القرآن الكريم - سيرة أهل البيت ع - المجالس - اللطميات - فيديو - فلاشات - ثيمات - ويفات

مالك الأشتر

 

الربذة

منطقة صحراوية بين مكّة و المدينة ، هي منطقة جرداء لا يسكنها أحد . و لكن في عام 30 هجرية ، كانت هناك خيمة وحيدة . في داخل الخيمة شيخٌ كبير و امرأة عجوز هي زوجته و ابنتهما .

لماذا جاء الشيخ إلى هذه المنطقة البعيدة في وسط الصحراء ؟

انّه لم يأت بإرادته ، لقد نفاه الخليفة ليموت في تلك الصحراء .

كان الشيخ مريضاً ، و كانت زوجته تبكي فقال لها :

ـ لماذا البكاء يا اُم ذر ؟

قالت العجوز :

ـ كيف لا أبكي و أنت تموت في هذه الصحراء .

قال الشيخ :

ـ كنت مع بعض أصحابي جالسين مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال لنا : سيموت أحدكم في الصحراء و سيحضر موته جماعة من المؤمنين . لقد توفي كلّ أصحابي عند أهلهم و لم يبق سواي ، سوف يأتي مَن يساعدك .

قالت العجوز :

ـ لقد مضى موسم الحجّ و هذه الصحراء لا يمرّ بها أحد .

قال الشيخ :

ـ لا عليك اصعدي التلّ و انظري إلى طريق القوافل .

صعدت المرأة التلّ و راحت تنظر إلى طريق القوافل .

مرّ وقت طويل ، فشاهدت من بعيد قافلة قادمة .

لوّحت المرأة بقطعة قماش للقافلة ، و تعجّب المسافرون و تساءلوا مَن تكون هذه المرأة الوحيدة في الصحراء ؟!

فجاءوا اليها . سألوها عن شأنها فقالت :

ـ ان زوجي يموت و ليس قربه أحد .

و مَن هو زوجك ؟

فقالت المرأة و هي تبكي :

ـ أبو ذرّ صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .

و تعجّب أهل القافلة فقالوا :

ـ أبو ذر صاحب النبي ؟! هيا بنا إليه .

و ذهب الرجال إلى الخيمة ، و عندما دخلوها وجدوا أبا ذر في فراشه . و قال الرجل :

 السلام عليك يا صاحب رسول الله .

فقال أبو ذر بصوت ضعيف :

ـ و عليكم السلام مَن أنت ؟

قال الرجل :

ـ مالك بن الحارث الأشتر و معي رجال من أهل العراق ، نريد الذهاب إلى المدينة لنشتكي إلى الخليفة ما يحلّ بنا من الظلم .

ابتسم أبو ذر و قال :

ـ ابشروا يا إخواني لقد أخبرني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأنني سأموت في الصحراء ، و سيحضر وفاتي رجال مؤمنون .

فرح مالك و من معه بهذه البشرى النبويّة و جلسوا في خيمة أبي ذر ، و كان مالك الأشتر حزيناً من أجل الصحابي الجليل أبي ذر و ما حلَّ به على أيدي بني اُميّة .

الأشتر

ينتمي مالك بن الحارث النخعي إلى قبيلة يمنية عريقة ، أسلم في عهد النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) و كان من المخلصين في ايمانه و إسلامه .

اشترك في معركة اليرموك و قاتل ببسالة فريدة ، و كانت له مواقف شجاعة في صدّ هجمات الروم على الجيش الإسلامي فشترت عينه بالسيف أي انشق جفنها السفلي و لذلك عُرِفَ بالأشتر .

في عام ثلاثين للهجره كان المسلمون في مدينة الكوفة و غيرها من المدن الإسلامية غاضبين من تصرّفات الولاة .

فمثلاً كان " الوليد بن عقبة " و هو أخو الخليفة عثمان حاكماً على الكوفة و كانت تصرفاته منافية للإسلام و الدين ، فهو يشرب الخمر ، و يقضي وقته في مجالس الغناء و اللهو .

ذات يوم جاء الوليد إلى المسجد سكران و صلّى بالمسلمين صلاة الصبح أربع ركعات ، ثم التفت إلى المصلّين و قال مستهزئاً :

ـ أتريدون أن أزيدكم ؟

كان الناس غير راضين عن سيرته و كانوا ينتقدونه في الأسواق و البيوت و المساجد .

