أبو ذر الغفاري . . صوت العدالة

 

 

كانت قبيلة غفّار من قبائل العرب الوثنية ، تسكن في المناطق القريبة من المدينة المنوّرة ( يثرب ) ، حيث تمرّ قوافل مكّة التجارية .

و أفراد قبيلة غفار يعبدون صنماً اسمه " مناة " و يعتقدون أن " مناة " بيده القضاء و القدر و الحظ ، و لذلك فإنّ أفراد القبيلة يذهبون إليه و يقدّمون له القرابين .

و ذات يوم توجّه شاب من قبيلة " غفار " إلى مناة و كان فقيراً فقدّم إلى مناة " اللبن " ، و راح ينظر إليه و لكن مناة لم يحرّك ساكناً و لم يشرب اللبن فظلّ ينتظر . و في الأثناء مرّ ثعلب لم ينتبه إلى وجود " جندب " فشرب اللبن . و لم يكتف بذلك بل رفع قدمه و بال في اُذن " مناة " ، و ظلّ مناة جامداً .

ضحك الشابّ ساخراً من " مناة " و من نفسه لأنّه يعبد صخرة صمّاء لا تفهم و لا تعي شيئاً .

و في طريق عودته الى القبيلة تذكّر " جندب " كلمات سمعها ذات يوم و هو يمشي في سوق " عكاظ  " في مدينة مكّة . . تذكّر كلمات " قيس بن ساعدة " و هو يهتف بها في السوق :

أيُّها الناس اسمعوا و عوا

إنّ من عاش مات

و من مات فات

و كلّ ماهو آتٍ آت

ليل داج

و سماء ذات ابراج .

مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون ؟!

أرضوا بالمقام فأقاموا ؟

أم تركوا هناك فناموا ؟!

نظر " جندب " إلى السماء الزرقاء الصافية ، و إلى الصحراء الممتدة بتلالها و رمالها ، و تذكّر ما فعله الثعلب ب " مناة " ، فآمن بأنّ لهذا العالم إلهاً كبيراً أكبر من مناة و من هبل و من اللات و من كلّ الأوثان .

و منذ ذلك الوقت و جندب بن جنادة يتوجّه بقلبه إلى السماء و الأرض .

طلوع الشمس

كان أهل الكتاب يبشّرون بظهور نبي جديد أطلّ زمانه ، و كانت القبائل العربية تتناقل هذه الأخبار . و كان الذين يسخرون من الأصنام و الأوثان يتشوّقون لرؤية النبي الجديد .

و ذات يوم مرّ رجل قادم من مكّة فقال لجندب :

ـ ان رجلاً في مكة يقول : لا إله إلاّ الله و يدّعى انّه نبي .

و سال جندب :

ـ من أي قبيلة هو ؟

قال الرجل :

ـ من قريش .

فقال جندب :

ـ من أي قريش ؟

أجاب الرجل :

ـ من نبي هاشم .

سأل جندب :

ـ و ماذا فعلت قريش ؟

قال الرجل :

ـ كذّبته و قالت انّه ساحر و مجنون .

انصرف الرجل ، و ظلّ " جندب " يفكّر و يفكّر .

أنيس

فكّر " جندب " أن يرسل أخاه أنيساً إلى مكّة ليأتيه بأخبار النبيّ الجديد ، و انطلق أنيس يقطع مئات الأميال الى مكّة ، و سرعان ما عاد ليخبر أخاه :

ـ رأيت رجلاً يأمر بالخير و ينهى عن الشرور و يدعو إلى عبادة الله وحده .

و رأيته يصلّي عند الكعبة و إلى جانبه فتى اسمه علي بن أبي طالب و هو ابن عمّه ، و خلفهما امرأة و هي زوجته خديجة .

و سأل جندب أخاه :

ـ و ماذا رأيت بعد ؟

أجاب أنيس :

ـ هذا ما رأيته و لم أجرؤ على الاقتراب منه خوفاً من زعماء قريش .

إلى مكّة

لم يقنع جندب بما سمعه ، فانطلق نفسه إلى مكّة ليتعرّف على النبيّ .

