أيها الصدّيق !

 

" قصة سيدنا يوسف ( عليه السلام ) "

بلغ سيدنا ابراهيم من العمر مئة عام ، و كان عمر زوجته سارة تسعين سنة . . هو شيخ طاعن في السن ، و هي إمرأة عجوز .

ليس عندهما اطفال و لا أولاد .

فاسماعيل ابنه عمره أربعة عشر سنة و هو في مكّة ، و كان ابراهيم يزوره بين عام و آخر .

تذكرون يا أعزّاءنا في قصة سيدنا لوط . . تذكرون الضيوف الثلاثة الذين جاءوا لانقاذ لوط من تلك القرية الفاسدة التي كانت تعمل المنكر . .

و تذكرون انهم مرّوا أولاً بسيدنا ابراهيم . . لقد حزن سيدنا ابراهيم من أجل قوم لوط و ما ينتظرهم من المصير الأسود بسبب أعمالهم . .

الله ربّنا و حتى يدخل الفرح في قلب ابراهيم بشّره بولد من سارة . . ولد اسمه اسحاق . . سيكون نبياً من الانبياء  . و سيكون من إسحاق ولد هو الآخر سيكون نبيّاً له شأن .

سارة سمعت البشرى فشعرت بالدهشة . . قالت :

ـ كيف ألد و أنا عجوز و هذا بعلي شيخاً إنّ هذا لشيء عجيب ؟!

الملائكة قالت :

ـ لا تعجبي من أمر الله . . ان الله قادر على كل شيء . .

وهكذا حدثت المعجزة . .

المرأة العجوز التي بلغت التسعين من العمر تنجب صبياً هو اسحاق النبي . . كان انساناً كريماً . .

سيدنا ابراهيم ابتهج بمولده لان في سلالته أنبياء كثيرون يحملون رسالة التوحيد و النور للناس جميعاً .

فنشأ اسحاق و حمل ميراث ابراهيم . . حمل رسالة الله و كان أميناً في تبليغها مثل كل الانبياء . .

وتحققت بشارة الملائكة فقد رزق اللهُ اسحاق صبياً هو يعقوب . .

 

الله سبحانه بارك في آل ابراهيم . . أصبح يعقوب نبياً ، فحمل الأمانة و نهض بحمل الرسالة .

وتزوّج سيدنا يعقوب فرزقه الله عشرة بنين : شمعون ، لاوي ، راوبين ، يهوذا ، يساكر ، زوبولون ، دان ، نفتالى ، جادو ، أشير .

ثم تزوج سيدنا يعقوب من راحيل ابنة خاله فولد يوسف ثم شقيقه بنامين .

و هكذا اصبح لسيدنا يعقوب اثنا عشر ولداً . .

عاش آل ابراهيم في أرض فلسطين . . تلك الأرض الطيبة المليئة بالمروج الخضراء و المراعي و أشجار الزيتون .

كان سيدنا يعقوب كأبيه اسحاق و جدّه ابراهيم خليل الرحمن كريماً يساعد الفقراء و يكرم الضيوف و الغرباء . .

لهذا كان سيدنا يعقوب يذبح في كل يوم كبشاً فيطعم من لحمه الفقراء و يأكل هو و عياله منه .

وكان هناك رجل صالح اسمه دميال ، دميال كان رجلاً فقيراً و كان ذلك اليوم صائماً . . لم يكن عنده طعام لافطاره كان ينتظر أن يبعث يعقوب إليه بالطعام . .

سيدنا يعقوب كعادته ذبح كبشاً و وزع لحمه على الفقراء و تعشى هو و عياله منه ، و باتوا ليلتهم تلك شباعاً .

اما الرجل الفقير دميال فقد نام جائعا و نوى الصوم في الغد .

كان دميال ذلك اليوم صائما و ضاعف ألم الجوع أنه لم يجد شيئاً يفطر به في العشاء . . نام جائعاً . . تحمّل آلام الجوع و نام . .

الرؤيا :

و في تلك الليلة بدأت حوادث القصة المثيرة التي وقعت قبل آلاف السنين .

كان يوسف قد بلغ من العمر تسع سنين . . فتى جميل يشع النور من عينيه ، قلبه مفعم بالطهر . .

كان جماله يتلألأ في وجهه . . في عينيه التي تشعان صفاءً .

من أجل هذا أحبّه أبوه كما لم يحبّ أحداً غيره .

سيدنا يعقوب كان يتوسّم فيه النبوّة ربّما يختاره الله نبياً من بعده . .

كان يوسف جميلاً ليس في وجهه فقط بل في روحه و اخلاقه و صفاته .

عندما يراه المرء يشعر أنه أمام ملاك هبط من السماء لهذا كان محبوباً من الجميع . .

وكان أعظمهم حبّاً له أبوه يعقوب . . كان يوسف طاهراً طهر قطرات الندى ، و كانت عيناه صافيتين صفاء السماء و كان وجهه يتألق كالنجوم .

من أجل هذا حسده اخوته العشرة . . في البداية حسدوه ثم حقدوا عليه . . و بعدها كانوا يتمنون له الموت ، و ربّما خطّطوا للتخلص منه .

في تلك الليلة أغمض يوسف عينيه و هو غافل عمّا يحوك اخوته من دسائس و مؤامرات .

ورأى يوسف حلماً عجيباً . . رأى أحد عشر كوكباً و رأى الشمس و القمر . . رأى الجميع يسجدون له . .

كان مشهدا رائعاً يبهر الناظر . . شعر يوسف أنّ تلك الكواكب و أن الشمس و القمر لها شعور و ادراك و أنها جاءت بارادتها لتسجد له و تخضع عند قدميه !!

أمرٌ عجيب . . تعجّب يوسف . . و أحسّ أن تلك الأجرام السماوية المنيرة تبتسم له و  تمجّده .

أضاءت الرؤيا قلبه . . و هزّت وجدانه . . و استيقظ يوسف . . و ما تزال الرؤيا تهيمن على مشاعره و أحاسيسه . .

كانت الرؤيا تملأ قبله و صدره و كيانه . . و كانت صور الكواكب و الشمس و القمر تتراءى له لكأنها ماتزال ماثلة أمامه .

هزّت الرؤيا وجدانه لأنه لا يعرف تفسيرها حار في تعبيرها لهذا جاء الى أبيه و قال :

ـ { يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ }.

يا أبي رأيتهم اجتمعوا جميعاً ثم سجدوا . . شعرت ان تلك الكواكب كانت تدرك ما تفعل . . شعرت انها تبتسم لي ، ثم سجدت أمامي بخضوع .

أصغى سيدنا يعقوب باهتمام الى رؤيا يوسف . . ادرك أن ليوسف شأن في المستقبل . . شأن عظيم . .

قال لابنه باشفاق :

ـ { يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }.

يابني لا تخبر إخوتك بهذه الرؤية العجيبة . . لانهم سوف يحسدونك و قد يوسوس الشيطان في انفسهم . .

ان الله سبحنه يا يوسف سوف يختارك لابلاغ رسالته . . و سوف يعلمك تعبير الرؤى و الأحاديث . . سيباركك الله يا ولدي كما بارك آباءك من قبل . . ابراهيم و إسحاق و كما بارك آل يعقوب .

 

المؤامرة :

تضاعف الحسد في نفوس الإخوة العشرة . . و ازداد حقدهم على يوسف . . ربما سمعوا بالرؤيا ! أو لعلّهم رأوا حبّ ابيهم يزداد أكثر فأكثر . . .

كانوا يذهبون كلّ يوم إلى البوادي لرعي الماشية ، و كانوا يفكرون في شيء واحد فقط هو : كيف يتخلصون من يوسف ؟

الشيطان وسوس في نفوسهم فكّروا في قتله . . و لكن كيف ؟!

الشيطان وسوس في صدورهم قالوا : نأخذه معنا إلى المراتع ثم نتخلّص منه !

وهكذا كانت المؤامرة .

مرّت أيام و هم يتظاهرون بحبِّ يوسف . . يبتسمون له و يحبّبون له الذهاب معهم الى الفلاة ، يلعب في تلك المروج الجيملة .

كان يوسف بريئاً طيباً و كان طاهراً طهر قميصه الأبيض الجميل .

لهذا صدّقهم صدّق حبّهم الكاذب و أحبّ الذهاب معهم الى البادية تلك الأرض الواسعة و الآفاق الجميلة و المروج الخضراء .

ولكن سيدنا يعقوب كان يخاف على ولده الغدر كان لا يسمح له بالذهاب .

ذات مساء جاء الأخوة العشرة من الفلاة . . ابتسموا ليوسف قالوا له :

ما أجمل تلك المراتع و المروج ! ما أجمل تلك الفلوات . . لقد استمتعنا كثيراً و لعبنا كثيراً لماذا لا تأتي معنا يا يوسف ؟

يوسف كان يحب الذهاب ، و لكنه أيضاً كان يُطيع أباه و هو لا يفعل شيئاً دون أذنه .

أُخوة يوسف العشرة قالوا :

سوف نتحدث مع والدنا ليسمح لك بالذهاب معنا . .

و فرح يوسف .

جلس الجميع حول مأدبة العشاء ، و تناولوا طعامهم بصمت ، و كان الأخوة العشرة وحدهم يتبادلون نظرات ذات معنى .