كانوا يتساءلون قائلين :

ـ ألم يجد الخليفة شخصاً غير هذا الفاسق لكي يجعله والياً ؟!

ـ انّه يعتدي على حرمات الدين و المسلمين .

لهذا فكّروا بطريقة للحلّ ، فوجدوا ان أفضل طريق هو أن يستشيروا أهل التقوى و الصلاح ، فذهبوا إلى مالك الأشتر فهو شخص تقيّ و شجاع و لا يخاف أحداً غير الله . قال مالك الأشتر :

ـ الأفضل أن ننصحه أوّلاً فاذا لم يرتدع نشكوه إلى الخليفة .

ذهب مالك و معه بعض الناس الصالحين إلى قصر الوالي .

عندما دخلوا ، وجدوه يشرب الخمر كعادته ، فنصحوه أن يكفّ عن تصرفاته المشينة و لكنّه انتهرهم و طردهم .

عندها قرّروا السفر إلى المدينة المنوّرة و مقابلة الخليفة لإطلاعه على الأمر .

قابل الوفد الخليفة و لكنّه ـ مع الأسف ـ انتهرهم و طردهم و رفض شهادتهم ، فخرجوا يائسين .

فكّروا في الذهاب إلى ابن عمّ سيّدنا محمّد (( صلى الله عليه وآله ) علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) فهو الأمل الوحيد في الإصلاح .

الوفود

و في تلك الفترة جاءت وفود من المدن الإسلامية الاُخرى كلّها تشكوا من ظلم الولاة و سوء سيرتهم .

و ذهب الصحابة إلى منزل الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) و اشتكوا عنده ما يلاقيه المسلمون من الظلم و الفساد .

كان الإمام علي يشعر بالحزن لذلك ، فذهب إلى قصر الخليفة و دخل على عثمان و نصحه قائلاً :

ـ يا عثمان ان المسلمين يشتكون من الظلم . و لست أدلّك على أمر لا تعرفه ، و اني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : " يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر و ليس معه نصير و لا عاذر ، فيلقى في جهنّم فيدور كما تدور الرحى ثم يرتطم في غمرة جهنّم " . و انّي اُحذّرك الله ، فانّ عذابه شديد .

فكّر عثمان قليلاً و أطرق حزيناً و اعترف بأخطائه و وعده بأن يتوب إلى الله و يعتذر من المسلمين .

خرج الإمام علي يبشّر المسلمين بذلك و عمّت الفرحة الجميع .

و لكن مروان و كان رجلاً منافقاً دخل على الخليفة و تحدّث اليه فغيّر رأيه و قال له :

ـ الأفضل أن تخرج إلى الناس و تهدّدهم حتى لا يتجرأوا على مقام الخلافة .

الثورة

تراجع عثمان عن وعوده بإصلاح سيرته و تغيير الولاة و اتبع سياسة قاسية تجاه الناس .

أشار معاوية و هو حاكم الشام آنذاك بنفي بعض الصحابة .

كان الخليفة قد نفى الصحابي الجليل أبا ذر الغفاري فمات وحيداً في صحراء " الربذة " و قام بضرب الصحابي عمّار بن ياسر و هو ابن أول شهيدين في الإسلام .

كما جلد الصحابي عبد الله بن مسعود لهذا تذمّر الناس من سياسة عثمان و ولاته .

و بعث صحابة سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) برسائل إلى كافّة المدن الإسلامية و مضمونها :

ـ أيُّها المسلمون ، تعالوا الينا ، و تداركوا خلافة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فان كتاب الله قد بدّل و سنّة رسوله قد غيّرت . فأقبلوا الينا ان كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر . فأقيموا الحق على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيّكم .

و تدفّق المسلمون الثائرون من كلّ أنحاء الدولة الإسلامية إلى المدينة المنوّرة .

كان مالك الأشتر يمثّل الثائرين فدخل على عثمان لإجراء المفاوضات من أجل إصلاح الاُمور .

و كانت مطالب الثّوار هي أن يعتزل عثمان الخلافة .

لم يستجب الخليفة لذلك .