مالت الشمس إلى المغيب عندما وصل الشاب الغفاري مكّة فطاف حول الكعبة ، ثم جلس في زاوية من الحرم ليستريح و يفكّر في طريقة يلتقي فيها النبي .

حلّ الظلام و أقفرت الكعبة من الناس ، و في الأثناء دخل فتىً ساحة المسجد الحرام و راح يطوف حول الكعبة بخشوع ، و انتبه الفتى إلى وجود الرجل الغريب فتقدّم إليه و سأله بأدب :

ـ كأنّك غريب ؟

أجاب الغفاري : نعم .

قال الفتى :

ـ انهض معي إلى المنزل .

و شكر جندب في نفسه الفتى و هو يتبعه إلى المنزل صامتاً .

و في الصباح ودّع جندب الفتى و انطلق إلى بئر زمزم لعلّه يتعرّف على النبيّ .

و مرّت الساعات و جندب يترقّب و ينتظر إلى أن حلّ الظلام .

اللقاء

مرّةً أُخرى جاء الفتى و طاف حول الكعبة كعادته و رأى الرجل الغريب في مكانه فقال له :

ـ أما آن للغريب أن يعرف منزله ؟

أجاب جندب :

ـ لا .

قال الفتى :

ـ انطلق معي الى المنزل .

نهض " جندب " مع الفتى إلى منزله ، كان صامتاً أيضاً .

قال الفتى :

ـ أراك تفكّر ، فما هي حاجتك ؟

قال جندب بحذر :

ـ إذا كتمت عليّ أخبرتك .

قال الفتى :

ـ أكتم عليك إن شاء الله .

و ارتاح جندب إلى ذكر الله فقال بصوت خافت :

ـ سمعت بظهور نبي في مكة فأردت أن ألقاه .

قال الفتى و هو يبتسم :

ـ لقد أرشدك الله . . سأدلّك على منزله فاتبعني من بعيد . فإن رأيتُ أحداً أخافه عليك ، وقفت كأنّي أصلحُ نعلي ، فلا تقف و امض في طريقك .

و مضى الفتى إلى منزل سيّدنا محمّد و جندب يتبعه إلى أن وصلا .

الإيمان

و يدخل جندب منزل النبي و يلتقي سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) ، فاذا هو أمام إنسان يجسّد كلّ مكارم الأخلاق .

سأل سيّدُنا محمّد ضيفه :

ـ ممّن الرجل ؟

أجاب جندب :

ـ من قبيلة غفار .

و سأل النبيّ :

ـ ما هي حاجتك ؟

قال جندب :

ـ أعرض عليّ الإسلام .

قال النبيّ :

ـ الإسلام أن تشهد أن لا إله إلاّ الله و أني رسول الله .

و بعد ؟

ـ أن تنتهي عن الفحشاء و المنكر و تسلك مكارم الأخلاق ، و تترك عبادة الأوثان إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، و ان لا تسرف و لا تظلم . .

و امتلأ الشابّ إيماناً بالله و رسوله ، فقال :

ـ أشهد أن لا إله إلاّ الله و أنّك رسول الله . . رضيت بالله ربّاً و بك نبيّاً .

و في تلك اللحظة ولدت شخصية اُخرى هي شخصية الصحابي الكبير أبي ذر الغفاري جُندب بن جنادة .

نهض أبو ذر و هتف بحماس :

ـ و الذي بعثك لأصرخنّ بها .

و قبل أن يغادر المنزل سأل أبو ذر سيّدنا محمّداً :

ـ من هذا الفتى الذي دلّني عليك .

أجاب النبيّ باعتزاز :

ـ هو ابن عمّي عليّ .

و أوصاه سيّدنا محمّد قائلاً :

ـ يا أباذر اكتم هذا الأمر و ارجع إلى بلادك .

و أدرك أبو ذر أن رسول الله يخشى عليه انتقام قريش فقال :

ـ و الذي بعثك بالحقّ نبيّاً لأصرخن بها بينهم و لتفعل قريش ما تريد .