كانوا قد نسجوا مؤامرة دنيئة كما تنسج العنكبوت بيتها المخيف .

في البداية ابتسموا و تظاهروا بحبّ يوسف و قالوا لأبيهم :

ـ { يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ }.

نحن نحبّ يوسف يا أبانا . . نحبّه كثيراً .

{ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } .

يا أبانا دعه ينطلق معنا في الغد إلى المراتع ليلعب و يلهو . . سنحافظ عليه و نردّه سالماً .

كان يعقوب لا يرغب بذهاب يوسف مع أخوته انهم يحسدونه و قد يخدعهم الشيطان فيغدروا به .

لهذا قال لهم بحزن :

ـ { إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ }.

يا أولادي أنا أُحبُّ يوسف . . انه ما يزال صغيراً و قد تغفلوا عنه و الذئاب كثيرة فيفترسه ذئب .

قال أبناؤه العشرة :

ـ نحن عشرة فتيان فكيف يأكله الذئب ؟! سنحافظ عليه كالرجال الاقوياء ، و { لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ }.

و أقسم الأخوة العشرة على أن يحافظوا على يوسف حتى يردّوه سالماً .

سكت يعقوب ( عليه السلام ) و لم يقل شيئاً و أدرك الجميع انه قد رضي بقضاء الله .

 

الذئاب البشرية :

طلع الفجر و استعدّ الاخوة العشرة للانطلاق الى البوادي البعيدة حيث المروج الخضراء و الفلوات و النسائم الطيبة .

و جاء يوسف مبتهجاً بذهابه معهم .

كانوا يبتسمون له فتضاعف حبّه لهم . كان يوسف مثل ملاك ليس في قلبه الطاهر سوى المحبّة و الرحمة و الطيبة .

و هكذا انطلق الجميع يسوقون الماشية .

وعندما أمعنوا في الفلاة و غابت عن العيون مضارب الخيام غابت تلك الابتسامات الكاذبة . . ذابت كما يذوب الملح في المياه .

جاء يهوذا و صفع يوسف بشدّة و صاح به :

ـ اسرع يابن راحيل !

تعجب يوسف لهذه العمل . . نظر إلى أخيه بدهشة . . تصوّر انه يمزح معه . . و لكن لا إنّ عينيه تبرقان بالشرّ ، و قد ظهرت أسنانه مثل أنياب ذئب متوحش . .

شعر يوسف بالخوف . . و أسرع في مشيه . . فوجئ بركلة من أخ آخر !! سقط على وجهه و نظر ألى من ركله كان شمعون .

قال يوسف بألم !:

ـ لماذا يا شمعون ؟ أنا أخوك . . أنا ابن يعقوب .

صاح راوبين :

ـ اسكت لا تتفوه أبداً أنت ابن راحيل . .

بكى يوسف خنقته العبرة قال لهم :

ـ انا أخوكم . . انا يوسف .

تحلّقوا حوله جميعاً و صاحوا :

ـ بل أنت عدوّنا . . عدوّنا الذي استحوذ على قلب يعقوب .

برقت العيون بالشرّ و استلّ أحدهم خنجره ليقتله ركض يوسف لا يدري أين يذهب . . .

ركضوا وراءه و امسكوا به . . انهالوا عليه بالضرب . . نزف من أنفه الدم .

تبادل الاخوة العشرة النظرات . .

قال أحدهم :

ـ ماذا تنتظرون . . هذه فرصتنا للتخلّص منه .

قال آخر بصوت يشبه فحيح الافاعي :

ـ لنأخذه الى مكان بعيد و نرميه . . و هناك تفترسه الذئاب و تريحنا منه .

اعترض بعضهم قائلاً :

ـ و ربّما استطاع العودة فيفضحنا أمام أبينا .

قال شمعون :

ـ اصغوا اليّ . . نذهب به الى طريق القوافل . . هناك بئر عميقة الغور . . نلقيه في البئر . . فامّا أن يموت فيها أو تنتشله القوافل و تأخذه بعيداً سوف يباع و يشترى مثل كل العبيد .

اصغى الجميع باهتمام الى خطة شمعون ، و برقت العيون بتلك المؤامرة الدنيئة .

تحوّل الأخوة الى ذئاب لا تعرف غير الغدر ، و ظلّ يوسف ينظر الى أخوته بدهشة . . تصوّر في حلم مخيف . . و لكن . . لا لا . . انها الحقيقة . . ان اخوته يتآمرون عليه منذ وقت طويل .

و أخيراً تمكّنوا من تحقيق هدفهم . . جاءوا به الى هذه الصحراء حتى لا يشاهدهم أحد . . و حتى لا يعرف أحد ماذا فعلوا بيوسف !!

نظر يوسف الى السماء . . تساءل في نفسه . . ألا يدري إخوته ان الله يراقبهم جميعاً و يعرف حتى أسرارهم ؟!

سمعهم يقولون :

ـ سوف نتوب من فعلتنا و نصبح قوماً صالحين !

في أعماق البئر :

يوسف حتى تلك اللحظة لم يصدّق ما يفعله أخوته به . .

ولكن عندما وجد نفسه على حافّة البئر ادرك ان الشيطان قد تمكّن من أخوته ، و قد تحولوا الى ذئاب بشرية لا رحمة في قلوبها .

جرّدوه من قميصه الذي أهداه ابوه اليه . . قميصه الأبيض الجميل . .

كان يوسف يهتف بهم :

ـ أنا أخوكم . . أريد أن أعود الى أبي و أمّي و خيمتي . . أنا أحبكم يا أخوتي لماذا تفعلون بي هكذا . . احقاً تلقوني في هذا البئر المظلم . . شمعون .. راوبين . . يهودا ؟!

راح يوسف يناديهم باسمائهم . . و لكن لا أحد في قلبه رحمة لأخيه . .

اندفع بعضهم و راح يركله بقوة و أخيراً ضعفت مقاومته و لم يستطع أن يتشبث بحافة البئر فهوى الى الأعماق المظلمة . .

الهواء داخل البئر كان رطباً و الفضاء كان مظلماً و كان يوسف ينظر الى فوهة البئر . . كان ينظر السماء الزرقاء الصافية .

شعر يوسف ان قلبه يمتلأ بالنور و أن ملاكاً يحدّثه بهدوء يقول له : اصبر يا يوسف . . لسوف تخرج من هذه البئر و سوف تخبر اخوتك هؤلاء بما فعلوا بك . .

غادر الخوف قلب يوسف . . لقد كان مؤمناً بالله و كان واثقاً بان ما حصل هو امتحان له . . لهذا صبر يوسف و كان ينتظر ما يجري بهدوء .

الصمت يغمر المكان . . يوسف هو الآن في البئر جالس فوق الصخرة التي ينبع من تحتها الماء . .

كان ينظر السماء و شيئاً فشيئاً تلاشت الزرقة . . ادرك ان الشمس قد غابت و أن إخوته سيعودون . . فبكى من أجل ابيه . . و نام يوسف . . .

الحزن الطويل :

غابت الشمس و ما يزال الإخوة العشرة يفكرون بعذر مقبول يقدّمونه الى أبيهم . .

قال أحدهم ان الأرض مليئة بالذئاب . . فنقول له ذهبنا نتسابق و تركنا امتعتنا عند يوسف فجاء الذئب و افترسه . . ثم نعطيه قميص يوسف بعد أن نلطخه بالدم .

في ذلك اليوم انجبت نعجة حملاً صغيراً . . و حتى لا يشك بهم أبوهم ذبخوا الحمل الصغير أمام أمّه دون رحمة . . و لطخوا قميص يوسف بدمه . .

وهكذا عادوا الى أبيهم . .

كان الظلام قد غمر الارض . . اختاروا العودة في الظلام حتى لا يرى يعقوب علامات الكذب في وجوههم .

 

كان سيدنا يعقوب واقفاً ييتظر عودة أبنائه من بعيد سمع أصوات الماشية وسمع صوت بكاء . .

وشيئا فشيئاً لاح له أبناؤه . . ولكن يوسف لم يكن معهم جاءوا جميعهم إلاّ يوسف . .

رآهم يبكون بصوت عال . . يبكون بلا دموع . .

سأل يعقوب :

ـ أين أخوكم يوسف ؟

أزداد بكاؤهم . . و قدَّم شمعون قميص يوسف المطلخ بدماء المؤامرة الدنيئة ، قال لأبيه :

ـ ذهبنا نتسابق و تركنا أمتعتنا لدى يوسف . . فجاء ذئب و افترس يوسف . . وجدنا قميصه الدامي . . يا أبانا لقد أكل الذئب يوسف في غفلة منا .

فنظر يعقوب الى القميص كان سالماً ليس فيه شق واحد ، أدرك ، يعقوب انهم يكذبون عليه . .

قال و هو يبكي :

ـ ما أرأف ذلك الذئب . . أكل حبيبي يوسف و لم يشق له قميصاً !!

تبادل الاخوة العشرة النظرات . . قالوا في أنفسهم ما أغبانا كيف غفلنا عن هذا الأمر لو أننا مزقنا القميص لصدقنا أبونا .

ولكنهم و بدل أن يعترفوا بجريمتهم قالوا :

ـ أنت لا تصدقنا يا أبانا . . مع اننا لا نكذب أبداً . لقد أكل الذئب يوسف ، و هذا قميصه الدامي !