حاول الإمام علي ( عليه السَّلام ) التدخّل مرّة اُخرى و إصلاح الاُمور و لكن بلا فائدة .

كان المسلمون غاضبين من سيرة عثمان و ولاته و ظلمهم و كان عثمان يعاند مصرّاًًًًً على سياسته .

حاصر الثوّار قصر عثمان ، فطلب الإمام ( عليه السَّلام ) من ولديه الحسن و الحسين أن يقفا للحراسة .

غير ان الثوّار تسوّروا جدران القصر ، و اقتحموا غرفة الخليفة و قتلوه ، و فرّ مروان و غيره من المنافقين .

كان طلحة و الزبير يطمعان في الخلافة فساعدا الثوّار و لكن الناس كانوا لا يفكرون إلاّ بشخص واحد ليكون خليفة عليهم و هو الإمام علي ( عليه السَّلام ) .

تدفقت الجماهير إلى منزل الإمام و طلبوا منه أن يكون خليفة ، و لكن الإمام رفض ذلك .

أصرّ مالك الأشتر و غيره من الصحابة على ذلك ، و ألقى مالك خطاباً حماسياً في الجماهير قائلاً :

ـ أيُّها الناس

هذا وصي الأوصياء .

و وارث علم الأنبياء .

الذي شهد له كتاب الله بالايمان .

و رسوله بجنّة الرضوان .

من كملت فيه الفضائل .

و لم يشكّ في سابقته و علمه الأواخر و الأوائل .

و هكذا كان مالك أول من بايع علي بن أبي طالب و تبعته جماهير المسلمين .

و عندما أصبح الإمام علي خليفة ، بدأ عهد جديد فقد أصدر أمراً بإقالة جميع الولاة الظالمين و عيّن مكانهم أشخاصاً معروفين بالتقوى و الصلاح .

معركة الجمل

كان البعض يطمع بالخلافة و الحكم ، من هؤلاء " طلحة  " و " الزبير " فذهبا إلى مكّة و حرّضا اُم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر .

استغل مروان ذلك فراح ينفق من أموال المسلمين التي سرقها ، و ألّف جيشاً كبيراً ، و رفعوا شعار الثأر لدم عثمان .

توجّه الجيش إلى مدينة البصرة ، و هناك طردوا الوالي بعد أن نتفوا لحيته و استولوا على بيت المال .

و كان على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن يواجه هذا التمرّد بحزم ، فزحف بجيشه إلى البصرة .

أرسل الإمام ابنه الحسن ( عليه السَّلام ) و الصحابي الجليل عمّار بن ياسر إلى " الكوفة " و دعوة أهلها للجهاد .

كان والي الكوفة آنذاك " أبو موسى الأشعري " فراح يدعو الناس للتقاعس عن الجهاد و عصيان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) .

مرّت الأيام و لم يعُد الحسن و عمّار بن ياسر فبعث الإمام مالكاً الأشتر في أثرهما .

كان مالك الأشتر رجلاً شجاعاً معروفاً بالحزم ، و هو يدرك ان المسلمين في الكوفة يؤيدون الإمام ضد أعدائه ، و ان العقبة الوحيدة هي " ابو موسى الأشعري " .

وصل مالك الأشتر الكوفة و راح يدعو الناس في أن يتبعوه ، و اجتمع حوله جمهور غفير ، فاقتحم بهم قصر الامارة و طرد الحرّاس منه .

كان أبو موسى الأشعري وقتها في المسجد يدعو الناس إلى لزوم بيوتهم و عدم الاستجابة لأوامر أمير المؤمنين . فجاء الحرّاس و أخبروه بسقوط القصر في قبضة مالك الأشتر .

طلب " أبو موسى الأشعري " مهلة يوم واحد لمغادرة الكوفة ، فأُجيب طلبه .

و في نفس اليوم أسرع مالك الأشتر إلى المسجد و خطب في الجماهير يحرّضهم لنصرة الإمام علي .

فاجتمع منهم جيش بلغ تعداده ثمانية عشر ألفاً من المقاتلين ، تسعة آلاف في قيادة الحسن فسلك بهم الطريق البرّي ، فيما سلك الباقون الطريق النهري لكي يلتحق الجميع بجيش الإمام علي في منطقة " ذي قار " في جنوب العراق .