و في الصباح انطلق أبو ذر إلى الكعبة بيت الله الحرام ، كانت الأصنام جامدة في أماكنها لا تتحرّك و أبو ذر يشقّ طريقه ، و جبابرة قريش جالسون يفكّرون بأمر الدين الجديد .

و في تلك اللحظات دوّت صرخة جريئة :

ـ يا معشر قريش . . إني أشهد أن لا إله إلاّ الله و أشهد أنّ محمداّ رسول الله .

و اهتزت الأوثان و قلوب المشركين .

و صاح قرشي :

ـ من هذا الذي يسبّ آلهتنا .

و ركضوا نحوه و انهالوا عليه ضرباً حتى فقد وعيه و الدماء تنزف منه .

و تدخّل العباس عمّ سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) و أنقذه قائلاً :

ـ ويلكم يا معشر قريش تقتلون رجلاً من " غفار " ! و طريق قوافلكم على قبيلته .

و أفاق أبو ذر و ذهب إلى " زمزم " فشرب من مائها و غسل من جسمه الدماء .

و مرّة اُخرى أراد أبو ذر أن يتحدّى قريش بإيمانه ، فانطلق نحو الكعبة و دوّت صرخته :

ـ أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمّداً رسول الله .

و هجموا عليه مثل الذئاب و راحوا يكيلون له الضربات .

و سقط على الأرض فاقداً وعيه ، و أنقذه العباس أيضاً .

العودة

ذهب أبو ذر إلى سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) .

و تألم النبي لمنظره فقال له بإشفاق :

ـ ارجع إلى قومك و ادُعهم إلى الإسلام .

قال أبو ذر :

ـ سأذهب يا رسول الله إلى قومي و سأدعوهم إلى الإسلام و لن أنسى ما فعلته قريش بي .

و عاد أبو ذر إلى قبيلته و راح يدعوهم إلى نور الإسلام . فأسلم أخوه أنيس و أسلمت اُمّه و أسلمت نصف قبيلته . أما النصف الآخر فقالوا : حتى يأتي النبيّ .

الهجرة

و تمرّ الأيام و المشهور و الأعوام . . و يهاجر سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) من مكّة إلى المدينة ، و تصل الأخبار إلى أبي ذر . فخرج مع قبيلته إلى استقباله في الطريق .

و لاح سيّدنا محمّد من بعيد على ناقته " القصواء " فأسرع أبو ذر إليه و أخذ بزمام الناقة و قال مبشّراً :

ـ يا رسول الله أسلم أخي و أسلمت اُمي و أسلم الكثيرون من قبيلتي .

و فرح سيّدنا محمّد و هو يشاهد جموع المستقبلين .

قال احدهم :

ـ يا رسول الله إن أباذر علّمنا ما علمته فأسلمنا و شهدنا انّك رسول الله .

و أسلم الباقون من قبيلة " غفار " ثم جاءت قبيلة اُخرى مجاورة اسمها " أسلم " فأسلمت و أعلنت أن لا إله إلاّ الله و أن محمّداً رسول الله .

فقال سيّدنا محمّد متأثراً :

ـ " غفار " غفر الله لها ، و " أسلم " سالمها الله .

و مضى رسول الله إلى مدينة " يثرب " و رافقه أبو ذر مسافة من الطريق .

و عندما عاد أبو ذر إلى قبيلته سأله بعضهم :

ـ هل حدّثك رسول الله بشيء ؟

فقال أبو ذر :

ـ نعم أمرني بسبع :

أمرني بحبّ المساكين و الدنو منهم .

و أمرني أن أنظر من هو دوني و لا أنظر من هو فوقي .

و أمرني أن أصل الرحم و إن أدبرت .

و أمرني أن لا أسأل أحداً شيئاً .

وأمرني أن أقول الحق و لو كان مرّاً .

و أمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم .

و أمرني أن أكثر من قول " لا حول و لا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم " .

فانّهنّ كنز تحت العرش .

و ظلّ أبو ذر في قبيلته يرشدهم و يعلّمهم ، و كان مثال المسلم المؤمن .