بكى يعقوب هملت عيناه بالدموع و قال :

{ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ }.

قال يعقوب سأصبر سأتحمل و أنا اعرف أنَّّ نفوسكم قد وسوست لكم .

في تلك الليلة لم ينم سيدنا يعقوب كان يفكر في شيء واحد فقط هو : اين يوسف ابنه الطاهر . . ولده الطيب المبارّ ؟ و منذ تلك الليلة بدأ حزن يعقوب الطويل .

لؤلؤة في البئر :

الله سبحانه لم يترك يوسف وحيداً ، هو مع كل الناس الطييبين . . كان يوسف حزيناً و لكن كان صابراً يعرف إن ما حدث هو امتحان له . . لهذا كان ينظر الى السماء و يتمتم بكلمات الحمد .

رأى يوسف في عالم الرؤيا أحد عشر كوكباً و رأى الشمس و القمر رآهم يهبطون الى داخل البئر ، فامتلأ نوراً . . رآهم يبتسمون له و يسجدون احتراماً و اجلالاً . .

واستيقظ يوسف من غفوته . . و تطلّع الى السماء الزرقاء . . رأى سرباً من الطيور البيضاء المهاجرة . . فدمعت عيناه من أجل أبيه .

مرّت ثلاثة ايام و يوسف في داخل البئر . . مثل لؤلؤة في أعماق البحر . . مثل لؤلؤة في أعماق الظلمة لا أحد يعرف إنّ في هذه البئر لؤلؤة ما خلق الله منها . . انها روح يوسف ذلك الفتى الطاهر الجميل . . لا أحد يعرف ذلك إلاّ الله سبحانه .

ثلاثة أيام و يوسف لا يأكل شيئاً . . كان يكتفي بشرب الماء . . يوسف تعوّد الصوم كان يصوم مع أبيه . . فتحمل آلام الجوع بصبر .

من أجل هذا كانت روحه شفافة طاهرة . . مثل اجنحة الطير البيضاء المهاجرة .

القافلة :

مرّت ثلاثة أيام على يوسف و هو في البئر لم يسمع خلالها سوى عواء الذئاب و هي تجوب الفلاة .

وفجأة سمع أصوات غريبة ! أرهف سمعه جيداً نعم انها قافلة تجارية . . عرف ذلك من وقع خطى الجمال و أصوات الرجال .

توقفت القافلة قريباً من البئر . . و أرسل التجار " الوارد " ليستقي من البئر . .

ألقى الرجل دلوه الى اعماق البئر كان يوسف ينتظر هذه اللحظة . . كان الحبل هو حبل نجاته و خلاصه من البئر ، تدفق نبع من الفرح في قلبه ! ان الله لا ينسى عباده فانقذه من هذه البئر المظلمة .

مثل لؤلؤة تخرج من صدفة خرج يوسف من البئر . . مثل قمر يشق طريقه وسط الظلام سطع وجه يوسف و أضاء المكان . .

حتى " الوارد " لم يخف من المفاجأة . . صاح :

يا بشرى هذا غلام . . يا للفرحة . .

تجار القافلة ظنوا أن يوسف عبداً من العبيد الآبقين فرّ فسقط في هذه البئر . .

لهذا لم يسألوه عن قبيلته و أصله و قصّته . . جعلوه ضمن البضائع التي سيبيعونها في مصر .

مصر :

استأنفت القافلة طريقها الى مصر . . و بعد اثني عشر يوماً وصلت مصراً ، و هناك بدأ فصل جديد من قصّة يوسف .

يوسف هو الآن في مصر حيث يخترق نهر النيل تلك الأرض و يهبها الخصب .

يوسف ما يزال حتى الآن صغيراً ألقت به المقادير في تلك الأرض . . أصبح بضاعة يريد التجار بيعها في مصر .

يوسف تعلم الصمت . . و لكن قلبه ملئ بالحب . . بحب الله سبحانه الذي أحسن اليه .

التجار خافوا من سكوته . . خافوا إذا ما تكلم و قال انه ليس عبداً لهم لهذا أرادو بيعه و لو بمبلغ زهيد .

رأى يوسف نفسه في أرض جديدة ، ارض لم يرها من قبل ، رأى نهر النيل القادم من الجنوب . . و رأى فيه الزوارق تنساب فوق مياهه النيلية . . و رأى الفلاحين ينقلون المياه بالدلاء لري حقولهم و مزارعهم .

عرضت القافلة بضائعها من خشب و فضة ، و عرضت أيضاً يوسف ، كان هَمُّ التجار بيعه حتى لو بثمن زهيد . .

في ذلك اليوم جاء العزيز و هو المسؤول الأعلى عن أمن مصر ، و تفقد بنفسه القافلة . .

رجال الحرس يحفون بالعزيز و هو يستعرض البضائع و التجار و وقعت عيناه على يوسف . . تساءل عن ذلك الفتى البهي الوجه . .

قالوا له انه غلام للبيع . .

تساءل عن ثمنه فقالوا : نبيعة بعشرين درهماً فقط .

نقدهم العزيز الثمن و كانوا فرحين . . فباعوه و كانوا فيه من الزاهدين .

 

و هكذا انتقل يوسف الى قصر كبير تحوطه الحدائق ، فهو قصر عزيز مصر الرجل الثاني في الدولة .

دخل يوسف القصر و وقعت عيناه على سيدة حسناء عرف انها زوجة العزيز و صاحبة القصر المنيف .

قال العزيز لزوجته " أكرمي مثواه " انه فتى اتوسّم فيه الخير ربّما ينفعنا " أو نتخذه ولداً " نحن محرومون من الولد فلنتخذ من يوسف ليكون ولدنا .

نظرت " زليخا " الى يوسف . . كان فتى بهي الطلعة مشرق الوجه يشعّ من عينيه الصفا . . لكأنه ملاك هبط من السماء .

في ذلك اليوم اغتسل يوسف في الحمام و ارتدى حلّة جديدة حلّة مصنوعة من خيوط الكتّان كانت أرق من الحرير .

كان المصريون في ذلك الزمن يزرعون الكتان و ينسجون من خيوطه أنواع الثياب و الحلل .

كان يوسف يعيش سيداً في القصر ، و مع ذلك فقانون البلاد يعتبره عبداً للعزيز و زوجته لأنه مِلك لهما .

و هكذا عاش يوسف في واحد من أجمل و أكبر القصور المصرية .

و لكن هل كان يوسف سعيداً بحياته الجديدة ؟ كلاّ .

كان يحنّ الى أبيه و الى تلك البوادي . . هناك يعيش ناعم البال يعبد الله وحده و لا يشرك به شيئاً .

أما هنا فالناس يعبدون الأوثان و يعبدون الملك أيضاً .

ومع ذلك عاش يوسف صابراً مؤمناً بالله و بانبيائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب .

عاش يوسف و كان قلبه يمتلأ كل يوم بالايمان ، و كان الصفاء يشّع من عينيه أكثر فأكثر .

كلُّ الناس أحبّوه . . أحبّوا فيه صفاءه و شهامته و أخلاقه ، و هو أيضاً كان يحبّ الناس يريد لهم الخير . . يساعد الفقير و البائس فاذا رأى فلاحاً متعباً ساعده أو رأى عاملاً عجوزاً هبّ الى إعانته .

هكذا عاش يوسف كان يكبر كل عام و كانت روحه تكبر كل يوم و قلبه يكبر و يكبر ، و يتدفق رحمة و طيبة .

وتمرّ الأعوام حتى إذا بلغ اشدّه و بلغ من العمر ثمانية عشر سنة أضاءت في قلبه الحقيقة . . أصبح يشعر بها أكثر فأكثر ، تضيئ مثل الشمس و النجوم .

كان يوسف مؤمناً بالله . . لا يحبّ أحداً مثل حبّه لله . . لا يخاف من أحد خوفه من الله . . و لا يهاب أحداً غير الله .

 

الامتحان الصعب :

هو الآن في عنفوان الشباب . . يعيش في قصر كبير منيف و لكن ذلك لم يلوّث روحه الطاهرة . . ظلّت نفسه بيضاء مثل أجنحة الحمام الأبيض .

في القصر الكبير بدأت محنة يوسف ، كل الذين يعرفون يوسف كانوا يحبّونه . . و لكن بعض الذين أحبّوه لم يكن حبهم إلاّ محنة ليوسف . .

عاش يوسف في ذلك القصر المنيف و كانت سيّدة القصر إمرأة حسناء يهابها الجميع .

كان اسمها " زليخا " .

" زليخا " أحبّت يوسف ، عشقته . . و لكنها لم تعشق روحه الطاهر عشقت جماله و حسنه .

لهذا أرادت من يوسف أن يكون لها .

اصبح يوسف أمنيتها في الحياة . . لاتفكر ألاّ فيه حتى " شغفها حباً " .

تنظر اليه بحب و عشق و تتحدّث معه بلهجة الأسير الذليل . . تتقرّب اليه .

امّا يوسف فكان يهرب . . انه لا يريد لروحه أن تسقط في وحل الرذيلة . . يريد أن يبقى طاهراً مثل قطرة الندى و أن تبقى روحه شفافة بيضاء مثل اجنحة الحمام .