اتّجه الجيش بقيادة الإمام إلى مدينة البصرة فالتقى بجيش عائشة و طلحة و الزبير و مروان بن الحكم .

كان مالك الأشتر قائداً للجناح الأيمن و كان عمّار بن ياسر قائداً للجناح الأيسر ، فيما وقف الإمام في قلب الجيش حيث حمل الراية ابنه محمد بن الحنفية .

بدأ جيش عائشة بالعدوان فأمطر جيش الإمام بوابل من السهام ، فسقط عددٌ من القتلى و الجرحى .

أراد جيش الإمام المقابلة بالمثل فمنعهم الإمام و قال :

ـ من يأخذ هذا المصحف و يذهب إليهم فيدعوهم للاحتكام عليه ؟

انّهم يقتلونه لا محالة .

و هنا انبرى شابّ و قال :

ـ أنا آخذه يا أمير المؤمنين .

تقدّم مسلم نحو جيش الجمل رافعاً المصحف .

صاحت عائشة :

ـ ارشقوه بالسهام . فأمطره الرماة بوابل من السهام فسقط فوق الأرض شهيداً .

و في تلك اللحظات رفع أمير المؤمنين يديه إلى السماء داعياً الله سبحانه أن ينصر الحق و أهله و قال :

ـ اللّهم إليك شخصت الأبصار .

و بسطت الأيدي .

ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق .

و أنت خير الفاتحين .

ثم أصدر الإمام أمره بالهجوم الشامل ، و تقدّم الأشتر يقاتل ببسالة ، و حدثت اشتباكات عنيفة حول الجمل .

أدرك الإمام ان عقر الجمل سوف يضع حدّاً لنزيف الدم ، و اقتتال الاخوة .

قاد مالك الأشتر هجوماً عنيفاً باتجاه الجمل .

كان مالك الأشتر يقتل بشجاعة و فروسية ، أي انّه لا يقتل الجرحى و لا يطارد الذين يفرّون من المعركة .

كان مالك يقتدي في أخلاقه بالإمام علي ( عليه السَّلام ) ، فهو يحبّ وصي رسول الله ، و كذلك كان الإمام يحبّ مالكاً لأنّه من أهل التقوى ، و الله يحبّ المتقين .

الانتصار

و بعد معارك ضارية تمكّن جيش الإمام من عقر الجمل فانهارت معنويات الجيش المقابل و فرّ المقاتلون من ساحة المعركة .

أصدر الإمام أمراً أوقف فيه العمليات الحربية ، و أمر بمعاملة عائشة بكلّ احترام و إعادتها إلى المدينة معزّزة مكرّمة .

أطلق الإمام الأسرى و أمر بمعالجة الجرحى و عفا عن الجميع .

و دخل مالك الأشتر و عمّار بن ياسر على عائشة فقالت :

ـ لقد كدت يا مالك أن تقتل ابن اختي .

أجاب مالك :

ـ نعم و لولا انّي كبير و كنت صائماً ثلاثة أيام لأرحت منه اُمّة محمّد ( صلى الله عليه وآله ) .

في الكوفة

و بعد أن أقام الإمام في البصرة أيّاماً عاد بجيشه قاصداً مدينة الكوفة .

كان مالك الأشتر في المعارك كالأسد يُقاتل بشجاعة لا نظير لها ، و لهذا كان الأعداء يخافون منه .

و لكنّه في الأيّام العادية كان يبدو كرجل فقير فهو يرتدي ثياباً بسيطة و يمشي بتواضع حتى أن أكثر الناس لا يعرفونه .

ذات يوم و عندما كان مالك يسير في الطريق ، كان أحد السفهاء يأكل تمراً و يرمي النوى هنا و هناك .

و عندما مرّ مالك أمامه ، رماه بنواة في ظهره و راح يضحك عليه .

فقال له رجل رآه :

ـ ماذا تفعل ؟! هل تعرف مَن هذا الرجل ؟

أجاب :

ـ كلاّ ، مَن هو ؟

ـ إنّه مالك الأشتر .

كان مالك الأشتر قد مضى في طريقه ، لأن المؤمن لا يهتم لما يفعله السفهاء من الناس ، و تذكّر ما كان يفعله المشركون بسيّدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) في مكّة عندما كانوا يلقون عليه التراب و القاذورات فلا يقول شيئاً .

