوت اصطدام السيوف يأتي من بعيد ، و شئياً فشئياً انجلى غبار المعركة ، لقد هوى الإخوة شهداء في سبيل الله ، و من أجل الدفاع عن ابن رسول الله .

ما تزال شمس ترسل أشعّتها فتعمر أرض المعركة بالنّور ، و ما تزال الراية في قبضة العباس تخفق متحدّية جنود الشيطان .

لم يبق مع الحسين أحد سوى أخيه .

يوم العاشر من المحرّم يقترب من نهايته ، و الشمس تجنح نحو الأصيل .

النسوة و الأطفال ينظرون من داخل الخيام إلى راية المقاومة ما تزال خفّاقة ، فيشعرون بشيء من الأمل و الطّمأنينة .

الذكرى

لقد مرّت عشرات السنين ، و أضحى يوم عاشوراء مجرّد ذكرى ، و لكنها ذكرى متأجّجة في النفوس ... نفوس الأحرار ، ما يزال المسلمون و المؤمنون يحيّون ذكرى العاشر من المحرّم ، و يستعيدون تفاصيل يوم عاشوراء ، انّه أطول يوم في التاريخ ، و ما يزال الشبّان يتذكرون تضحيات و شجاعة أبناء الحسين ، و هم يواجهون جيشاً جرّاراً ، مؤلّفاً من آلاف البرابرة المتوحشين .

و اليوم و عندما يزور المرء كربلاء ، سوف يجد مراقد الشهداء ، قريباً من مرقد سيّد الشهداء الحسين بن عليّ ( عليه السَّلام ) و هناك يرقد القاسم بوجهه المضيء الذي يشبه القمر .

راية المقاومة

ما تزال راية المقاومة في كفّ العباس ، ما تزال تخفق عالياً في صحراء كربلاء .

لم يبق مع الحسين أحد .

لقد سقط عشرات الشهداء ، و هم يدافعون عن ابن فاطمة بنت محمّد ( صلى الله عليه و آله ) . لم يبقَ معه سوى أخيه العباس .

و ها هو العباس ممتطياً صهوة جواده ، يتأهّب لخوض معركة مدمّرة مع آلاف الذئاب .

ترى ماذا يجري هناك قريباً من شوطئ الفرات ؟ حيث تجري المياه العذبة ، و أطفال الحسين يذوبون عطشاً !

إلى الكتاب الخامس من هذه السلسلة .

لنتابع معاً تفاصيل الملحمة ... ملحمة الفداء .

 

 

 

 

موقع يا زهراء سلام الله عليها لكل محبي الزهراء سلام الله عليها فلا تبخلوا علينا بآرائكم ومساهماتكم وترشيحكم كي يعلو اسمها سلام الله عليها ونعلو معها