وهكذا بدأت محنة يوسف . . زليخا تريد منه أن يخون . . يخون العهد مع ربّه و يخون نفسه البيضاء . . و هو يريد منها الوفاء و الطهر و العفاف .

لهذا كان يفرّ منها . . كان يهرب من الخطيئة . . امّا هي فكانت تزداد به تعلّقاً . . و كانت تفكر بوسيلة تخضعه بها .

و ذات يوم خلا القصر إلاّ من زليخا و  يوسف ، كانت زليخا تنتظر مثل هذه الفرصه . . و كان يوسف يقوم ببعض أعماله فاذا به يرى زليخا تغلق أبواب القصر بإحكام . . ثم تهمس به قائلة :

ـ "هيت لك ".

و أدرك يوسف ما تريد فهتف مستنكراً :

ـ " معاذ الله . . انه ربّي أحسن مثواي ".

و لكن زليخا ـ و قد تأجج في نفسها الغرام ـ حاولت إرغامه ، امّا هو فكان يزداد تمنّعاً . . كان يفرّ منها هنا و هناك في أروقة القصر . .

وشيئاً فشيئاً هدأ يوسف لا يدري كيف يتخلّص من هذه المحنة ؟ . امّا هي فتصورت أن يوسف قد رضخ لارادتها . . حانت منها التفاتة الى صنم في القصر . . فشعرت بالخجل من نفسها . .

لهذا القت ملاءة على وجه الصنم . . و رأها يوسف ، قال لها :

ـ ماذا تفعلين ؟!

قالت :

ـ انني أخجل من الهي أن يراني بهذه الحال ! و هنا انتفض يوسف هتف بشدّة :

ـ اتستحين من حجر لا يفقه شيئاً ، و لا أستحي من ربّي و الهي و سيّدي الذي خلقني و أكرمني ؟!

قال يوسف ذلك و فرّ باتجاه الباب ، و لكن زليخا أسرعت خلفه و تشبثت بقميصه فانشق القميص و امسك يوسف بمقبض الباب وفتحه  . . و في هذه اللحظة وجدا السيّد في الباب يريد الدخول .

كانت زليخا في قمّة الهياج و كانت تريد الانتقام من يوسف و تبرئ نفسها فقالت :

ـ { مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.

ولم يكن أمام يوسف إلاّ أن يدافع عن نفسه فقال :

ـ { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } .

و حار العزيز ماذا يفعل ؟! و تساءل في نفسه عن صاحب الحق . .

و كان مع العزيز رجل آخر هو ابن عم زليخا فقال :

أُنظر الى قميص يوسف فان كان مشقوقاً من الصدر فان زليخا مع الحق . . و ان كان القميص مشقوقاً من الظهر فقد صدق يوسف .

و نظر العزيز الى قميص يوسف فرآه مشقوقاً من الظهر ، فأدرك الحقيقة . . التفت الى زوجته . . و قال :

ـ { إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } .

وقال ليوسف :

ـ { أَعْرِضْ عَنْ هَذَا } لا تحدّث به أحداً .

و طلب العزيز من زوجته أن تستغفر قائلاً :

ـ { وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ } .

و انتهى كل شيء . . عادت الحياة الى مجاريها مرّة أخرى . . و لكن زليخا لم تكفّ عن مضايقة يوسف . . راحت تهدّده بالسجن و العذاب اذا لم يستجب لها . . أصبح يوسف كلّ حياتها . . حتى انها ترفض اللقاء بأيّ انسان حتى صديقاتها في المدينة لم يعد يرنها بعد ذلك .

و شاعت القصّة بين النساء . . و تعجبت بعض النسوة من زليخا كيف تحبّ فتاها و تراوده عن نفسه و هي سيّدة البلاد .

الملاك :

سمعت زليخا بما يجري في المدينة انّ نساءها يسخرن منها . . و فكرت أن تفعل شيئاً يسكتهن .

أرسلت زليخا وراء صديقاتها و كُنَّ من عليَّه القوم . .

و ما أسرع أن لبّت النسوه دعوة زليخا فجئن الى قصرها المنيف .

كانت زليخا قد أعدّت لهن وسائد وثيرة . . و جلست النسوة في حضرة زليخا ساكتات . . و جاء الخدم يحملون أطباق الفاكهة . .

و بدأت الأحاديث ، و دعت زليخا صديقاتها الى تناول الفاكهة . .

كل واحدة أخذت سكّيناً لتقشّر الفاكهة . . و كن مستغرقات في احاديثهن حتى نسين لماذا جئن .

و في تلك اللحظات أشارت زليخا الى أحد الخدم و أمرته باستدعاء يوسف حالاً .

و جاء يوسف . . و حدث شيء رهيب . . وقف يوسف أمام زليخا امتثالاً لسيّدة القصر . . كان يرتدي حلّة جميلة . . و أضاء المكان وجهه الجميل الذي يشع صفاءً و إيماناً .

بدا يوسف في تلك اللحظات ملاكاً يشّع بالنور و شدهت النسوة لمنظره . . لم تكن النسوة ليتصوّرن جمالاً بهذا السموّ . .

إن جمال يوسف من النوع الآسر . . و حدث شيء في نفوسهن . .

ذهلن عن انفسهن و رحن يقطعن ايديهن بالسكاكين دون وعي . .

لقد هيمن يوسف على القلوب كان جماله ملائكياً شّفافاً يتدفق صفاءً و نوراً و هتفت النسوة :

ـ { حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } !!

تضاعفت محنة يوسف . . و هو يرى ما حلّ بالنسوة و اصغى لما تقوله زليخا لهن :

ـ { فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ } .

ولم يبق أمام يوسف غير طريقين أن يستجيب لنداء الشيطان . . أو السجن . .

و نظر يوسف الى السماء و قال بخشوع :

ـ { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } .

ان يوسف يفضّل السجن و العذاب على تلك الحياة الملوّثة الفاسدة .

من أجل هذا استغاث بالله في أن ينقذه من شرور الشيطان :

ـ { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ } .

يوسف الذي أضاءت قلبه أنوار السماء لا يمكن أن يُصغي الى وسوسة الشيطان . . حتى لو تعذّب في سبيل ذلك حتى لو أُلقى في السجن .

 

الله سبحانه استجاب دعوة يوسف . . لقد رأى العزيز أن يضع حدّاً للشائعات الكثيرة و أن يلقي يوسف في السجن مدّة من الزمن ريثما تهدأ الأمور .

و هكذا سيق يوسف بلا جريرة و لا ذنب الى السجن ، و رأى السجّان يوسف فتأثر بأخلاقه و صفاته و قال له :

أنا احبّك يا يوسف انك انسان طيب و من الظلم ان يسجنوك .

و تأثر يوسف انه لا يريد حبّاً غير حبّ الله فكم تجرّع الغصص من هذا الحب لهذا قال يوسف للسجّان :

ـ لا تحبني فان عمّتي احبتني فنسبت اليّ السرقة ، و أبي أحبّني فحسدني أُخوتي و ألقوني في الجبّ ، و امرأة العزيز احبتني فألقوني في السجن .

السجن :

يوسف هو الآن في السجن . . الأيام تمرّ و الشهور تمضي و يوسف في السجن يتحمّل كلّ ذلك العذاب من أجل أن يبقى طاهراً .

و تشاء الأقدار أن يدخل السجن رجلان . . كانا من عبيد الملك غضب عليهما فألقاهما في السجن . . و هناك يتعرّفان على يوسف و يتأثران بشخصيته .

و سأل كلٌ صاحبه عن عمله قال أحدهما :

ـ أنا ساقي الملك أُقدّم له الشراب .

و قال الآخر :

ـ و أنا طباخ الملك .

سألا يوسف عن صنعته فقال :

ـ إنني أعبّر الاحلام و أفسرّ الرؤيا . .

و هكذا تمرّ الأيام و كان في السجن أُناس كثيرون . . و كان يوسف يتفقدهم جميعاً و يرفق بهم ، و يتفقد طعامهم و منامهم ، فعُرف بين السجناء بالاحسان و المحبّة للناس .

و ذات ليلة و كان السجناء نائمين جميعاً رأى ساقي الملك حلماً . . رأى نفسه يعصر عنباً ، و رأى طباخ الملك هو الآخر حلماً عجيباً رأى نفسه يحمل خبزاً فوق رأسه و جاءت الطيور فحطّت و راحت تأكل من ذلك الخبز !

في الصباح و عندما استيقظا حدّث كل منهما الآخر بما رأى من حلم .

ولم يعرفا تفسير حلميهما ففكّرا أن يسألا يوسف فقال أحدهما :

ـ { إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا }.

وقال الآخر :

ـ { إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ }.!

ـ { نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } .

الله سبحانه وهب يوسف قدرة عجيبة على تفسير الأحلام إنه يعرف تلك الاشارات و يفكّ رموزها لكأنه ينظر إلى حقائق لا أحلام !

الدعوة الى الله :

إغتنم يوسف هذه الفرصة ليدعوهما الى عبادة الله وحده لا شريك له . . أراد أولاً أن تزداد ثقتهما به فقال :

إنني اعرف حتى نوح الطعام الذي سيأتي به السبحّان اليكما لقد آتاني الله العلم . . لأني تركت عبادة الوثنين و عبدت الله و حده لا شريك له . .