دخل مالك المسجد و راح يصلّي لله و يستغفر لذلك الشخص الذي رماه بالنواة .

جاء الرجل مهرولاً و دخل المسجد و ألقى بنفسه على مالك يعتذر إليه و قال :

ـ اعتذر إليك ممّا فعلت فاقبل عذري .

أجاب مالك بابتسام :

ـ لا عليك يا أخي ، و الله ما دخلت المسجد إلاّ لكي أُصلّي و استغفر لك .

معركة صفين

كان الإمام يختار الصالحين من أهل التقوى و الإدارة و الحزم ولاةً على المدن ، لهذا عيّن مالكاً الأشتر حاكماً على الموصل و سنجار و نصيبين و هيت و عانات ، و هي مناطق واقعة على حدود الشام .

كان معاوية قد أعلن العصيان للخلافة و انفرد بحكم الشام .

حاول الإمام إقناع معاوية بالطاعة فبعث برسائل عديدة و أوفد إليه من يتحدّث معه ، و لكن بلا فائدة .

لهذا جهّز الإمام جيشاً و أسند قيادته إلى مالك الأشتر .

زحف الجيش باتجاه الشام و وصل منطقة " قرقيسيا " فاصطدم بجيش الشام تحت قيادة " أبي الأعور السلمي " .

حاول مالك الأشتر إقناع " قائد الجيش " بإنهاء التمرّد و الدخول في طاعة أمير المؤمنين الذي ارتضاه الناس خليفة لهم فرفض ذلك .

و في الليل ، انتهز جيش الشام الفرصة و قام بهجوم دون سابق انذار ، و كان هذا العمل مخالفاً للشريعة و الأخلاق لأنّه غدر .

قاوم جيش الخلافة الهجوم المباغت و كبّد المهاجمين العديد من القتلى و أجبره على الإنسحاب إلى مواقعه .

و مرّة اُخرى تجلّت فروسية مالك الأشتر ، فارسل إلى " أبي الأعور " مبعثواً يدعوه للمبارزة .

قال الرسول :

ـ يا أبا الأعور إن مالك الأشتر يدعوك للمبارزة .

جبن قائد جيش معاوية و قال :

ـ لا أُريد مبارزته .

وصلت إمدادات كبيرة بقيادة معاوية ملتحقة بجيش الشام .

و تقابل الجيشان في سهل " صفين " على ضفاف نهر الفرات .

احتلّت قطعات من جيش معاوية الشواطئ و فرضت حصاراً على النهر .

كان هذا العمل أيضاً مخالفاً للشريعة الإسلامية و لتقاليد الحروب .

بعث الإمام أحد صحابة النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) و هو " صعصعة بن صوحان " للتفاوض :

دخل صعصعة خيمة معاوية و قال :

ـ يا معاوية إن عليّاً يقول : دعونا نأخذ حاجتنا من الماء حتى ننظر فيما بيننا و بينكم ، و إلاّ تقاتلنا حتى يكون الغالب هو الشارب .

سكت معاوية و قال :

ـ سوف يأتيك ردّي فيما بعد .

خرج مبعوث الإمام ، و استشار معاوية رجال فقال الوليد بحقد :

ـ امنع الماء منهم ، حتى يضطروا للاستسلام .

و حظي هذا الرأي بتأييد كامل .

لقد جمع معاوية حوله كلّ الأشرار الذين لا يعرفونه حرمة للدين و الإنسانية .

كان مالك الأشتر يراقب ما يجري على الشواطئ فشاهد وصول تعزيزات عسكرية ، فأدرك أن معاوية يفكِّر بتشديد الحصار .

شعر جنود الإمام بالعطش ، و كان مالك عطشان أيضاً ، فقال له جندي :

ـ في قربتي ماء قليل اشربه .

رفض مالك ذلك و قال :

ـ كلاّ حتى يشرب جميع الجنود .

ذهب مالك إلى الإمام و قال :

ـ يا أمير المؤمنين ان جنودنا يصرعهم العطش و لم يبق أمامنا سوى القتال .

أجاب الإمام :

أجل لقد أعذر من أنذر .