أوصني يا رسول الله

ذات يوم دخل أبو ذر المسجد فوجد سيّدنا محمّداً وحده ، فجلس قربه .

قال سيّدنا محمّد :

ـ يا أبا ذر إن للمسجد تحية و هي ركعتان .

نهض أبو ذر و صلّى ركعتين ثم عاد فجلس قرب النبيّ و قال :

ـ يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟

ـ إيمان بالله عز وجل و جهاد في سبيل الله .

ـ أي المؤمنين أكمل إيماناً ؟

ـ أحسنهم خلقاً .

 ـ يا رسول الله فأي المؤمنين أسلم ؟

ـ من سلم الناس من لسانه و يده .

ـ يا رسول الله فأي الهجرة أفضل ؟

ـ هجر السيئات .

ـ يا رسول الله أي الصدقة أفضل ؟

ـ جهد من مقل يسير إلى فقير .

ـ يا رسول الله فأي آية مما أنزل الله أعظم ؟

ـ آية الكرسي . . يا أباذر ما السماوات السبع مع الكرسي إلاّ كحلقة ملقاة بأرض فلاة .

ـ يا رسول الله كم الأنبياء ؟

ـ مائة ألف و أربعة و عشرون ألفاً . .

يا أبا ذر أربعة سريانيون : آدم و شيت و خنوخ ـ إدريس ـ و هو أول من خط بالقلم و نوح ، و أربعة من العرب : هود و صالح و شعيب و نبيّك .

ـ يا رسول الله كم كتاب لله تعالى ؟

ـ مائة كتاب و أربعة ، أُنزل على شيت خمسون صحيفة ، وأُنزل على خنوخ ( إدريس ) ثلاثون صحيفة ، و أُنزل على إبراهيم عشر صحائف ، و أُنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف ، و أُنزل التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان ( القرآن ) .

ـ يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم ( عليه السَّلام ) ؟

ـ أمثالاً كلّها : " أيّها الملك المسلّط المبتلى المغرور فإنني لم أبعثك لتجمع الدّنيا بعضها إلى بعض و لكن لترد عني دعوة المظلوم فاني لا أردها و لو كانت من كافر . .

ـ يا رسول الله فما كانت صحف موسى ( عليه السَّلام ) ؟

ـ كانت عبراً كلّها : عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح ، عجبت لمن أيقن بالنار ثم هو يضحك ، عجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب ، عجبت لمن رأى الدّنيا و تقلّبها بأهلها ثم اطمأن إليها ، عجبت لمن أيقن بالحساب غداً ثم لا يعمل .

بكى أبو ذر خشوعاً و قال :

ـ يا رسول الله أوصني ؟

ـ أوصيك بتقوى الله فانّه رأس الأمر كلّه .

ـ يا رسول الله زدني .

ـ عليك بتلاوة القرآن فهو نور لك في الأرض و ذكر لك في السماء .

ـ يا رسول الله زدني .

ـ حبّ المساكين و جالسهم .

في الطريق إلى تبوك

مضت سنوات و سنوات ، أصبح المسلمون اُمّة واحدة و أصبح لهم دولة ، و انتصروا على أعدائهم من المشركين و اليهود . و دخلت القبائل العربيّة دين الله أفواجاً .

و لمّا كان سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) رسول الله إلى الناس جميعاً ، فقد أراد للإسلام أن يعبر حدود جزيرة العرب إلى العالم كلّه .

أعلن سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) الجهاد و أمر المسلمين بالاستعداد للتوجّه نحو " تبوك " في شمال الجزيرة العربية .

و فوجئ المسلمون بإعلان النبي و تحدّيه لأكبر دولة في العالم آنذاك .

و قال المنافقون :

ـ سوف يقهرهم " هرقل " بجيوشه الجرّارة .

و كانوا يجتمعون في بيت " سويلم " اليهودي و يخوّفون المسلمين من التوجّه إلى تبوك .

و لمّا غادر النبي المدينة و تخلّف المنافقون و الذين في قلوبهم مرض ، قرّر سيّدنا محمّد أن يستخلف على المدينة ابن عمّه بطل الإسلام علي بن أبي طالب ، حتى يحبط مؤامرات المنافقين .