انني أتبع دين آبائي إبراهيم و إسحاق و يعقوب .

انها نعمة أنعم بها الله علينا أهل البيت و على الناس ، و لكنّ اكثر الناس لا يشكرون .

كان الرجلان يصغيان الى كلمات يوسف التي تنفذ في القلب .

قال يوسف :

ـ يا صاحبيّ . . أيهما أفضل أن نعبد آلهة شتّى لا علاقة لأحد بالآخر و لا حول لها و لا قوّة أم نعبد الله الواحد القهّار ؟!

الله وحده هو الاله و باقي الأشياء التي تعبدونها مجرّد أسماء و تماثيل لا قيمة لها و لا سلطان . . القوّة وحدها لله سبحانه . إن ديني هو دين التوحيد الخالص . .

سكت يوسف لحظات ثم قال :

ـ يا صاحبي ! إنّ احدكما يعود الى عمله فيعصر العنب للملك و يسقيه . . و أما الآخر فانه سيصلب . . وسيترك على الصليب حتى تأكل الطير من رأسه .

شعر الرجل الذي رأى الطيور تأكل الخبز فوق رأسه بالخوف و قال :

ـ انني لم ار شيئاً لقد كذبت عليك .

اجاب يوسف :

ـ { قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ }.

والتفت يوسف الى ساقي الملك و قال له :

ـ { اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ }.

و في اليوم التالي جاء السجّان و أخرج الرجلين من السجن . .

ذهب الساقي الى الملك و عاد الى عمله . . امّا الطباخ فقد نفذّ فيه حكم الاعدام صلباً و ترك على الصليب .

 

كان ساقي الملك قد وعد يوسف بانه سيذكره عند الملك سيقول أنه مظلوم . . و أنّه سجن دون ذنب . .

ولكن الساقي نسي وعده . . لهذا ظلّ يوسف في السجن عدّة سنوات تحمّلها يوسف بصبر و ايمان بان الله لن ينساه أبداً .

 

رؤيا الملك :

ذات ليلة و عندما أوى الملك الى فراشه رأى في عالم المنام رؤيا عجيبة .

رأى سبع بقرات سمان جميلة المنظر يمرحن في العشب الاخضر على شاطئ النهر . . فجاة ظهرت سبع بقرات هزيلات قبيحات المنظر . . تقدمن نحو البقرات السمان و افترسنها جميعاً .

هبّ من نومه مذعوراً و جفف عرقه ثم نام فرأى حلماً آخر . . رأى سبع سنابل خضراء اللون زاهية ممتلئة بالحبّ ، و رأى الى جانبها سبع سنابل يابسة فارغة . . السنابل اليابسة ابتلعت السنابل الخضراء الجميلة . .

مرّة أخرى هبّ الملك من نومه و أقلقته الرؤيا . . فأرسل و راء رجال دولته و عقد معهم إجتماعاً .

تحدّث الملك عن رؤياه العجيبة . . حدّثهم عن البقرات العجاف التي طلعت من الشاطئ و ابتعلت البقرات السمان . . و حدّثهم عن السنابل الخضراء التي ابتلعتها السنابل العجاف . .

و فكّر رجال الدولة في رؤيا الملك . . و لكن دون جدوى .

الساقي كان يملأ أقداح الخمر . .

كل رجال الدولة قالوا : إنّها أضغاث أحلام . . إنّها مجرد أحلام لا معنى لها . .

و عندما رأوا الملك مهموماً قالوا :

ـ ما نحن بتفسير الاحلام بعالمين . .

فجأة و في تلك اللحظات . . و بينما كان الملك يبحث عن تفسير لرؤياه هتف الساقي :

ـ { أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ }.

الملك تعجب من الساقي ، و لكن الساقي أخبر الملك بما حدث له قبل سنوات يوم كان في السجن و رأى مع صاحبه الخبّاز تلك الرؤيا . . يوسف هو الذي فسّر لهما الرؤيا . . فجاء تفسيره صادقاً ينبئ بالحقيقة .

الملك أرسل الساقي الى يوسف . .

الآزمة الاقتصادية :

جاء الساقي الى السجن و دخل على يوسف و قال له :

يوسف ايها الصدّيق ! أفتنا في رؤيا الملك . . انه يرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ، و سبع سنبلات خضر و أُخر يابسات . . ما هو يا ترى تفسيرها أخبرني يا يوسف ؟! لكي أعود فأخبر الملك و رجال الدولة . .سيعلمون منزلتك و صدقك .

و رأى يوسف الحقائق واضحة لقد آتاه الله تأويل الرؤى و الأحلام الصادقة . . لهذا قال يوسف و هو يحذّرهم من الأزمة الاقتصادية القادمة !

ـ { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ }.

و انطلق الساقي يحمل الى الملك و رجال دولته كلمات يوسف الصدّيق .

وقف الساقي أمام الملك و أخبره بكل التفاصيل .

فوجيء الملك و قال في نفسه :

ـ معنى هذا ان النيل سيفيض بالمياه سبع سنوات قادمة ثم تكفّ السماء عن المطر سبع سنوات أخرى ، فينتشر القحط و الجفاف و الجماعة و ينخفض منسوب المياه في النيل .

 

و لكن يوسف لم يفسّر الرؤيا فقط بل وضع خطّة لتجاوز الأزمة الاقتصادية ، قال لهم : ازرعوا خلال السنوات السبع الأولى باستمرار و اجتهدوا في عملكم . . و أجمعوا الحصاد في مخازن خاصّة ، و اقتصدوا في الطعام .

حتى إذا جاءت سنوات الجفاف تكون المخازن ممتلئة بسنابل القمح . . و سيكفي المخزون في إطعام أهل مصر .

و عندما تنتهي سنوات القحط يأتي عام جديد مواسمه مليئة بالخير و المطر .

أدرك الملك انه يملك كنزاً كبيراً اسمه يوسف . . يوسف الذي يعاني السجن منذ سنين طويلة .

لهذا أصدر أمراً بالافراج عنه و قال :

ـ ائتوني به .

و جاء ساقي الملك الى السجن للافراج عن يوسف . .

هل فرح يوسف بالحرّية ؟ كلاّ لقد رفض الخروج من السجن و قال :

ارجع الى الملك و اسأله عن النسوة اللاتي قطّعن ايديهين . . ان ربّي بكيدهنّ عليم .

عاد الساقي الى الملك و أخبره بموقف يوسف قال له :

ـ ان يوسف لا يخرج من السجن حتى تثبت براءته . . يقول : ليسأل الملك النساء لماذا قطّعن أيديهن ؟! و أنّ العزيز يعرف انني برئ .

استدعى الملك النسوة و كانت معهن إمرأة العزيز نفسها . .

و سألهن الملك قائلاً :

ـ ما خطبتكن إذا راودتن يوسف عن نفسه ؟!

أجابت النسوة جميعاً وهنَّ يعترفن ببراءة يوسف من جميع التهم الباطلة :

ـ حاش لله ما علمنا عليه من سوء . . انه برئ من كل ما نسب اليه . . انه طاهر . . مثل قطرات الندى .

و ظهرت براءة يوسف ، و اعترفت امرأة العزيز قائلة :

ـ لقد ظهرت الحقيقة . . انا التي راودته عن نفسه . انه صادق في كل ما يقول . .

الملك أُعجب بنزاهة يوسف . . بأمانته بعلمه و حلمه و صبره و بكل صفاته . . لهذا قال :

ـ ائتوني به استخلصه لنفسي .

 

ظهرت براءة يوسف . . مثلما تظهر الشمس . . و أفرج عنه ليخرج من السجن . . كما تخرج اللؤلؤة من أعماق بحار مظلمة .

دخل يوسف على الملك . . تحدّثا معاً . . ازداد اعجاب الملك به . . انه يقف أمام انسان عالم . . في قلبه روح كبيرة . . و في صدره علوم كثيرة .

الملك قال ليوسف :

ـ انك اليوم لدينا مكين أمين .

لقد أصبح يوسف شخصية كبيرة في البلاد . . و لكن يوسف لم يفكر إلاّ في شيء واحد هو أن ينقذ مصر من الكارثة الإقتصادية القادمة ، لهذا قال :

ـ اجعلني على خزائن الأرض انّي حفيظ عليم .

كان يريد أن ينظم شؤون الزراعة و الري و خزن المحاصيل استعداداً لسنوات الجفاف و القحط .

و وافق الملك على الفور . . فأصبح يوسف سيّد مصر كلّها ، لقد صبر يوسف . . صبر على كل شيء . . كان مؤمناً بالله فظلّ قلبه طاهراً يملأه الايمان . . الله سبحانه شمله برحمته فانقذه من البئر و من الانحراف و من السجن ، ثم جعله سيّداً لبلاد كبيرة هي مصر .

الزراعة :

مصر هي هبة النيل . . الناس في قديم الزمان ، و قبل آلاف السنين يرتادون نهر النيل لري حقولهم و مزارعهم بطريقة بدائية . . جاء يوسف الصديق ( عليه السلام ) الى الحكم فنشطت حركة الزراعة ، و أدخل تحسينات على طريقة الري . .