و خطب الإمام في الجنود و حثّهم على الاستبسال قائلاً :

ـ الموت في حياتكم مقهورين .

و الحياة في موتكم قاهرين .

أي أن الموت هو أن يرضى الإنسان بالذلّ .

و انّ الحياة في أن يموت المرء شهيداً .

و قاد مالك الأشتر أوّل هجوم في حرب صفين و راح يقاتل ببسالة و يتقدّم باتجاه شواطئ الفرات .

و بعد اشتباكات عنيفة تمّ تحرير ضفاف النهر و إجبار جيش معاوية على الإنسحاب .

أصبح جيش معاوية بعيداً عن المياه ، و لهذا فكّر في حيلة لاستعادة مواقعه على نهر الفرات .

و في اليوم التالي سقط سهم بين جنود الإمام و كان في السهم رسالة ، قرأها الجنود باهتمام .

و انتقلت الرسالة بين الجنود بسرعة و انتشر الخبر : " من أخ ناصح لكم في جيش الشام : ان معاوية يريد أن يفتح عليكم النهر و يغرقكم ، فاحذروا " .

و صدّق الجنود ما ورد في تلك الرسالة فانسحبوا و انتهز جيش الشام الفرصة فأعاد احتلاله للشواطئ مرّة اُخرى .

غير أن جيش الإمام شن هجوماً كاسحاً و حرّر المنطقة من قبضة الاحتلال .

شعر معاوية بالقلق ، فسأل عمرو بن العاص :

ـ هل تظنّ ان عليّاً سيمنع علينا الماء ؟

أجاب عمرو بن العاص :

ـ إن عليّاً لا يفعل مثلما تفعل أنت .

كان جنود الشام يشعرون بالقلق أيضاً .

و لكن سرعان ما وصلت الأخبار بأن الإمام عليّاً سمح لهم بورود النهر و ترك لهم مساحة من الشواطئ كافية .

أدرك بعض أهل الشام الفرق بين معاوية و علي ، فمعاوية يفعل كلّ شيء من أجل أن ينتصر ، أمّا علي فلا يفكّر في ذلك ، إنّه يسير في ضوء المُثل و الأخلاق الإنسانية .

لهذا تسلل بعض الجنود ليلاً و انتقلوا إلى جبهة علي لأنّها تُمثّل الحقّ و الإنسانية .

معاوية

كان معاوية يشعر بالقلق من وجود مالك الأشتر ، لأن شجاعته و بسالته في القتال ألهب الحماس في جيش علي و بثت الذعر في جنود الشام .

فكّر معاوية في القضاء عليه عن طريق المبارزة الفردية ، فعرض الأمر على مروان ، و لكن مروان كان يخاف من مالك فاعتذر إلى معاوية و قال :

ـ لماذا لا تكلّف " ابن العاص " بذلك فهو ساعدك الأيمن .

عرض معاوية اقتراحه على عمرو بن العاص فاضطر لقبوله .

خرج ابن العاص يطلب مبارزة الأشتر .

تقدّم مالك نحوه و بيده رمحه ، و لم يترك له فرصة للدفاع فسدّد له ضربة عنيفة جرحت قسماً من وجهه فلاذ عمرو بن العاص بالفرار .

استشهاد عمّار

تصاعدت حدّة الاشتباكات و كان عمّار يقود الجناح الأيسر من جيش الإمام ، و يقاتل ببسالة رغم شيخوخته .

و عندما جنحت الشمس للمغيب طلب عمّار رضي الله عنه شيئاً يفطر به لأنّه كان صائماً .

أحضر أحد الجنود إناءً مليئاً باللبن و قدّمه إليه ، استبشر عمّار بذلك و قال :

ـ ربّما أُرزق الشهادة هذه الليلة فقد قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا عمّار تقتلك الفئة الباغية ، و آخر شرابك من الدنيا ضياح ( إناء ) من لبن .

أفطر الصحابي الجليل و تقدّم إلى ساحات القتال بقلبٍ عامر بالإيمان و ظلّ يقاتل حتى هوى على الأرض شهيداً .

جاء الإمام و جلس قرب الشهيد و قال بحزن :

ـ رحم الله عمّاراً يوم أسلم ، و رحم الله عمّاراً يوم استشهد ، و رحم الله عمّاراً يوم يبعث حيّاً . هنيئاً لك يا عمّار .