و شعر المنافقون بالضيق من " علي " فأشاعوا بين الناس : إنّ الرسول خلّفه استثقالاً له .

و لكي تتبيّن الحقيقة للناس أخذ علي سلاحه و لحق بالنبي خارج المدينة في منطقة تدعى " الجرف " و أخبره بما يقوله المنافقون :

ـ يا نبيّ الله زعم المنافقون انّك إنّما خلَّفتني لأنّك استثقلتني .

ابتسم سيّدنا محمّد و قال :

ـ كذب المنافقون و لكنّي خلّفتك لتحفظ المدينة و تحميها من مكرهم . أفلا ترضى يا عليّ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ انّه لا نبيّ بعدي ؟

أجاب علي :

نعم رضيت يا رسول الله .

و عاد علي إلى المدينة مسروراً بكلمات الرسول ( صلى الله عليه وآله ) .

كن أباذر

مضى النبيّ ( صلى الله عليه و آله ) يقود الجيش الإسلامي عبر الصحراء ، و كان بعض المسلمين من ضعفاء الإيمان يتخلّفون في الطريق و يعودون إلى المدينة فيخبر بعضهم سيّدنا محمّداً قائلين : تخلّف فلان . فكان رسول الله يقول :

ـ دعوه فإن يَكُ فيه خير فسيلحقه الله بكم .

و في منتصف الطريق قال أحد المسلمين :

ـ يا رسول الله تخلّف أبو ذر .

فقال النبيّ ( صلى الله عليه و آله ) :

ـ دعوه فإن يَكُ فيه خير فسيلحقه الله بكم .

و استمر الجيش الإسلامي يطوي الصحراء .

كان أبو ذر راكباً بعيراً هزيلاً لا يقوى على المسير . . و شيئاً فشيئاً كان يتخلّف عن الجيش الإسلامي ، حتى برك البعير عاجزاً عن التحرّك خطوة واحدة .

جلس أبو ذر حزيناً يفكّر ماذا يفعل ؟

هل يعود إلى المدينة ؟ أم يمضي ماشياً ؟

و لكن أبو ذر لم يكن ليفكّر في العودة ، فقد كان مؤمناً و يحبّ سيّدنا محمّداً ( صلى الله عليه و آله ) ، فقرّر أن يتبع آثار الجيش ماشياً .

راح أبو ذر يطري الصحراء الحارقة ، و نفد كلّ ما معه من الزاد و الماء ، و مع ذلك كان يستمر في المشي يدفعه إلى ذلك إيمانه العميق بالله و حبّه لرسول الله .

كان يشعر بعطش شديد فرأى في صخرة محفورة ماءً بارداً ، و لمّا ذاقه وجده عذباً ، فأراد أن يشرب و لكنّه امتنع و قال :

ـ لا أشرب حتى يشرب منه حبيبي رسول الله .

ملأ قربته من الماء ، و مضى يطوي الصحراء ماشياً على قدميه .

كان أبو ذر يسير الليل و النهار حتى يمكنه اللحاق بالجيش الإسلامي .

عسكر الجيش الإسلامي في بعض المناطق للاستراحة ليلاً لكي يستأنف زحفه باتجاه " تبوك " .

و عندما أشرقت شمس اليوم التالي شاهد بعض المسلمين رجلاً قادماً من بعيد ، فتعجّبوا و قالوا للنبيّ :

ـ يا رسول الله إن هذا الرجل يمشي وحده !!

فقال سيدنا محمّد :

ـ كن أبا ذر .

و راح المسلمون يتطلّعون إليه ، و لمّا أصبح قريباً منهم صاحوا :

ـ هو و الله أبو ذر .

و رأى النبي على ملامحه التعب و العطش فقال :

ـ أدركوه بالماء فانّه عطشان .

و لكن أبو ذر كان يتجه إلى سيّدنا محمّد و بيده القربة ليشرب رسول الله .

فتساءل النبي :

ـ يا أباذر أمعك ماء و أنت عطشان ؟!