كانوا يعتمدون الدلاء في ري الحقول . . فجاء يوسف ( عليه السلام ) و استخدم طريقة الأحواض على الشاطئ ، فعندما يفيض النيل تمتلئ الأحواض دون جهد من الفلاحين . . و تبقى مليئة بالمياه . . و من الأحواض تتفرع القنوات لتسقي الحقول و المزارع . فازدهرت الزراعة و ازداد الانتاج .

و أمر سيدنا يوسف ( عليه السلام ) ببناء مخازن للحبوب . . فكان يدّخر المحاصيل إلاّ ما يكفي حاجة الناس في غذائهم اليومي .

سبعة أعوام و هم يزرعون و يحصدون و يخزِّنون الحبوب ، لقد كانت تلك السنوات مليئة بالخير و البركة و النماء .

 

السنوات العجاف :

بدأت سنوات الجفاف . . انقطع المطر ذلك العام . . النيل لم يفض كعادته كل عام . . ذبلت الزروع . . و أقفرت الحقول . . و جاء العام التالي . . انحسرت مياه النيل أكثر و قلّ منسوب الماء في النهر . . و ساد القحط في مصر و البلدان المجاورة .

أهل مصر أحبّوا يوسف أكثر لأنه انقذهم من سنوات الجوع و القحط و الجفاف . . المخازن مليئة بالحبوب ، و يوسف الانسان الطيب المحسن كان يطعم الجياع و يوزّع الحبوب بالعدل .

مصر نجت من الكارثة الاقتصادية بفضل يوسف . . و يوسف لا ينكر ان ذلك كان من فضل الله .

الجفاف لم يضرب بلاد مصر وحدها . . بل مناطق واسعة من الأرض . .

لهذا كانت القوافل تأتي من كل مكان للتزوّد بالقمح ، و كان يوسف عزيز مصر لا يردّ من يأتي الى مصر خائباً .

كل القوافل كانت تغادر مصر و هي تحمل معها القمح و الغذاء و قد امتلأت نفوس الناس اعجاباً بعزيز مصر الذي كان يعاملهم كأخوة له و كان يملأ أوعيتهم فيعودوا الى أهليهم و ديارهم وافرين .

أصبحت مصر في ظل يوسف عزيز مصر الجديد بلداً مليئاً بالخير ، و كانت القوافل تأتي من أصقاع بعيدة . . و كان يوسف يستقبل الوافدين بطيبة و محبّة . . لم يستغل منصبه و لم يستغل قدرته ، كان متواضعاً . . يستقبل الناس . . يتبسم في وجوههم و يوفر سكناً مناسباً للوافدين من الديار البعيدة .

قافلة من فلسطين :

و ذات يوم وصلت قافلة من أرض فلسطين ، كان فيها عشرة أخوة . . هم أيضاً جاءوا ليشتروا القمح لم يكونوا بملكون شيئاً سوى دراهم من فضة . .

جاء الإخوة العشرة و دخلوا على عزيز مصر . .

وقف الاخوة العشرة . . أمام العزيز و انحنوا له باجلال . .

نهض يوسف و راح ينظر اليهم و ردّ على تحيتهم باحسن منها .

وعرفهم يوسف . . عرفهم جميعاً انهم أخوته العشرة . . اخوته الذين حسدوه . . و أرادوا أن يقتلوه . . أخوته الذين دفعوا به الى أعماق البئر في تلك البوادي المقفرة حيث طرق القوافل .

نعم انهم أخوته شمعون ، راوبين ، لاوي . . عرفهم بعد عشرين سنة . .

ترى ماذا فعل يوسف في تلك اللحظات . . انهم لم يعرفوه . . بعد تلك السنين تغيّر يوسف هو الآن في الثلاثين من عمره . . لقد أخذوا قميصه و دفعوه في أعماق الجبّ . . و لكن الله لا ينسى عباده المخلصين . . هو الآن عزيز مصر . . يرتدي حلّة الملك و حوله الحرس و الجنود ، و في يديه مفاتيح مخازن مليئة بالقمح .

ترى ماذا يفعل يوسف . . هل يطردهم . . هل ينتقم منهم ؟ .

كلاّ ! لماذا لم يفعل ذلك و قد أرادوا قتله ؟! لأن قلب يوسف مفعم بالايمان ليس فيه سوى الحبّ و ليس فيه سوى الخير . .

و كان يوسف نبياً معلّماً للناس و هادياً الى الله . .

يوسف رحَّب بهم أنزلهم في دار الاستراحة . . و هم احبّوا هذا العزيز الطيّب الذي لم يرفض بضاعتهم مقابل القمح .

ملأ جميع أوعيتهم . . تحدّث معهم بودّ سألهم عن بلادهم . . و كم عددهم . . قالوا له كل شيء قالوا له : انّ يعقوب من ذرّية ابراهيم . . قالوا له : اننا اثنا عشر أخاً . . مات أحدنا و هو يوسف . . أكله الذئب ! و سألهم : و أين أخوكم الآخر ؟

قالوا :

ـ لم يرسله أبونا معنا .

لماذا ؟

ـ لأنه أرسل معنا شقيقه يوسف فأكله الذئب . . لهذا لم يرسل معنا بنيامين ، هو يخاف عليه ما خافه على يوسف من قبل .

يوسف رحَّب باخوته و لكن لم يكشف لهم عن هوّيته لم يقل لهم شيئاً عن نفسه . .

كان يسألهم عن أرضهم و بلادهم ، و هم أيضاً أخبروه بحزن أبيهم يعقوب . . حدّثوه عن بكائه و حزنه و كيف فقد بصره ، و أبيضّت عيناه . . حدّثوه عن حبّه ليوسف الذي أكله الذئب قبل عشرين سنة . .

أمر يوسف العمّال بأن يملأوا أوعيتهم بالقمح ، أما هو فذهب الى مكان بين الاشجار و راح يبكي . . يبكي على والديه و على بنيامين لقد هزّه الشوق اليهم .

 

العودة :

ذهب يوسف ليشرف على تجهيز القافلة ، و أمر الموظّف الذي يقبض أثمان القمح بوضع الفضة التي أخذها من إخوته في رحالهم دون أن يشعروا بذلك .

يوسف أدرك ان حالتهم المعيشية ليست طيّبة لهذا أعاد أموالهم و لم يخبرهم بذلك .

جاء اليهم ليودّعهم قال لهم :

ـ هل انتم راضون عن الكيل . .

ـ أجل لقد أحسنت الينا ايها العزيز .

ـ في المرّة القادمة و اذا ما جئتم الى مصر فائتوني بأخيكم سنضيف اليكم سهماً آخر في الكيل . . و اذا لم تفعلوا فلا تاتوا الى هنا أبداً .

قال أحدهم :

ـ سنراود عنه أباه . . سنقول له ذلك . . سنُلِحّ عليه حتى يوافق على إرساله .

و هكذا عادت القافة الى أرض الخليل . . الاخوة حدّثوا أباهم بما جرى لهم . . قالوا لقد منع عنّا الكيل اذا لم نأخذ أخانا بنيامين معنا . . هكذا قال عزيز مصر .

قال يعقوب ( عليه السلام ) :

ـ هل آمنكم عليه إلاّ كما أمنتكم على اخيه من قبل فالله خير حافظاً و هو ارحم الراحمين ؟!

بكى يعقوب . . تذكّر يوسف الذي اختفى منذ عشرين سنة . و عندما ذهبوا ليفتحوا متاعهم و جدوا فضّتهم التي اشتروا بها القمح قد اعيدت اليهم . . فرحوا جدّاً و عادوا الى أبيهم يبشرونه :

ـ يا أبانا هل نطلب أكثر من هذا ؟! لقد اعيدت إلينا أموالنا مع القمح . . فارسل معنا أخانا من أجل ان نمير أهلنا و نحفظ أخانا و نزداد كيل بعير .

قال يعقوب :

ـ لن أرسله معكم حتى تعطوني ميثاقاً على إعادته . إلاّ اذا أُحيط بكم .

أعطى الاخوة ميثاقهم في المحافظة على بنيامين من كل مكروه .

هواجس يعقوب :

عندما تجهّزت القافلة و جاء ابناء يعقوب لتوديع أبيهم قال لهم الأب :

ـ يا ابنائي لا تدخلوا مصر من باب واحد و ادخلوها من أبواب متفرقة . . أخشى عليكم من الحسد . . و لكن هذا لا يغني شيئاً عنكم أمام مشيئة الله سبحانه . .

كان يعقوب ( عليه السلام ) يخاف على ابنائه الحسد . . كان يشعر أن حادثاً ما سيقع لهم و سيفرّق جمعهم . . لهذا أراد أن يدفع عنهم شرّ الحسد . . و لكن مشيئة الله هي الحاكمة لهذا قال يعقوب ( عليه السلام ) :

ـ { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ }.

و هكذا انطلقت القافلة تطوي الصحراء الى مصر . . و تمرّ الايام و بعد اثني عشر يوماً وصلت القافلة قريباً من أرض مصر . .

 

و هناك افترق الاخوة كل اثنين دخلوا مصر على حدة ، كانوا أحد عشر أخاً . . من الذي ظلّ وحيداً ؟ بنيامين ظلّ وحيداً دخل مصر لوحده . . لهذا كان حزيناً جداً . .