كان لإستشهاد عمّار بن ياسر في ساحة الحرب أثره في سير المعارك ، فقد ارتفعت معنويات جيش الإمام فيما انخفضت لدى جنود معاوية ، لأن المسلمين جميعاً يحفظون حديث سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) لعمّار بن ياسر : " يا عمّار تقتلك الفئة الباغية " أي المعتدية .

و أدرك الجميع ان معاوية و جنوده هم المعتدون و انّ علياً و أصحابه على الحقّ .

لهذا تصاعدت حدّة الحملات الهجومية في جبهة الإمام ، و راح معاوية و جيشه يستعدّون للهزيمة .

حيلة جديدة

فكّر معاوية بحيلة جديدة يخدع بها جيش الإمام ، فاستشار " عمرو بن العاص " .

قال عمرو بن العاص :

ـ أرى أن نخدعهم بالقرآن . نقول لهم : بيننا و بينكم كتاب الله .

فرح معاوية لهذه الحيلة و أمر برفع المصاحف على الرماح .

عندما شاهد جنود الإمام المصاحف ، فكّروا في إيقاف الحرب ، و بذلك انطلت الحيلة على كثير من الجنود .

قال الإمام : انّها مكيدة . أنا أوّل من دعا إلى كتاب الله و أوّل من أجاب إليه . انّهم عصوا الله فيما أمرهم و نقضوا عهده .

و لكن عشرين ألفاً من الجنود عصوا أمر الإمام و قالوا :

ـ اصدر أمرك بايقاف القتال و قل للأشتر ينسحب .

أرسل الإمام أحد الجنود إلى مالك الأشتر يأمره بايقاف العمليات الحربية .

استمر مالك الأشتر في القتال و قال :

ـ ما هي إلاّ لحظات و نحرز النصر النهائي .

قال الجندي :

ـ و لكن الإمام محاصر بعشرين ألف من المتمرّدين و هم يهددون بقتله إذا لم توقف القتال .

اضطر مالك الأشتر للإنسحاب و قال :

ـ لا حول و لا قوّة إلاّ بالله .

التحكيم

كان مالك الأشتر يدرك أن ما قام به معاوية هو مجرّد حيلة ، و لكنه انصاع لأمر الإمام حتى لا تحدث الفتنة ، فكان قائداً شجاعاً و جندياً مطيعاً .

توقفت المعارك و اتفق الطرفان على الاحتكام إلى كتاب الله .

فأرسل معاوية عمرو بن العاص ممثّلاً عنه في المفاوضات .

و أراد الإمام أن يختار رجلاً عاقلاً فطناً عالماً بكتاب الله فاختار عبد الله بن عباس حبر الاُمّة .

و لكن المتمرّدين رفضوا ذلك مرّة اُخرى و قالوا :

نختار " أبا موسى الأشعري " .

فقال الإمام ( عليه السَّلام ) ناصحاً :

ـ أنا لا أرضى به ، و عبد الله بن عباس أجدر منه .

رفض المتمردون ذلك فقال الإمام :

ـ إذن اختار الأشتر .

فرفضوا أيضاً و أصرّوا على " أبي موسى الأشعري " .

و حتى لا تحدث الفتنة قال الإمام :

ـ اصنعوا ما شئتم .

و هكذا اجتمع الممثلان للمفاوضات .

فكّر عمرو بن العاص أن يخدع " الأشعري " فقال له :

ـ يا أبا موسى إن سبب الفتنة وجود معاوية و علي ، فتعال لنخلعهما عن الخلافة و نختار رجلاً آخر .

كان " الأشعري " لا يحبّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، فرحّب بالفكرة ، فقال أمام الجميع :

ـ إنّني أخلع عليّاً عن الخلافة كما أخلع خاتمي من يدي .

ثم نزع خاتمه .

و هنا قال عمرو بن العاص بخبث :

ـ أما أنا فأُثبّت معاوية في الخلافة كما أُثبّت خاتمي في يدي .

ثم لبس خاتمه .

شعر المتمرّدون بالندم ، و بدل أن يتوبوا و يعودوا إلى طاعة أمير المؤمنين فإنّهم طلبوا من الإمام أن يتوب و يعلن الحرب .