فقال أبو ذر :

ـ نعم يا رسول الله فداك أبي و اُمّي . رأيت في صخرة محفورة ماء المطر فذقته فإذا هو عذب بارد فقلت لا أشرب حتى يشرب منه رسول الله .

فتأثّر النبيّ ( صلى الله عليه و آله ) و قال :

ـ رحمك الله يا أبا ذر . .

تعيش وحدك .

و تموت وحدك .

و تدخل الجنّة وحدك .

و يسعد بك قوم من أهل العراق يتولون غسلك و تجهيزك و الصلاة عليك .

أحاديث النبيّ

تُوفي سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) فحزن المسلمون و كان أبو ذر من أكثرهم حزناً و وفاءً لرسول الله فحفظ ما سمعه من أحاديثه و جعل منها نبراساً يضيء له الطريق .

كان أبوذر يؤمن إيماناً عميقاً بأن الخلافة حقّ إلهي مثل النبوّة و أن الله سبحانه يختار من عباده الصالحين أكثرهم جدارة ، و قد سمع أبو ذر النبيّ يقول لعليّ : أنت مني بمنزلة هارون من موسى و لكنّه لا نبيّ بعدي .

و سمعه في " غدير خُم " عندما عاد من حجّة الوداع أمام المسلمين جميعاً : من كنتُ مولاه فهذا عليٌّ مولاه ، اللهمّ والِ من والاه ، و عادِ من عاداه ، و انصر من نصره ، و اخذل من خذله .

و سمعه يقول : عليّ مع الحق و الحقّ مع علي .

و مع الأسف فإن بعض المسلمين تناسى هذه الأحاديث . و عندما توفي النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) و بينما كان ابن عمّه و وصيّه علي بن أبي طالب مشغولاً بهذه المصيبة اجتمع بعض الصحابة و أصبح أبو بكر هو الخليفة .

اعترض كثير من الصحابة على ذلك ، منهم سلمان الفارسي الذي قال عنه النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) : سلمان منّا أهل البيت .

و منهم عبادة بن الصامت و أبو الهيثم التيهان و حذيفة و عمّار بن ياسر . كما استنكرت ذلك فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين و كانت غاضبة .

و بعد شهور عديدة بايع الإمام علي بن أبي طالب مضطراً ، حفاظاً على مصلحة الإسلام .

و عندما بايع الإمام ، بايع الصحابة و فيهم أبو ذر .

كان أبو ذر يفكّر بمصلحة الإسلام و المسلمين ، و لذلك ذهب إلى ميادين الجهاد دفاعاً عن الدولة الإسلامية . و كان الروم في ذلك الوقت يقومون بحملات عسكرية و اعتداءات على الحدود ، فذهب أبو ذر مع كثير من الصحابة إلى جبهات الحرب مجاهداً في سبيل الله .

مات الخليفة الأوّل أبو بكر ثم جاء بعده الخليفة عمر بن الخطاب ، و كان أبو ذر في بلاد الشام يجاهد مع إخوانه المسلمين .

توفي عمر بن الخطاب و جاء إلى الخلافة عثمان بن عفان .

لم يتبع الخليفة الثالث سيرة النبي و لا صاحبيه ، فقد جاء بأقربائه و عيّنهم في مراكز الحكم ، و راح يملأ جيوبهم بأموال المسلمين . و جاء بمروان بن الحكم الذي طرده سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) و جعل منه الحاكم الفعلي للدولة .

اشتكى الناس من سياسة عثمان و جاء وفد من مدينة الكوفة فأخبر الخليفة بأن الوالي يشرب الخمر و يأتي إلى المسجد سكران و تقيأ في المحراب .

و لكن الخليفة لم يفعل شيئاً ، بل إن مروان أهان الوفد و طرده و كان فيهم من أصحاب النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) .

كان أبو ذر من الناصحين لعثمان فقال له ذات يوم :

ـ اتبع سنّة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام .

أي لتكن سيرتك مثل سيرة أبي بكر و عمر .