و عندما دخلوا على عزيز مصر لشراء القمح دخلوا أيضاً إثنين إثنين ، و أخيراً دخل بنيامين على العزيز كانت لحظات مثيرة فبعد عشرين سنة وقعت عينا يوسف على شقيقه بنيامين . . كان قد تركه طفلاً و ها هو الآن قد أصبح شاباً . . و لكن ما باله حزيناً . . تساءل يوسف في نفسه . . قال يوسف لبنيامين :

ما هذا الحزن الذي أراه على وجهك ؟! هل وقع لك مكروه ؟

قال بنيامين :

ـ كلاّ ايها العزيز و لكن تذكرت أخي يوسف . . لو كان حيّاً لجاء معي و لم أبق وحيداً . .

سأل يوسف :

ـ وماذا حصل ليوسف ؟

ـ ذهب مع أخوتي الى الصحراء و لم يرجع . . كان ذلك قبل عشرين سنة . . قالوا انَّ الذئب أكل يوسف . . و منذ ذلك اليوم لم أر سوى قميصه المدمّى . .

أبي لم يصدّقهم . . ما يزال حتى اليوم يبكي على يوسف آه يا يوسف . . ما أطيبه و أطهره .

قال يوسف :

ـ لا تحزن يا بنيامين انا أخوك تعال لنتناول الغداء . .

جلس يوسف على سرير الملك و أجلس بنيامين الى جانبه و راح يتحدث معه ليطيّب خاطره .

الحقيقة :

أحبّ بنيامين عزيز مصر . . و لكن لا يدري سبباً لهذا الحبّ . . رآه يتدفق طيبة و رحمة و إحساناً . .

قال يوسف لبنيامين :

ـ لو رأيت أخاك اليوم فهل ستعرفه .

ـ ربّما . . ان ملامحه لا تغيب عن بالي .

أراد يوسف أن يدخل في قلب أخيه الفرح فقال :

ـ اسمع يا بنيامين جيّداً ان اخوتك هؤلاء حسدوا أخاك فأخذوه إلى الصحراء و القوه في البئر . . ان يوسف ما يزال حياً . . صبر و تحمل و الله لا يضيع أجر الصابرين . . إنّي أنا أخوك حقاً . . لقد منّ الله علي و حعلني عزيزاً في مصر . .

لم يتحمّل بنيامين ، فَرَكَ عينيه كان مثل النائم فانتبه و القى نفسه على صدر اخيه يشمّه و يبكي . . و بكى يوسف . .

قال لأخيه :

ـ لا تخبر أخوتك . . سوف أعمل على بقائك في مصر . . سأصنع شيئاً ، فلا تحزن بسبب ذلك .

الخطة :

جاء الأخوة يسألون عن بنيامين . . قالوا للعزيز إن أبانا أوصانا بالحفاظ عليه و أخذ علينا الميثاق .

أمر يوسف فتيانه أن يجهزوا القافلة و يملؤا أوعيتها بالقمح . . و جاء يوسف ليشرف على سير العمل . . كان العمّال مشغولين و كان الأخوة يتفقدون جمالهم .

اقترب يوسف من بعير اخيه بنيامين و وضع كأساً فضياً ثمنياً في رحله . . و أهال عليه القمح . .

كان ما صنعه يوسف خطّة من أجل أن يحتفظ بأخيه بنيامين في مصر . .

تحرّكت القافلة لتغادر مصر عائدة الى أرض فلسطين . .

من بعيد سمع الاخوة نداءً يهتف بهم :

ـ توقفوا انكم سارقون . .

 

فوجئ الأخوة جميعاً باستثناء بنيامين الذي كان يعرف ما يجري ، جاء الأخوة الى الحارس المصري قالوا له :

ـ ماذا تفقدون ؟

قال الحارس :

ـ نفقد صواع الملك الذي يشرب به . . و لمن جاء به حمل بعير .

أقسم الأخوة انهم لم يسرقوا شيئاً و قالوا :

ـ تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض ، لقد جئنا نشتري القمح لأهلنا .

قال الحارس :

ـ سنفتش أمتعتكم و اذا ظهر كذبكم فما هي عقوبة السارق عندكم ؟

قال الأخوة :

ـ عقوبته ان يصبح عبداً لمن سرق منه . .

ـ حسناً سنفتش أوعيتكم جميعاً .

جاء يوسف و راح يفتش بنفسه أوعية القافلة . . بدأ بأوعيتهم ثم جاء الى وعاء بنيامين . . و وضع يده في وعاء القمح و استخرج الصواع منه .

دهش الاخوة جميعاً أما بنيامين فقد وقف ينظر بحزن و صمت .

قال يوسف :

ـ والآن ما هو رأيكم ؟!

قال الأخوة و هم ينظرون بغيظ الى بنيامين :

ـ إنّ سرق فقد سرق أخ له من قبل .

شَعَر يوسف بالحزن ، إنّ اخوته ما يزالون يحسدونه و يحسدون أخاه و يكرهونهما ، و لكنّه خاطبهم قائلاً :

ـ أنتم شرّ مكاناً و الله أعلم بما تصفون .

جاء الأخ الأكبر و توسل الى العزيز قائلاً :

ـ ان له أب و هو شيخ كبير و قد أخذ علينا الميثاق أن نعيده إليه سالما . . فخذ أحدنا مكانه ليكون عبداً .

قال يوسف :

ـ معاذا الله ان نأخذ إلاّ من وجدنا متاعنا عنده . . إنّا اذاً لظالمون .

عندما شعروا باليأس اجتمع الأخوة فيما بينهم و راحوا يتشاورون . . ماذا يفعلون ؟ و كيف يعودون الى أبيهم ؟

ـ ماذا نفعل الآن ؟

ان أبانا قد أخذ علينا الميثاق .

وماذا نفعل ؟ نقول له الحقيقة . .

نعم نقول له ان بنيامين قد سرق و قد استعبدوه عقوبة له على سرقته صواع الملك .

قال الأخ الأكبر :

ـ كيف نعود إلى أبينا دون بنيامين ؟ و الميثاق الذي أخذه علينا أن نعيده سالماً . . هل نسيتم ما فعلتم بيوسف من قبل . لم نرحم شيخوخة أبانا . . لا . . لا لن أعود الى ابي ، سأبقى في مصر حتى يأذن لي ابي . . أمّا أنتم فعودوا . . قولوا لأبيكم : يا أبانا ان ابنك سرق . . إننا لا نعلم الغيب . . لا نعلم ان بنيامين سيسرق !

سكت الأخوة . . كانوا احد عشر أخاً . . بنيامين أخذه العزيز . . و الأخ الأكبر ظل في مصر . . لا يريد أن يقابل أباه مرّة أخرى و قد أخلّ بالميثاق . .

الاخوة التسعة عادوا الى فلسطين . . عادوا ليخبروا أباهم بما حصل . . كان سيدنا يعقوب يخاف عليهم من الحسد . لهذا أمرهم أن يدخلوا مصر من أبواب متفرقة . . كان يريد لهم أن يدخلوا متفرقين ليعودوا باجمعهم . . لقد عاد تسعة منهم و معهم نبأ آخر حزين .

جاء الاخوة التسعة الى سيدنا يعقوب و قالوا له :

ـ يا أبانا ان ابنك سرق . . و ما شهدنا إلاّ بما علمنا .

سكت سيدنا يعقوب . . شعر الأخوة أن أباهم لم يصدقهم فقالوا :

ـ إذا لم تصدّقنا فأسأل القوافل و الناس الذين كانوا معنا في مصر . . و اننا لصادقون .

 

أمسك سيدنا يعقوب بعصاه و نهض قائلاً :

ـ بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل . . سأصبر مرّة اخرى ربّما يعيدهم الله اليَّ جميعاً . .

لكن سيدنا يعقوب تألم بسبب ما حصل . . تذكر يوسف الذي اختفى منذ عشرين سنة .

لقد أدرك بأن ما حدث مرتبط بما حصل ليوسف لهذا قال :

ـ يا أسفى على يوسف .

قال الأخوة التسعة :

ـ انك لا تترك ذكر يوسف . . لسوف تموت من كثرة حزنك و بكائك على يوسف .

قال سيدنا يعقوب :

ـ إنني اشكو حزني الى الله . . و أعلم من الله ما لا تعلمون .

سكت قليلاً و قال لابنائه :

ـ أذهبوا يا أولادي . . أذهبوا و أبحثوا عن يوسف و أخيه لا تشعروا باليأس . . لأنّ الكفار هم وحدهم الذين يشعرون باليأس و القنوط .

أنا يوسف :

نفد القمح ، و شاع الحزن في بيت سيدنا يعقوب لقد فقد أولاده الثلاثة يوسف و بنيامين و أخاهم الاكبر .

من أجل هذا أمر سيدنا يعقوب أولاده أن يذهبوا ليمتاروا الطعام و يبحثوا عن يوسف و أخيه .

و شدّ الأخوة الرحال الى مصر و للمرّة الثالثة . . لم يكن معهم من الفضّة إلاّ القليل و لكنهم ذهبوا ليجيئوا بأخيهم بنيامين .

عندما وصلوا مصر لم يكرمهم أحد بسبب ما حدث في الرحلة السابقة . . لهذا ذهبوا الى عزيز مصر الذي أخذ بنيامين . . ذهبوا إليه ليتحدّثوا معه برقّة فلعلّه يبيع لهم بهذه الفضة قمحاً و لعلّ هذا العزيز الطيب يطلق سراح بنيامين .