و لكن الإمام كان إنساناً يحترم العهود و المواثيق و قد اتّفق على الهدنة و إيقاف القتال لمدّة سنة .

طلب الإمام منهم أن يصبروا هذه المدّة و لكنهم عصوا أوامره أيضاً و خرجوا على طاعة الإمام لهذا سمّوا ب " الخوارج " .

مصر

فكّر معاوية أن يستولي على مصر ، فأرسل جيشاً كبيراً لاحتلالها .

كان الوالي على مصر محمّد بن أبي بكر " الخليفة الأوّل " .

أرسل الوالي يطلب الإمدادات العسكرية بأقصى سرعة قبل أن تسقط مصر بأيدي الغزاة .

فأرسل الإمام مالكاً الأشتر و قال له :

ـ توجّه إلى مصر رحمك الله ، و لست أوصيك بشيء لأنني أكتفي برأيك .

استعن بالله .

استعمل اللين في مواضعه و الشدّة في مواضعها .

و انطلق الأشتر إلى مصر .

السمّ و العسل

شعر معاوية بالقلق فهو يدرك ان وصول مالك الأشتر إلى مصر يعني إنقاذها ، لهذا فكّر بقتله .

كان معاوية إذا أراد أن يغتال شخصاً دسّ إليه العسل المخلوط بالسمّ .

و كان معاوية يستورد هذه السموم من القسطنطنية ، و كان الروم يسمحون بتصديرها لأنّهم يعرفون ان معاوية يستخدمها لقتل المسلمين .

قال عمرو بن العاص :

ـ انّي أعرف رجلاً يسكن مدينة القلزم على حدود مصر و هو يملك أراضٍ واسعة و لابدّ أن يمرّ الأشتر في هذه المدينة و يتوقّف فيها للإستراحة .

قال معاوية :

ـ إذن اتصل به و اخبره إذا تمكّن من اغتيال الأشتر فسنعفيه من دفع الضرائب مدى الحياة .

و هكذا انطلق مبعوث معاوية على وجه السرعة ، و أخذ معه العسل المسموم ليتصل بذلك الرجل و يقنعه بهذه المهمّة .

الشهادة

وافق الرجل على اقتراح معاوية و أخذ الخليط القاتل ، يترقّب وصول مالك الأشتر .

و بعد أيام قليلة وصل مالك مدينة القلزم .

دعا الرجل والي مصر الجديد لأن يحلّ ضيفاً في منزله .

لبّى مالك الأشتر الدعوة شاكراً .

وضع الرجل إناء العسل المسموم في مائدة الطعام .

و عندما تناول الضيف ملعقة واحدة شعر بألم شديد في أمعائه و أدرك المؤامرة ، فقال و هو يضع يده على بطنه :

ـ بسم الله . . إنّا لله و إنّا إليه راجعون .

و استقبل مالك الأشتر الموت بشجاعة المؤمن المطمئن الذي يعرف انّ طريقه هو طريق الإسلام و الجنّة .

و عندما استشهد مالك الأشتر ، كاد معاوية أن يطير من الفرح و قال :

ـ لقد كانت لعليّ بن أبي طالب يدان .

قطعت إحداهما يوم صفين و هو عمّار بن ياسر .

و قطعت الاُخرى اليوم و هو مالك الأشتر .

أمّا أمير المؤمنين علي ( عليه السَّلام ) فقد شعر بالأسف العميق و قال بحزن :

ـ رحم الله مالكاً . .

فقد كان لي كما كنت لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .

أي ان مالكاً ( رضوان الله عليه ) كان يحبّ عليّاً و يطيعه كما كان عليّ ( عليه السَّلام ) يحبّ سيدنا محمّداً ( صلى الله عليه وآله ) و يطيعه .

و هكذا ختم مالك الأشتر ( رضوان الله عليه ) حياته الحافلة بالجهاد لتبقى سيرته المضيئة مثالاً لشباب الإسلام في كل مكان .

 

 

 

 

موقع يا زهراء سلام الله عليها لكل محبي الزهراء سلام الله عليها فلا تبخلوا علينا بآرائكم ومساهماتكم وترشيحكم كي يعلو اسمها سلام الله عليها ونعلو معها