و لكن عثمان نهرَ أبا ذر و قال أمام الحاضرين :

ـ أشيروا عليّ في هذا الشيخ الكذّاب ، إما أن أضربه أو أحبسه أو أقلته أو أنفيه من أرض الإسلام .

تألّم أبو ذر و تألم المسلمون لذلك و تذكّروا حديث سيّدنا محمّد له :

ما أظلّت الخضراء ( السماء ) و لا أقلت الغبراء ( الأرض ) أصدق ذي لهجة من أبي ذر .

و ها هو الخليفة يتّهم أبا ذر بالكذب و يقول عنه : الشيخ الكذّاب .

خرج أبو ذر من مجلس الخليفة حزيناً و تذكّر ما حدث له قبل أكثر من عشرين سنة . . تذكّر يوم دخل رسول الله المسجد فوجده نائماً فأيقظه و قال له :

ـ لا أراك نائماً في المسجد .

أي لا تنم في المسجد مرّة اُخرى ، ثم قال له :

ـ ماذا تصنع إذا أخرجوك من المسجد ( يوماً ما ) ؟

قال أبو ذر :

ـ إذن اذهب إلى الشام أرض الجهاد .

فقال النبيّ :

ـ فإذا أخرجوك منها ؟

قال أبو ذر :

ـ أرجع إلى المسجد .

فقال النبيّ ( صلى الله عليه و آله ) :

ـ فإذا أخرجوك منه ؟

قال أبو ذر :

ـ آخذ سيفاً فأضربهم به .

فقال النبيّ :

ـ ألا أدلّك على شيء خير من ذلك ؟

قال أبو ذر :

ـ نعم يا رسول الله .

قال النبيّ ( صلى الله عليه و آله ) :

تسمع و تطيع .

إلى الشام

قرّر الخليفة الثالث نفي أبي ذر إلى الشام . و لمّا وصل أبو ذر إلى الشام أمر معاوية والي الشام آنذاك إبعاد أبي ذر إلى منطقة تعرف اليوم ب " جبل عامل " في جنوب لبنان .

راح أبو ذر يعلّم الناس أحاديث النبيّ ( صلى الله عليه و آله ) و سيرته ، و يستنكر انحراف الولاة و ظلمهم للمسلمين و ترفهم على حساب الفقراء و المساكين .

و كان يقرأ قوله تعالى : { و الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم } . فأحبّه الفقراء و المساكين .

أراد معاوية إغراء أبي ذر بالأموال لعلّه يسكت ، فأمر بإحضاره إلى دمشق و أرسل له الهدايا ، فكان الصحابي الجليل يوزّعها على الفقراء ، ثم يمرّ على قصر معاوية و يصيح :

ـ اللّهم العن الآمرين بالمعروف التاركين له .

اللّهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له .

أمر معاوية بإلقاء القبض عليه فأحضره الحرّاس مقيّداً بالسلاسل و خاطبه معاوية بحقد :

ـ يا عدّو الله و عدوّ رسوله تأتي على قصرنا كلّ يوم و تصيح سوف استأذن أمير المؤمنين عثمان في قتلك .

ثم التفت معاوية إلى الحرّاس و صاح :

ـ خذوه إلى السجن .

إلى المدينة

بعث معاوية برسالة إلى الخليفة أخبره فيها بما يفعله أبو ذر و التفاف الناس حوله .

و جاء جواب الخليفة يأمر معاوية بإعادة أبي ذر و معاملته معاملة قاسية .

سمع المسلمون بذلك فتألموا و خرجوا يودّعون صاحب رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) .

ركب أبو ذر ناقته يسوقها حرّاس قساة القلوب لم يحترموا شيخوخته و ضعفه فأرهقوه في السفر .

و وصل إلى المدينة في أسوأ حال فأُدخل على الخليفة و هو يكاد يسقط على الأرض من شدّة الضعف و التعب .

قال أبو ذر :

ـ ويحك يا عثمان أما رأيت رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) و رأيت أبا بكر و عمر ، فهل سيرتك مثل سيرتهم ؟ . . انّك لتبطش بي بطش الجبابرة .