دخل الأخوة على عزيز مصر و قالوا له :

ـ يا أيّها العزيز مسّنا و أهلنا الضرّ و جئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل و تصدّق علينا إنّ الله يجزي المتصدّقين .

شيء عجيب لفت نظر الأخوة ! ان بنيامين يجلس مع العزيز و يرتدي حلّة من الكتان فاخرة . .

و في تلك اللحظات المثيرة قال يوسف و هو يفيض رحمة لهم :

ـ هل علمتم ما فعلتم بيوسف و أخيه إذ أنتم جاهلون ؟!

لقد نسي يوسف كل الآلام التي سببها أخوته له و لأبيه . . نسي كل تلك المعاناة الطويلة أراد أن يقول لهم فقط ان جهلكم قد أوصلني الى هذه المكانة لأن الله قد اختارني و منّ عليّ و كافأني على صبري و إيماني .

و في تلك اللحظة استيقظ الاخوة على حقيقة كبرى . . إنّ هذا العزيز الذي يلتفّ حوله الحرّاس و الجنود و صاحب الكلمة الأولى في مصر !! هو يوسف . . يوسف أخوهم الذي تامروا عليه . . يوسف الطيّب الطاهر الذي كافأهم على الأساءة إحساناً و ملأ لهم أوعيتهم قمحاً و أعاد اليهم فضّتهم و أموالهم . .

هتف الأخوة بدهشة :

ـ إنك لأنت يوسف ؟!

اجاب يوسف و عيناه تفيضان الدمع خشوعاً لله ربِّ العالمين :

ـ نعم { أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }.

و اكتشف الإخوة الحقيقة بعد عشرين سنة من التيه و الضلال فقالوا لاخيهم يوسف :

ـ { تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ } .

و ابتسم لهم يوسف . . انهم أخوته أضلهم الشيطان في لحظة حسد و عادوا الى الطريق !

{ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }.

أراد يوسف ذلك الفتى الشهم الذي غض نظره عن كلِّ الاساءات أراد أن يضع حدّاً لآلام أبيه . .

قبل عشرين سنة أخذ أخوته قميصه و لطّخوه بدم كذب . .

وأخذوه الى أبيهم و قالوا له : يا أبانا ان الذئب قد أكل يوسف ! أراد يوسف أن يمسح هذه الكذبة من ذاكرتهم لهذا خلع قميصه الكتاني و قال لهم :

 

ـ { اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ }.

كلّ الأخوة راحوا يشمّون قميص يوسف و يبكون . . يبكون فرحاً و ندماً . . فرحاً باخيهم الذي أصبح الرجل الأول في مصر ، و ندماً على ما فعلوه قبل عشرين سنة . .

من أجل هذا انحنوا إجلالاً لعزيز مصر لهذا الانسان الطاهر و غادروا القصر على عجل . .

كانوا يريدون العودة الى أبيهم بأقصى سرعة ليدخلوا الفرحة على قلبه الحزين . . و هكذا انطلقت القافلة تطوي الصحاري . . لم تكن هذه القافلة تحمل قمحاً ، انها تحمل قميص يوسف و الفرحة الكبرى .

نهاية الألم :

كان سيدنا يعقوب . . يخرج الى طريق القوافل كل يوم و ينتظر عودة ابنائه . .

و في أصيل أحد الأيام و فيما كانت الشمس تهبط للمغيب في الصحراء . . شمّ سيدنا يعقوب نسائم طيّبة . . فيها رائحة يوسف . . قال لبعض أولاده الذين لم يذهبوا في تلك الرحلة الى مصر :

ـ { إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ }!

قال ابناؤه :

ـ { تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ } .

قالوا لأبيهم أنت ما تزال على ضلالك القديم في حبّك ليوسف و أخيه أكثر منّا !!

و في تلك اللحظات شاهد الجميع جملاً يتجه نحوهم بسرعة و كان الرجل الذي يلّوح بقميص من بعيد . . ما هي إلاّ لحظات و إذا بأحد ابنائه قد سبق القافلة و جاء ليزفّ بشرى العثور على يوسف . .

إنّ يوسف لم ياكله الذئب و لم يمت طوال العشرين سنة الماضية .

و ألقى البشير قميص يوسف على وجه يعقوب . . فحدث شيء عجيب ! لقد عاد النور الى عيني يعقوب فرأى الدنيا مضيئة جميلة بعد أن كانت سوداء حزينة .

من أجل هذا دمعت عيناه فرحاً و قال لابنائه :

ـ { أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ؟!

أولاده أطرقوا برؤوسهم خجلاً و حزناً و قالوا :

ـ { يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } .

قال الأب الذي عاد اليه بصره برحمة من الله :

 

ـ { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }.

قال يعقوب ذلك لأنه يريد أن يؤجل دعاءه الى وقت السحر من أجل ان يستجيب الله و يغفر لابنائه ما فعلوه من قبل .

شعر سيدنا يعقوب انه يستعيد شبابه من جديد ، كانت الفرحة تضيء قلبه و عينيه .

اخبر زوجته أم يوسف بالبشرى و عمّت الفرحة .

أمر سيدنا يعقوب ( عليه السلام ) أن يتجهز الجميع للرحيل الى مصر ليعيشوا في بلاد مصر و في ظلال حاكمها العادل و الطيب و الصدّيق يوسف ( عليه السلام ) .

و تحققت رؤيا يوسف :

قبل عشرين سنة كان يوسف قد رأى حلماً عجيباً رأى الشمس و القمر و أحد عشر كوكباً رآهم جميعاً يسجدون له إجلالاً . . و تعجّب يوسف وقتها . . ثم وقعت الحوادث بعد ذلك . . ليجد نفسه بعيداً عن أهله و إخوته في أرض بعيدة . .

لقد مرّت عشرون سنة و ها هو الآن يحكم مصر و ينتظر قدوم أبويه من البادية الى هذه البلاد الجميلة المليئة بالخير .

أمر يوسف بضرب خيمة كبيرة جداً في الصحراء من أجل أن يستقبل أبويه و أخوته . .

و كان الجنود يراقبون طريق القوافل منتظرين قدوم قافلة من أرض فلسطين فيها أسرة عزيز مصر ، التي تعيش في البادية !

و ذات صباح رأى الجنود القافلة . . إنها قافلة يعقوب ( عليه السلام ) و  زوجته و أبنائه .

و انطلق فارس الى مصر يبشّر يوسف بقدوم أبويه و أخوته .

الشمس و القمر و الكواكب :

أُستقبل سيدنا يعقوب باحترام عميق و أدخل و من معه الخيمة الكبيرة ريثما يصل عزيز مصر .

كان سيدنا يعقوب ينتظر بشوق لقاء ابنه يوسف بعد عشرين سنة من الفراق و العذاب و البكاء !

و جاء يوسف في مركبة تجرّها خيول سريعة . . كانت الخيول تطوي الأرض بسرعة فائقة . . كأنها كانت تدرك شوق يوسف الى لقاء أبويه . .

 

و وصل يوسف . . ليدخل الخيمة . . كان يرتدي حلّة العزّة و قد سطع النور من وجه المضيء . . و نهض الجميع احتراماً لعزيز مصر . . ثم لينحنوا اجلالاً لعزيز مصر و في تلك اللحظة توهجت رؤيا يوسف التي رآها قبل عشرين سنة . . عندما رأى الشمس و القمر و أحد عشر كوكباً يسجدون له . .

ها هو الآن يرى أباه و أمه و أخوته الأحد عشر ينحنون له باجلال .

و عانق يوسف والديه ، و أخذ بايديهما ليرفعها الى سرير الملك و العزّة . .

وقال يوسف لأبيه :

ـ { يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }.

و رفع يوسف يديه الى السماء شاكر الله على نعمه :

ـ { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}.

ما أطيبك يا يوسف ما أطهرك ايها الفتى المؤمن .

 

لقد تناسى يوسف كل الآلام و المعاناة و على مدى عشرين سنة و استقبل أخوته بحب و قال : أن الشيطان هو الذي نزغ بينه و بينهم !

وهنا تكمن عظمة يوسف . . في تلك النفس الطاهرة و في ذلك القلب الطيب .

و هكذا عاش سيدنا يعقوب و أبناؤه في مصر بلد الخيرات و في ظلال حاكم عادل . . انعش البلاد و انقذها من اكبر أزمة اقتصادية آنذاك .

عاش سيدنا يعقوب و تكاثرت ذرّيته ليعرفوا فيما بعد بـ " بني اسرائيل ".

و سوف نعرف بعد ذلك أين دفن سيدنا يوسف و كيف نُقِل رفاته الى فلسطين . . عندما نطالع معاً " و انطلق البحر " قصّة سيدنا موسى ( عليه السلام ) .

 

 

 

 

 

 

القرآن الكريم - سيرة أهل البيت ع - المجالس - اللطميات - فيديو - فلاشات - ثيمات - ويفات

موقع يا زهراء سلام الله عليها لكل محبي الزهراء سلام الله عليها فلا تبخلوا علينا بآرائكم ومساهماتكم وترشيحكم كي يعلو اسمها سلام الله عليها ونعلو معها