قال عثمان بقسوة :

ـ اخرج من بلادنا .

فقال أبو ذر بحزن :

ـ إلى أين أخرج ؟

قال الخليفة :

ـ إلى حيث تريد .

قال أبو ذر :

ـ أخرج إلى الشام أرض الجهاد ؟

صاح عثمان :

ـ كلاّ لا أردّك إلى الشام .

قال أبو ذر :

ـ أخرج إلى العراق ؟

قال الخليفة أيضاً :

ـ كلاّ .

ـ أخرج إلى مصر ؟

ـ كلاّ .

قال أبو ذر بحزن :

ـ فإلى أين أخرج ؟

ـ إلى البادية .

ـ أخرج إلى بادية نجد ؟

ـ كلاّ بل إلى الشرق الأبعد إلى " الربذة " .

صاح أبو ذر :

ـ الله أكبر . . صدق رسول الله لقد أخبرني بذلك .

سأل عثمان :

و ماذا قال لك ؟

أجاب الصحابي الشيخ :

ـ أخبرني أني أمنع من المدينة و مكة و أموت بالربذة و يتولّى دفني قوم من أهل العراق في طريقهم إلى الحجاز .

الربذة

الربذة منطقة في الجانب الشرقي من المدينة المنوّرة .

كان أبو ذر يكره " الربذة " لأنّه كان يعبد الأصنام فيها في زمن الجاهلية .

كان أبو ذر يحبّ المدينة لأن فيها قبر النبيّ و مسجده .

و كان يحبّ مكّة لأن فيها بيت الله الحرام .

و كان يحبّ الشام لأنّها أرض الجهاد .

و كان يكره " الربذة " لأنّها تذكّرة بعبادة الأصنام و لكن الخليفة نفاه إلى تلك المنطقة . و أمر مروان أن يخرج به و أن يمنع المسلمين من توديعه .

و خاف المسلمون سطوة الخليفة فلم يخرج لتوديعه سوى بعض الصحابة ، و هم : عليّ بن أبي طالب و أخوه عقيل و الحسن و الحسين سبطا رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) و الصحابي الكبير عمار بن ياسر .

تقدّم الإمام عليّ يودّعه فقال له :

ـ يا أبا ذر انّك غضبت لله . .

إن القوم خافوك على دنياهم و خفتهم على دينك .

فاترك في أيديهم ما خافوك عليه و اهرب منهم بما خفتهم عليه .

فما أحوجهم إلى ما منعتهم

و ما أغناك عمّا منعوك

و ستعلم من الرابح غداً .

يا أبا ذر لا يؤنسك إلاّ الحق و لا يوحشك إلاّ الباطل .

و تقدّم عقيل فقال :

ـ أنت تعلم إنّا نحبّك ، و انّك تحبنا . فاتق الله فإن التقوى نجاة . و اصبر فإن الصبر كرم .

و تقدّم سبط النبي الحسنُ بن علي فقال :

ـ اصبر يا عمّاه حتى تلقى نبيّك ( صلى الله عليه و آله ) و هو عنك راضٍ .

و تقدّم عمّار بن ياسر و هو يبكي فقال :

ـ لا آنس الله من أوحشك . و لا آمن من أخافك . أما و الله لو أردت دنياهم لآمنوك . و لو رضيت أعمالهم لأحبوك .

و بكى أبو ذر و قال :

ـ رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة ، إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله .

و خرج أبو ذر مع زوجته وابنته إلى صحراء الربذة و هو يتذكّر كلمات قالها له حبيبه سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) ذات يوم :

رحمك الله يا أبا ذر .

تعيش وحدك .

و تموت وحدك .

و تبعث وحدك .

و تدخل الجنّة وحدك .

 

 

 

 

القرآن الكريم - سيرة أهل البيت ع - المجالس - اللطميات - فيديو - فلاشات - ثيمات - ويفات

موقع يا زهراء سلام الله عليها لكل محبي الزهراء سلام الله عليها فلا تبخلوا علينا بآرائكم ومساهماتكم وترشيحكم كي يعلو اسمها سلام الله عليها ونعلو معها